المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حياة زينب ع 1


الشيخ عباس محمد
02-08-2015, 11:14 PM
النسب الوضّاح

ليس في دنيا الإسلام وغيره نسب أرفع ولا أسمى من نسب السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ؛ فقد تفرّعت من دوحة النبوّة والإمامة ، والتقت بها جميع أواصر الشرف والكرامة ، فهي فرع زاكٍ من رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ومن الإمام علي (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وهما من أفضل ما خلق الله من بني الإنسان ، فتبارك هذا النسب الوضّاح , وتعالت تلك الاُسرة الكريمة التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين ، وجعلها مصدر الوعي والإلهام للمسلمين على امتداد التأريخ .
إنّ الاُسرة العلوية هي أسمى اُسرة عرفها التأريخ بجهادها ونضالها , وتبنّيها لحقوق الإنسان وقضايا مصيره ، ومقاومتها للظلم والطغيان ، فليس في اُمم العالم وشعوب الأرض مثل اُسرة العلويِّين في دفاعهم عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وقد استشهد المئات منهم من أجل حرية الإنسان وكرامته .
وعلى أيّ حال ، فهذه لمحة موجزة عن الاُصول الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(عليها السّلام) .
الجدّ

أمّا جدّ السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)فهو سيّد الكائنات رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، الذي فجّر ينابيع العلم والحكمة في الأرض ، وأسس معالم الحضارة والتطوّر ، وبنى مجتمعاً كريماً تسوده
الصفحة (20)

العدالة والقانون ، وسحق خرافات الجاهليّة وعاداتها , ودمّر أصنامها وأوثانها ، ودعا إلى توحيد الله خالق الكون وواهب الحياة ، وجاء بالخير العميم لاُمّته ، ولكلّ ما تسمو به من التقاليد والعادات ، فما أعظم عائدته عليها وعلى البشرية جمعاء !

لقد أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين ، ومنار هداية لخلقه أجمعين ، فكان (صلوات الله عليه) كما قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )(1) . فهو رحمة للناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، حريص على هدايتهم وإسعادهم ، قال تعالى : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )(2) .
لقد تشرّفت الإنسانيّة برسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وأشرقت الدنيا بدعوته ، وتوطّدت أركان العدالة بدينه ، فهو (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) القائد الملهم لقضايا الفكر والوعي في الأرض .
هذا رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، ونبي الرحمة جدّ سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(عليها السّلام) ، وقد ورثت منه خصائصه ومميزاته ، والتي منها الدفاع عن الحقّ ، ورفع كلمة الله عالية في الأرض .
الجدّة

أمّا جدّة السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)فهي اُمّ المؤمنين وسيّدة نساء النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) خديجة الكبرى التي نصرت الإسلام في أيام محنته وغربته ، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد ، وقد بذلت جميع ما تملكه في نصرة الإسلام ، وكانت من أثرى قريش ، فلم تعد بعد ثرائها العريض تملك ما تجلس عليه سوى حصير بال ، فكانت (رضوان الله عليها) من أهم الدعائم لإقامة دين الإسلام ، وهي التي أمدّت النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ومَنْ كان
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنبياء / 107 .
(2) سورة التوبة / 128 .
الصفحة (21)

معه طوال المدّة التي اعتقلتهم فيها طغاة قريش في (الشِّعب) ، وكانت تهوّن على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) المصاعب والمصائب التي كان يعانيها من جهّال قريش وأوغادها .

وكان النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) يشكر أياديها البيضاء ، وما أسدته عليه من عظيم اللطف والفضل ؛ فكان يذكرها دوماً بعد وفاتها ويترحّم عليها ، وكان إذا ذبح شاة بعث بأطيب ما فيها إلى صديقاتها ؛ وفاءً لها .

وكانت عائشة يثقل عليها ذلك ، فكانت تندّد بها وتقول لرسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها ؟! فيردّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ويقول : (( ما أبدلني الله خيراً منها ؛ آمنت بي حين كفر بي الناس ، وواستني بمالها حين حرمني الناس ، ورُزقتُ منها الولد وقد حُرمته من غيرها )) .

لقد رزقه الله منها سيّدة نساء العالمين الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) التي هي نفحة من روح الله تعالى . إنّ السيّدة خديجة أسمى امرأة مجاهدة في الإسلام , هي جدّة الصدّيقة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(عليها السّلام) .

وقد ورثت صفات جدّتها التي منها الاندفاع في نصرة الحقّ , والذبّ عن المثل العليا ، وقد ظهرت هذه الصفات بوضوح عند العقيلة ؛ فقد وقفت إلى جانب أخيها الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , فهي شريكته في نهضته وجهاده ، وهي التي أمدّت ثورته الجبّارة الخالدة بعناصر البقاء والخلود .
الاُمّ

أمّا اُمّ السيدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)فهي البتول الطاهرة فاطمة الزهراء (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، سيّدة نساء العالمين في فضلها وعفّتها وطهارتها من الزيغ والرجس ، وهي بضعة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) وريحانته , وأعزّ أبنائه وبناته عنده .

وبلغ من عظيم حبّه لها أنّه إذا سافر جعلها آخر مَنْ يودّعها ؛ لتكون صورتها ماثلة أمامه ، كما أنّه إذا قدِم من سفره كان أوّل مَنْ يستقبلها(1) ؛ وذلك لسموّ مكانتها وعظيم شأنها .

وقد عنى بها عناية بالغة , فغذّاها
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد بن حنبل 5 / 275 ، مستدرك الصحيحين 3 / 156 ، سنن البيهقي 1 / 26 .
الصفحة (22)

بمكرماته ، وأفاض عليها أشعة من روحه التي ملأ سناها الكون ، وغرس في نفسها عناصر حكمته وفضائله ، فكانت صورة تحكيه ومثالاً صادقاً عنه ، ويقول الرواة : إنّها كانت من أشبه الناس به هدياً وحديثاً ومنطقاً(1) .
وكانت فيما أجمع عليه الرواة من أشفق الناس وأخلصهم لأبيها وأبرّهم به ؛ فإذا رأته متأثراً أو حزيناً ذابت أسى وموجدة .

ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن أبي ثعلبة ، قال : قَدِم رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) من غزاة له المسجد , فصلّى فيه ركعتين ـ وكان يعجبه إذا قَدِم أن يدخل المسجد فيصلّي فيه ركعتين ـ ثمّ خرج فأتى فاطمة (عليها السّلام) , فبدأ بها قبل بيوت أزواجه , فجعلت تقبّل وجهه وعينيه وتبكي ، فقال لها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( ما يبكيك ؟ )) .

قالت : (( أراك قد شحب لونك )) .

فقال لها : (( يا فاطمة ، إنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر لم يبقَ على ظهر الأرض مدر ولا شعر إلاّ أدخله به عزّاً أو ذلاً(2) ، حيث سطع الليل ))(3) .
تكريم وتعظيم

وأحاط النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) بضعته الطاهرة بهالة من التقديس والتكريم ؛ إظهاراً لعظيم شأنها ، وسموّ مكانتها عند الله تعالى وعنده ، وقد نقل الرواة عنه كوكبة من الأحاديث في ذلك , كان منها ما يلي :
ـــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 319 رواه بسنده عن عائشة ، ورواه الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عنها 3 / 154 ، ورواه البخاري في الأدب المفرد / 141 ، ورواه أبو عمرو في الاستيعاب 2 / 751 .
(2) معنى الحديث أنّ البيوت التي دخلها العزّ هي التي آمنت بالإسلام ، وأمّا البيوت التي دخلها الذلّ فهي التي لم تؤمن بالإسلام وبقيت على كفرها وضلالها .
(3) حلية الأولياء 2 / 30 ، كنز العمّال 1 / 77 ، مجمع الزوائد 8 / 262 .

الصفحة (23)
1 ـ قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( يا فاطمة ، إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك ))(1) .
2 ـ قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) لفاطمة : (( إنّ الربّ يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك ))(2) .
3 ـ قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( يا فاطمة ، إنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك ))(3) .
ومعنى هذه الأحاديث التي تقاربت في مؤدّاها أنّ لسيّدة النساء (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) منزلة سامية عند الله ؛ فقد أناط رضاه برضاها ، وأناط غضبه بغضبها ، وهذه أسمى وأرفع منزلة يصل إليها القدّيسون من عباد الله . لقد انتهت سيّدة النساء إلى هذه المكانة عند الله تعالى ؛ وذلك لِما تتمتّع به من طاقات هائلة من الإيمان والتقوى حتّى كان ذلك من عناصرها ومقوماتها .
4 ـ قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( فاطمة بضعة منّي ، فمَنْ أغضبها أغضبني ))(4) .
5 ـ قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( فاطمة بضعة منّي ، يؤذيني ما آذاها ، ويصيبني ما أصابها ))(5) .
6 ـ قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( فاطمة بعضة منّي ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ذخائر العقبى / 39 ، ومثله رواه الحاكم في مستدرك الصحيحين وعلّق عليه : ( هذا حديث صحيح الإسناد ) كما جاء في اُسد الغابة 5 / 522 ، الإصابة 8 / 159 .
(2) ميزان الاعتدال ـ الذهبي 2 / 72 .
(3) كنز العمال 6 / 219 .
(4) صحيح البخاري ـ كتاب بدء الخلق في باب مناقب قرابة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) 3 / 1361 ، ح 3510 ، ط 5 .
(5) صحيح الترمذي 2 / 319 ، مسند أحمد بن حنبل 4 / 5 .
الصفحة (24)

آذاها ))(1) .
7 ـ قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( إنّ فاطمة شجن منّي ، يبسطني ما يبسطها ، ويقبضني ما يقبضها ))(2) .
وحكت هذه الأحاديث بصورة واضحة أنّ مَنْ يخدش عاطفة الزهراء (عليها السّلام) ، أو يُسيء إليها بأيّ لون من ألوان الإساءة فقد واجه أباها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) بذلك ؛ لأنّها كنفسه ، وأنّها بمقتضى هذه الأحاديث نسخة لا ثاني لها في فضائلها ومواهبها .
8 ـ روت عائشة أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) قال في مرضه الذي توفّي فيه لفاطمة (عليها السّلام) : (( يا فاطمة ، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين ، وسيدة نساء هذه الاُمّة ، وسيّدة نساء المؤمنين ؟ ))(3) .
9 ـ روى عمران بن حصين أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) قال : (( ألا تنطلق بنا نعود فاطمة ؛ فإنّها تشتكي ؟ )) .

فقلت : بلى . فانطلقنا حتّى إذا انتهينا إلى بابها فسلّم واستأذن ، فقال : (( أدخل أنا ومَنْ معي ؟ )) .

قالت : (( نعم . ومَنْ معك يا أبتاه , فوالله ما عليّ إلاّ عباءة ؟ )) .

فقال : (( اصنعي بها كذا )) . فعلّمها كيف تستتر ، فقالت : (( والله ما على رأسي من خمار )) . فأخذ ملاءة كانت عليه فقال : (( اختمري بها )) .

ثمّ أذنت لهما فدخلا ، فقال : (( كيف تجدينك يا بُنيّة ؟ )) . قالت : (( إنّي لوجعة ، وإنّه ليزيدني أنّه ما لي طعام آكله )) .

قال : (( يا بُنيّة ، أما ترضين إنّك سيدة نساء العالمين ؟ )) .

قالت : (( يا أبتِ ، فأين مريم ابنة عمران ؟ )) .

قال : (( تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيّدة نساء العالمين . أما والله زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة ))(4) .
ــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 319 . صحيح مسلم .
(2) كنز العمّال 6 / 219 . مستدرك الصحيحين 3 / 154 .
(3) مستدرك الصحيحين 3 / 156 .
(4) حلية الأولياء 2 / 42 . مشكل الآثار 1 / 50 . ذخائر العقبى / 43 .
الصفحة (25)

10 ـ روى الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) قال لفاطمة (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) : (( ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة ، وابنيك سيّدا شباب أهل الجنّة ؟ ))(1) .
11 ـ روى أنس بن مالك أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) قال : (( خير نساء العالمين أربع ؛ مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ))(2) .
وكثير من أمثال هذه الروايات دُوّنت في الصحاح والسنن وغيرهما , وهي تشيد بفضل سيّدة النساء ، وأنّ الله تعالى قد قلّدها أسمى أوسمة الشرف ، وفضّلها على جميع نساء العالمين .
وهذه البتول سيّدة نساء العالمين هي اُمّ السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وهي التي تولّت تربيتها ونشأتها ؛ فغذّتها بمعارف الإسلام وحكمه وآدابه ، وغرست في أعماق نفسها الإيمان بالله والانقطاع إليه حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها ، فكانت نسخة لا ثاني لها في فضائلها وصفاتها ، فلم يُرَ مثلها في نساء المسلمين وغيرهم في كمالها وآدابها وسائر نزعاتها .
الأب

أمّا أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(عليها السّلام) فهو الإمام أمير المؤمنين , رائد الحكمة والعدالة في الإسلام ، أخو النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , وباب مدينة علمه ، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو ـ فيما أجمع عليه الرواة ـ أوّل مَنْ آمن برسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , واعتنق مبادئه
ـــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمّال 7 / 111 .
(2) تفسير ابن جرير 3 / 180 .
الصفحة (26)
وأهدافه ، وقام إلى جانبه قوّة ضاربة يحمي دعوته ويصون رسالته , ويخمد بسيفه نار الحروب التي أشعلتها قريش لتطفئ نور الله , وتقضي على الإسلام في مهده ، فوهب (سلام الله عليه) روحه لله تعالى ، فحصد ببتّاره رؤوس الطغاة من القرشيّين وأنصارهم المشركين .
لقد كان الإمام أبرز بطل في جيوش المسلمين نازل ببسالة وصمود قوى الكفر والإلحاد ، وأنزل بها الخسائر حتّى فُلّت وشُلّت جميع فعاليتها العسكرية , وباءت بالهزيمة والخسران . ولولا جهاد الإمام وكفاحه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع , مفتول الساعد ، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين !
وكان من عظيم إيمان الإمام ونصرته للإسلام مبيته على فراش النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ووقايته له بنفسه حينما أجمعت قريش على قتله ، وكانت هذه المواساة الرائعة أعظم نصر للإسلام ؛ فقد نجا النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) من أقسى مؤامرة دُبّرت لاغتياله ، فقد فشلت وأنقذ الله تعالى نبيّه من تلك الوحوش الكاسرة التي أرادت أن تطفئ نور الإسلام وتعيد الظلام للأرض .
لقد صحب الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) منذ نعومة أظفاره النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وتخلّق بطباعه وأفكاره ، وتغذّى بحِكَمه وعلومه ، فكان باب مدينة علمه ، وقد أثرت عنه من العلوم ما يبهر العقول .

يقول العقاد : إنّه فتح ما يربو على ثلاثين علماً لم تكن معروفة قبله ؛ كعلم الكلام والفلسفة والقضاء والحساب وغيرها ، وهو القائل : (( سلوني قبل أن تفقدوني )) . ولم يفه أحدٌ بمثل هذه الكلمة غيره .

وقد أخبر عن علمه وإحاطته بأسرار الكون والفضاء ، فقال : (( سلوني عن طرق السماء , فإنّي أعرف بها من طرق الأرض )) . كما تحدّث عن درايته بما احتوت عليه الكتب السماويّة من أحكام قائلاً : (( لو ثُنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل الفرقان بفرقانهم ،
الصفحة (27)

وأهل القرآن بقرآنهم )) .

لقد كان الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) أعظم عملاق في الميادين العلميّة عرفته الإنسانيّة بعد النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، ويدلّ على طاقاته العلميّة الهائلة كتابه نهج البلاغة الذي هو من أعظم ما تملكه الإنسانيّة من تراثٍ بعد القرآن الكريم .
ومن مظاهر شخصيّة الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) زهده في الدنيا وعدم احتفائه بأيّ زينةٍ من زينة الحياة ، فقد تقلّد الحكم وتشرفت الدولة الإسلاميّة بقيادته ، فزهد في جميع مظاهر السلطة ، وجعل الحكم وسيلة لإقامة الحقّ والعدل ونشر المساواة بين الناس ، ولم يستخدم السلطة لتنفيذ رغباته والظفر بالثراء العريض .

ومن المقطوع به إنّه ليس في تأريخ الشرق العربي وغيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) قد عنى بالصالح العام ، وتجرّد عن كلّ منفعة شخصية له ، وهو القائل لابن عباس ، وكان يصلح نعله الذي هو من ليف : (( يابن عباس ، ما قيمة هذا النعل ؟ )) .
[ قال ابن عباس : ] لا قيمة له يا أمير المؤمنين .
[ فقال الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ] : (( والله , لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن اُقيم حقّاً ، أو أدفع باطلاً )) .
لقد تبنّى العدل الخالص والحقّ المحض في جميع مراحل حكمه ؛ فالقريب والبعيد عنده سواء ، والقوي عنده ضعيف حتّى يأخذ منه الحقّ ، والضعيف عنده قوي حتّى يأخذ له بحقّه . وقد أوجد في أيام خلافته وعياً سياسياً أصيلاً وهو التمرّد على الظلم , ومقارعة الجبابرة والطغاة .

وكان أبرز مَنْ تغذّى بهذا الوعي ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , وبطلة الإسلام ابنته سيدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(عليها السّلام) ، وكوكبة من مشاهير أصحابه ؛ كحجر بن عدي , وعمرو بن الحمق الخزاعي , وميثم التمّار , وغيرهم من بُناة المجد الإسلامي الذين ثاروا على الظالمين .
وعلى أي حال ، فهذا العملاق العظيم هو أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34367)(عليها السّلام) ، فقد غذّاها بمثله ومكوّناته النفسية ، وأفرغ عليها أشعة من روحه الثائرة على الظلمالصفحة (28)

والطغيان ، فكانت تحكيه في انطباعاته واتجاهاته ، فقارعت الظالمين ، وناجزت الطغاة المستبدّين ، وأذلّت الجبابرة المتكبّرين وألحقت بهم الخزي والدمار .

لقد وقفت حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، ومفخرة الإسلام إلى جانب أخيها أبي الأحرار حينما فجّر ثورته الكبرى التي هي أعظم ثورة إصلاحية عرفها التأريخ الإنساني . وقد شابهت بذلك أباها رائد العدالة الاجتماعية حينما وقف إلى جانب جدّها الرسول الأعظم (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) حينما أعلن دعوته الخالدة الهادفة إلى تحرير الفكر البشري من عوامل الانحطاط والتأخّر ، وإنارته بالعلوم والعرفان , ودفعه إلى إقامة مجتمع متوازن في سلوكه وإرادته .
لقد كانت هذه السيّدة العظيمة في سيرتها وسلوكها من أشبه الناس بأبيها الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ؛ فقد تبنّت بصورة إيجابية جميع أهدافه ومخطّطاته ومواقفه التي منها نصرته للإسلام في أيام محنته وغربته .

وكذلك هذه السيّدة العملاقة نصرت الإسلام حينما عاد غريباً في ظلّ الحكم الاُموي الذي استهدف قلع جذور الإسلام ولفّ لوائه ، وإعادة الحياة الجاهليّة بأوثانها وأصنامها ، ولكنّها مع أخيها (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) قد أفسدت مخطّطات الاُمويِّين ، وأعادت للإسلام نضارته ومجده .
جدّها لأبيها

أمّا جدّ السيدة الزكية زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)لأبيها فهو حامي الإسلام وبطل الجهاد المقدّس ، أبو طالب (مؤمن قريش) الذي نافح عن رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد ، ولولا حمايته للنبي وقيامه بدور مشرق في الذبّ عنه لأتت عليه قريش وقضت على الدعوة في مهدها .
لقد كان أبو طالب من أوثق المسلمين إيماناً ، ومن أكثرهم إخلاصاً لدين
الصفحة (29)

التوحيد ، وهو القائل :
ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّدٍ من خيرِ أديانِ البريةِ دينا
وحكى هذا البيت إيمانه العميق بأنّ دين النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) من خير أديان البرية ؛ ولهذا اندفع كأعظم قوّة ضاربة إلى حماية النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) وحراسته من ذئاب الاُسر القرشية التي أجمعت أن تلفّ لواء الإسلام وتطوي رسالته .
لقد وقف هذا العملاق العظيم محامياً عن رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وهو القائل :
واللهِ لن يصلوا إليكَ بجمعهم حتى أُوسّد في الترابِ دفينا

وظلّ رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) تحت حراسة أبي طالب وحمايته ينشر دعوته ويذيع مبادئه آمناً عزيزاً مُهاباً ، وقد جنّد أولاده لخدمة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) وألزمهم بالذبّ عنه ، فكان ولده الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) من أقوى حرسه ، ومن أكثرهم دفاعاً عنه ، فخاض أعنف الحروب وأقساها لحمايته ونشر مبادئه وأهدافه .
ولمّا انتقل هذا الصرح العظيم إلى حضيرة القدس حزن عليه النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) كأعظم ما يكون الحزن ؛ فلقد فَقَدَ بموته المحامي والناصر ، وأعزّ ما كان يحنو عليه ويعطف ، وأطلق على العام الذي توفي فيه مع اُمّ المؤمنين خديجة (عام الحزن)(1) .

وقد أجمعت قريش بعد موت أبي طالب على قتل النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ،
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) من العجيب ما ذكره بعض السذّج من المؤلّفين أنّ أبا طالب حامي الإسلام مات غير مسلم ، وليس ذلك إلاّ من وضع الاُمويّين الذين كادوا للإسلام وطعنوا في أعظم حماته ورجاله . ولو مات غير مسلم لما حزن عليه النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ؛ فإنّه لا يخضع بأيّ حالٍ من الأحوال لأي مؤثّر لا يمتّ إلى الحقّ والواقع بصلة . فحزنه عليه مع كونه غير مسلم موجب للطعن بشخصيّة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، ولولاه لأقبرت قريش الدعوة الإسلاميّة من أوّل بزوغها , فجزاه الله عن الإسلام خيراً , وأجزل له المزيد من رحمته .
الصفحة (30)

فاضطر (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) إلى [الخروج] من مكّة في غلس الليل البهيم بعد أن ترك أخاه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) في فراشه ، فرحم الله أبا طالب , فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين ، وما أكثر ألطافه وأياديه على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) !
إنّ هذا العملاق العظيم هو جدّ سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) لأبيها ، وقد ورثت منه خصائصه وذاتياته التي من أبرزها التفاني في الحق ونكران الذات .
جدّتها لأبيها

وجدّة السيدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) لأبيها هي السيدة الزكية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف زوجة أبي طالب ، وهي من سيّدات النساء في إيمانها وطهارتها ، وقد برّت بالنبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وتولّت تربيته , وكانت ترعاه وتعطف عليه أكثر ممّا تعطف على أبنائها ، وقدّمت له أعظم الخدمات .

وقد قطع (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) شوطاً من حياته تحت رعاية هذه السيدة الزكية التي ما تركت لوناً من ألوان الرعاية والبرّ إلاّ قدّمتها إلى الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وكانت من أعزّ الناس عنده ، ولمّا فُجع بوفاتها ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها ، فبُهر أصحابه وقالوا له : يا رسول الله ، ما رأيناك صنعت بأحدٍ ما صنعت بهذه ؟!
فأخبرهم النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) عن عظيم برّها ومعروفها قائلاً : (( إنّه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنّما ألبستها قميصي لتُكسى من حلل الجنّة ، واضطجعت معها في قبرها ليهوّن عليها ))(1) .
هذه الاُصول العملاقة التي اتّسمت بالإيمان والشرف والكرامة , وبكلّ ما
ـــــــــــــــــــــــ
(1) توجد ترجمتها في طبقات ابن سعد ، الاستيعاب ، أعيان الشيعة ، أعلام النساء ، تنقيح المقال ، وغيرها .
الصفحة (31)

يسمو به الإنسان من القيم والمبادئ الكريمة ، قد تفرّعت منها بطلة الإسلام وصانعة التأريخ زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) ، فقد ورثت جميع نزعات آبائها وخصائصهم وصفاتهم حتّى صارت صورة مشرقة عنهم .
إخوانها

ويجدر بنا بعد هذا العرض الموجز لشؤون الاُسرة الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) أن نذكر ـ بإيجاز ـ إخوانها الذين عاشرتهم , وهم الذين ملؤوا فم الدنيا بفضائلهم ومآثرهم ، وفيما يلي ذلك :
1 ـ الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365))

هو ريحانة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) وسيّد شباب أهل الجنّة وسبطه الأوّل ، وكانت ولادته في النصف من شهر رمضان المبارك للسنة الثالثة من الهجرة(1) ، وقد شوهدت في طلعته شمائل النبوّة وأنوار الإمامة ، وهو أوّل مولود سعدت به الاُسرة النبوية ، فقد عمّها السرور بهذا المولود المبارك .

وقد سارع النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) إلى بيت بضعته وحبيبته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) فهنّأها بوليدها ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعيّة فأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، فكان أوّل صوت اخترق سمعه صوت جدّه العظيم داعية الله في الأرض ، واُنشودة ذلك الصوت : (( الله أكبر ، لا إله إلاّ الله )) .
وهل في دنيا الوجود كلمات هي أسمى وأعظم من هذه الكلمات ، وقد غرسها النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) في قلب وليده لتكون منهجاً له في حياته ؟
وفي اليوم السابع من ولادته عقّ عنه النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) بكبش ، وحلق رأسه ،
ــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة 1 / 338 ، الاستيعاب 1 / 368 ، حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) 1 / 59 .
الصفحة (32)

وتصدّق بزنة شعره فضّة على المساكين(1) ، وكان ذلك سنّة في الإسلام لكلّ وليد .
تسميته

وأقبل النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) على الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، فقال له : (( هل سمّيت الوليد المبارك ؟ )) .
فأجابه الإمام بأدبٍ واحترام قائلاً : (( ما كنت لأسبقك يا رسول الله .. )) . وانبرى النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) قائلاً : (( ما كنت لأسبق ربّي )) .
وهبط الوحي على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) وهو يحمل تسميته من السماء ، قائلاً : (( سمّه حسناً ))(2) .
وكفى بهذا الاسم جمالاً وعظمةً أنّ الخالق العظيم هو الذي اختاره لسبط النبي وريحانته .
كنيته وألقابه

وكنّاه النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ( أبا محمّد ) ، ولا كنية له غيرها . أمّا ألقابه فهي : السبط ، الزكي ، المجتبى ، السيّد ، التقي(3) .
ملامحه

أمّا ملامحه فكانت تحكي ملامح جدّه الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، تقول عائشة : مَنْ أحبّ
ــــــــــــــــــــ
(1) حياء الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) 1 / 64 .
(2) تأريخ الخميس 1 / 47 .
(3) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) 1 / 65 .
الصفحة (33)

أن ينظر إلى رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) فلينظر إلى هذا الغلام , يعني الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365))(1) .
ويقول أنس بن مالك : لم يكن أحد أشبه بالنبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) من الحسن بن علي(2) .
لقد كان الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) صورة مشرقة عن جدّه الرسول الأعظم (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) لا في ملامحه وصورته فحسب ، وإنّما كان يحكيه في نزعاته وصفاته , ومعالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين .

مظاهر شخصيّته

ونتحدّث ـ بإيجاز ـ عن بعض مظاهر شخصية الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وهي :
الحلم : من ذاتيات الإمام السبط ( الحلم ) ، فقد كان من أحلم الناس ، وقد تعرّض لموجات عاتية من الإساءة من الاُسرة الاُمويّة التي اُترعت نفوسها بالحقد والكراهية لآل النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، فما قابل الإمام أحداً بإساءة , وإنّما كظم غيظه .

وقد شهد مروان بن الحكم وهو من أخبث الناس وأشدّهم عداوة للإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) بعظيم حلمه ، فقد أسرع بعد وفاته إلى حمل جثمانه ، فقيل له : أتحمل جثمانه وكنت تجرّعه الغصص ؟! فأجاب : إنّي أحمل جثمان مَنْ كان يوازي حلمه الجبال .
لقد كان الحلم من أبرز عناصره النفسيّة ، وقد أجمع الرواة على أنّه كان من أوسع الناس صدراً ، وأنّه ما جازى مَنْ أذنب في حقّه ، وإنّما قابله بالبرّ والإحسان ؛ شأنه في ذلك [شأن] جدّه الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) الذي وسع الناس جميعاً بمعالي أخلاقه .
الجود : وكان الإمام السبط من أندى الناس كفاً ، ومن أكثرهم برّاً وإحساناً للفقراء ، وكان لا يرى للمال قيمة سوى ما يرد به جوع جائع أو يكسو عريانَ .

وقد حفلت مصادر التأريخ والتراجم بذكر بوادر كثيرة من كرمه وسخائه ، وقد لُقّب (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365))
ـــــــــــــــــــ
(1) الفتوح 2 / 340 .
(2) فضائل الأصحاب / 126 ، حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) 1 / 66 .
الصفحة (34)

بـ (كريم أهل البيت) ، وهم من معادن الكرم والجود .
سمو الأخلاق : ومن عناصر الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) سمو الأخلاق ، فكان آية من آيات الله العظام في هذه الظاهرة الفذة .

ومن معالي أخلاقه أنّه كان يوقّر ويحترم كلّ مَنْ قصده , ولا يُفرّق بين القريب والبعيد ، وكان يواسي الناس في مصائبهم , ويشاركهم في مسرّاتهم ، ويوقّر الكبير , ويحنو على الصغير ، ويعطف على الضعيف ، وكان للمسلمين أباً رؤوفاً ، وكهفاً حصيناً ، يلجأ إليه غارمهم ، ويفزع إليهم مظلومهم .

وقد شابه جدّه الرسول الأعظم (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) في سموّ أخلاقه التي مدحه الله تعالى بها ، قال الله عزّ وجلّ : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )(1) .
هذه بعض صفات الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وقد ألمحنا إلى الكثير منها في كتابنا (حياة الإمام الحسن) .
مع السيدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام)

نشأت سيدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) مع أخيها الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , وقطعت شوطاً من حياتها مع هذا الإمام العظيم ريحانة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) وسيّد شباب أهل الجنّة ، وتطبّعت بأخلاقه وآدابه ، وكان يجلّها كثيراً ، ويحدب عليها ويقابلها بمزيد من الرعاية والعناية ؛ فقد رأى جدّه وأبويه قد أحاطوها بكلّ تبجيل واحترام ، وأشادوا بمواهبها وفضائلها ، وقدّموها على بقيّة السيّدات من نساء أهلها وقومها .

هذه لمحة موجزة عن علاقة الإمام الحسن بشقيقته السيدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) .
2 ـ الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365))

أمّا الإمام الحسين فهو الشقيق الثاني لسيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) ، وقد نشأت معه وتطبّعت بطباعه ، وكانت بينهما أعمق المودّة ، وهو عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تشاركه في آماله وآلامه ، وهي من أبرّ أهله به ، وقد احتلت عواطفه
ــــــــــــــــــ
(1) سورة القلم / 4 .
الصفحة (35)

ومشاعره ؛ وذلك بما تملكه من أصالة الرأي ، وسمو الآداب ، ومعالي الأخلاق ؛ فقد تجسّدت فيها مواريث النبوّة والإمامة ، وكانت صورة صادقة لاُمّها بضعة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وسيّدة نساء العالمين السيدة الزكية فاطمة الزهراء (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) .
لقد كانت سيدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) موضع أسرار أخيها الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , والعالمة بجميع شؤونه ، وكان يستشيرها في جميع اُموره . وقد رافقته في ثورته الخالدة وأمدّتها بعناصر البقاء والخلود ، ولولا جهادها وجهودها ومواقفها المشرّفة في أروقة بلاط الحكم الاُموي لضاعت ثورة أخيها وذهبت أدراج الرياح .

وبلغ من سموّ مكانتها عند الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) أنّه لمّا ودّعها الوداع الأخير يوم الطفّ طلب منها أن لا تنساه من الدعاء في نافلة الليل(1) .
3 ـ العباس (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365))

هو (قمر بني هاشم) ، وفخر الإسلام ، ومجد المسلمين ، وهو أخو سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)لأبيها ، واُمّه : اُمّ البنين ، وهي من سيّدات نساء المسلمين في فضلها وشرفها وطهارتها ، تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) بعد وفاة الصدّيقة فاطمة الزهراء (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) .

وقد قامت بدور إيجابي في خدمة السبطين وشقيقتهما السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)؛ فكانت تقدّمهم في الرعاية والعطف على أبنائها ؛ لأنّهم ذرية رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) الذي ألزم الله المسلمين بمودّتهم ومحبّتهم .

وكان أوّل مولود لها أبو الفضل العباس (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وقد ترعرع ونشأ مع أخويه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (http://im88.gulfup.com/r2YXw0.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , فغذّياه بالفضائل والآداب ، وغرسا في نفسه تقوى الله ، فكان من أروع أمثلة الإيمان .

وكانت علاقته مع أخيه الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) وثيقة للغاية ؛ فكان منذ نعومه أظفاره يتسابق لخدمته ، ويبادر لقضاء حوائجه ، ولا يُفارقه في حلّه وترحاله ، وكان من أشفق الناس عليه وأبرّهم به .
ـــــــــــــــ
(1) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)الكبرى / 60 .
الصفحة (36)

وكان العباس (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) من أحبّ الناس لاُخته العقيلة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) ؛ فقد وجدت فيه من الرعاية والبرّ والعطف ما لم تجده في السادة من إخوتها لأبيها ؛ فقد كان ملازماً لخدمتها كما كان ملازماً لخدمة أخيه الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) ، وقد قدّم لها جميع ألوان البرّ والإحسان .

ولمّا ارتحلت مع أخيها أبي الشهداء من المدينة إلى مكة ثمّ إلى كربلاء كان العباس (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) هو الذي يقوم بخدمتها , ولم يدع أحداً من السادة العلويِّين أن يتولّى رعايتها سواه . ولمّا استشهد (سلام الله عليه) في كربلاء ذابت نفسها عليه أسىً وحسرات ، وودّت أنّ المنية قد وافتها قبله ، وشعرت بالوحدة والضياع من بعده .
4 ـ محمّد بن الحنفيّة

ومحمد ابن الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) هو المعروف بـ (ابن الحنفيّة)(1) ، وكان من أفذاذ العلويِّين ومن ساداتهم ، وكان يجلّ ويعظّم السيدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34368)(عليها السّلام) ؛ لأنّها حفيدة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) , و [ابنة] سيّدة نساء العالمين , كما كانت تُكنّ له أعظم الودّ والإخلاص .

وكان محمّد من المعارضين لابن الزبير والناقمين عليه ، ولا يراه أهلاً لقيادة الاُمّة , فامتنع عن بيعته ، وتبعه على ذلك بقيّة الهاشميّين ، فأمر بحبسهم في (قبة زمزم) , وضرب لهم أجلاً مسمّى فإن لم يبايعوه فيه وإلاّ أحرقهم بالنار . ودلّ ذلك على تجرّده من كلّ نزعة إسلاميّة وإنسانيّة ، وقد شابه بذلك قرينه يزيد بن معاوية , ولو تمّ له الأمر لزاد على جرائمه .
وأرسل محمّد رسالة إلى المجاهد العظيم بطل الإسلام المختار الثقفي عرّفه
ــــــــــــــــــــ
(1) اسم اُمّه خولة بنت جعفر بن حنفيّة ، ولد في خلافة أبي بكر ، وقيل : في خلافة عمر . يُكنّى أبا القاسم . روى عن أبيه وعن جماعة من الصحابة ، وذهب فريق من المسلمين إلى إمامته , كان منهم كثير عزّة ، وله فيه أشعار . وقال بإمامته السيد الحميري , إلاّ أنه عدل عنه وقال بإمامة الإمام الصادق (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif (http://www.ashaqalhuseen.com/vb/showthread.php?t=8365)) . توفّي سنة 73 هـ ، وقيل : سنة ثمانين ، وقيل غير ذلك . تهذيب التهذيب 9 / 354 .
الصفحة (37)

فيها بما جرى عليه من ابن الزبير ، وكتب في آخرها : يا أهل الكوفة ، لا تخذلونا كما خذلتم حسيناً .

ولمّا انتهت إليه أجهش بالبكاء وقرأها على أهل الكوفة وخاطبهم قائلاً : هذا كتاب مهديّكم وسيّد أهل بيت نبيّكم ، وقد تركهم الرسول ينتظرون القتل والحريق . وأخذ يتهدّد ابن الزبير قائلاً : لستُ أبا إسحاق إن لم أنصرهم ، وأسرب الخيل إثر الخيل كالسيل حتّى يحلّ بابن الكاهلية الويل .

وجهّز جيشاً قوامه ألف فارس بقيادة عبد الله الجدلي , ثمّ أتبعه بثلاثة آلاف فارس ، وأخذوا يجدّون السير حتّى انتهوا إلى (مكة) وهم ينادون : ( يا لثارات الحسين ) .
وهجموا على (قبة زمزم) , فرأوا الحطب قد وضع عليها , ولم يبق من الأجل الذي حدّده الطاغية لإحراقهم سوى يومين , فأخرجوهم من القبّة وطلبوا من محمّد أن يناجزوا ابن الزبير الحرب , فأعرب له محمّد عن سموّ ذاته وطهارة نفسه قائلاً : لا أستحلّ القتال في حرم الله .

ويقول كثير عزّة ـ وهو من الكيسانيّة ـ يخاطب ابن الزبير :
يـخبّرُ مَـنْ لاقـيت أنّـك عـائذٌ بـل العائذُ المظلومُ في حبسِ عارمِ
ومَنْ يرَ هذا الشيخَ في الخيفِ من منى مـن الـناسِ يـعلم أنّه غيرُ ظالمِ
سـمـيُّ نـبي اللهِ وابـنُ وصـيِّهِ وفـكّاكُ أغـلالٍ وأقـضى المغارمِ

وتعتقد الكيسانيّة إمامته , وأنّه مقيم بجبل (رضوى) . [و] إلى هذا أشار كثير عزّة بقوله :
وسبط لا يذوق الموتَ حتّى يـقود الخيلَ يقدمها اللواءُ
تـغيّب لا يُرى فيهم زماناً برضوى عندهُ عسلٌ وماءُ

توفي سنة (81 هـ) , وقيل غير ذلك(1) . وبهذا ينتهي بنا المطاف عن بعض أشقّاء العقيلة .
ـــــــــــــــــــ
(1) وفيات الأعيان 3 / 110 ـ 113 ، طبقات ابن سعد ، حلية الأولياء ، الأعلام ـ الزركلي .


يتبع

الشيخ عباس محمد
02-08-2015, 11:15 PM
ولادتها ونشأتها

ازدهرت حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)الاُسرة النبويّة بالسبطين الكريمين الإمامين الحسن والحسين (http://im88.gulfup.com/r2YXw0.gif) ، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه . وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) مودّةً ورحمةً وحناناً ، فكان يرعاهما برعايته ، ويغدق عليهما بإحسانه , ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود .
لقد كان النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه ، فكان يقول : (( هما ريحانتي من الدنيا ))(1) .
وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب ، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ، وهما يمشيان ويعثران , فنزل عن المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه , وقال : (( صدق الله إذ يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )(2) . لقد نظرت إلى هذين الصبيِّين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما ))(3) .
ــــــــــــــــــ
(1) كنز العمّال 7 / 110 ، صحيح البخاري ـ كتاب الأدب ، مجمع الزوائد 9 / 181 . تأريخ ابن عساكر 13 / 39 .
(2) سورة الأنفال / 28 .
(3) صحيح الترمذي 2 / 306 ، مسند أحمد بن حنبل 5 / 354 ، اُسد الغابة 2 / 12 ، صحيح النسائي 1 / 201 ، سنن البيهقي 3 / 218 .
الصفحة (40)

وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) : (( ادعي ابنيَّ )) . فيشمّهما ، ويضمّهما إليه(1) .
وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبويّة وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ ، فأخذ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة ، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) . أمّا ذلك الحمل فهو :
الوليدة المباركة

ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً ، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور ، وأجرى الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) على وليدته المراسيم الشرعيّة ؛ فأذّن في أذنها اليمنى ، وأقام في اليسرى .
لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو : (( الله أكبر ، لا إله إلا الله )) , وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء ، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان .
وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها ، ومقوّماً من مقوّماتها .
وجوم النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وبكاؤه

وحينما علم النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته ، وهو خائر القوى حزين النفس فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم ، وضمّها إلى صدره وجعل يوسعها تقبيلاً ، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها ،
ـــــــــــــــــ
(1) تيسير الوصول ـ ابن الدبيغ 3 / 276 .
الصفحة (41)

فانبرت قائلةً : (( ما يبكيك يا أبتي , لا أبكى الله لك عيناً ؟ )) .
فأجابها بصوت خافت حزين النبرات : (( يا فاطمة ، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا ))(1) .
لقد استشفّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال ، وسوف تُمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء .

ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه ، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبويّة يُهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة , فألفاه حزيناً واجماً ، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(2) ، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم .
تسميتها

وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها ، والتفتت إليه فقالت له : (( سمّ هذه المولودة )) .
فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضع : (( ما كنت لأسبق رسول الله )) .
وعرض الإمام على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أن يسمّيها ، فقال : (( ما كنت لأسبق ربّي )) .
ــــــــــــــ
(1) الطراز المذهّب / 38 .
(2) بطلة كربلاء / 21 .
الصفحة (42)

وهبط رسول السماء على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، فقال له : سمّ هذه المولودة (زينب) ؛ فقد اختار الله لها هذا الاسم . وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث , فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(1) .
كُنيتها

وكُنّيت الصديقة الطاهرة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)بـ (اُمّ كلثوم) ، وقيل : إنّها تُكنى بـ (اُمّ الحسن)(2) .
ألقابها

أمّا ألقابها فإنّهم تنّم عن صفاتها الكريمة ، ونزعاتها الشريفة , وهي :
عقيلة بني هاشم

و(العقيلة) : هي المرأة الكريمة على قومها ، والعزيزة في بيتها . والسيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)أفضل امرأة وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام ، وكان هذا اللقب وساماً لذريّتها ؛ فكانوا يلقّبون بـ (بني العقيلة) .
العالمة

وحفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) من السيدات العالمات في الاُسرة النبويّة ، فكانت ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين ، يرجعنَ إليها في شؤونهنَّ الدينية .
عابدة آل علي

وكانت زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)من عابدات نساء المسلمين ، فلم تترك نافلة من النوافل
ـــــــــــــــ
(1) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)الكبرى / 16 ـ 17 .
(2) المصدر السابق / 17 .
الصفحة (43)

الإسلاميّة إلاّ أتت بها .

ويقول بعض الرواة : إنّها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرّم .
الكاملة

وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها , وطهارتها من الرجس والزيغ .
الفاضلة

وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام , وبلائها في سبيل الله .

هذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها .
سنة ولادتها

أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب ، فقد اختلف المؤرّخون والرواة فيها ، وهذه بعض أقوالهم :
1 ـ السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الأولى .
2 ـ السنة السادسة من الهجرة .
3 ـ السنة التاسعة من الهجرة .

وفنّد هذا القول [الأخير] الشيخ جعفر نقدي ، فقال : وهذا القول غير صحيح ؛ لأنّ فاطمة (عليها السّلام) توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات ، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها , فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم ؟ ومتى حملت بالمحسن واسقطته لستة أشهر ؟

وقال : والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)كانت في السنة الخامسة من الهجرة . وذكر مؤيدات اُخرى لِما ذهب إليه(1) .
نشأتها

نشأت الصدّيقة الطاهرة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)(عليها السّلام) في بيت النبوّة ومهبط الوحي والتنزيل ، وقد
ــــــــــــــ
(1) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)الكبرى / 18 .
الصفحة (44)

غذّتها اُمّها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب ، وحفّظتها القرآن ، وعلّمتها أحكام الإسلام ، وأفرغت عليها أشعة من مُثُلها وقيمها حتّى صارت صورة صادقة عنها .
لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودّة ، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) يشارك أمّها زهراء الرسول في شؤون البيت ، ويعينها في مهامه ، ولم تتردّد في أجواء البيت أيّة كلمة من مرّ القول وهجره .

وشاهدت جدّها الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله , وعطفه وحنانه ، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية ، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام ؛ فقد ساد الإسلام ، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً .
لقد ظفرت حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلاميّة ؛ فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) يعظّم أخاه الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ويبجّله ، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه ، ولم يرفع صوته عليه , ولم يجلس إلى جانبه .

وشاهدت إخوتها من أبيها وهم يعظّمون أخويها الحسن والحسين (http://im88.gulfup.com/r2YXw0.gif) ، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل ، وكانت هي بالذّات موضع احترام إخوتها ، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) قام لها إجلالاً وإكباراً , وأجلسها في مكانه .

وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين , وأخوها الحسنان ، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم ، فسأله الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) عن ذلك ، فقال له : (( أخشى أن ينظر أحد إلى شخص اُختك الحوراء ))(1) .
ـــــــــــــ
(1) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)الكبرى / 22 .
الصفحة (45)

لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وإخوتها ؛ فهي حفيدة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه ، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة ، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) في أيام الحكم الاُموي يقولون : روى أبو زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)، ولم يقولوا : روى أبو الحسنين ؛ وذلك إشادة بفضلها وعظيم منزلتها(*) .


قدرتها العلميّة

كانت حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقرياتها ؛ فقد حفظت القرآن الكريم ، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق ، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة ، ومصادرته لـ (فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) .

وقد روت خطبة اُمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه ، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث .
قد بُهر الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) من شدّة ذكائها ، فقد قالت له : أتحبّنا يا أبتاه ؟ فأسرع الإمام قائلاً : (( وكيف لا اُحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي ؟! )) .
فأجابته بأدب واحترام : يا أبتاه ، إنّ الحبّ لله تعالى ، والشفقة لنا(1) .
وعجب الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) من فطنتها ، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى .
ـــــــــــــ
(*) لا يخفى ما في هذا الرأي والتحليل من مسامحة ؛ ذلك أنّ الرواة حينما يطلقون كنية (أبو زينب) بدلاً من (أبو الحسَنين) هو تمويهاً منهم أمام السلطة الاُمويّة الحاكمة التي منعت الرواية عن أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) , وتوعّدت بمعاقبة الراوي بأقسى العقوبات وأشدّها إذا ما علمت أنّه يروي عنه (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) . انظر في ذلك : الإرشاد للشيخ المفيد 1 / 310 , أمالي المرتضى 1 / 112 وغيرهما من اُمّهات المصادر المعتبرة . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(1) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)الكبرى / 35 .
الصفحة (46)

وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت : مَنْ أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده ؛ ألم تسمع إلى قوله : سمع الله لمَنْ حمده ؟ فخف الله لقدرته عليك ، واستحِ منه لقربه منك(1) .
وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) في حال غيابه , فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعيّة ؛ ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) يروي عنها ، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر ، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) .

ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات , فكانت تلقي عليهنَّ محاضرات في تفسير القرآن الكريم ، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين ، فكنّ يأخذنَ منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه .

ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها ، كما روى عنها كوكبة من الأخبار ، وكان يعتزّ بالرواية عنها ، ويقول : حدّثتنا عقيلتنا زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)بنت علي .

وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) .

وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) في أيام مرضه ، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعيّة ، وقد قال (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) في حقها : (( إنّها عالمة غير معلّمة )) .

وكانت ألمع خطيبة في الإسلام ؛ فقد هزّت العواطف ، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي ، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق ، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية .
لقد نشأت حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل ، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها ، فكانت من أجلّ العالمات ، ومن أكثرهنَّ
ـــــــــــــــ
(1) أعيان الشيعة 7 / 140 .
الصفحة (47)

إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين .
اقترانها بابن عمّها

ولمّا تقدّمت سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)في السن , انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها والتشرّف بالاقتران بها ، فامتنع الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) من إجابتهم ، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه ، وهو ابن أخيه (عبد الله بن جعفر) , من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام ، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به .

ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض شؤونه :
أبوه جعفر

أمّا جعفر فقد كان ـ فيما يقول الرواة ـ من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif)(1) . يقول فيه أبو هريرة : ما احتذى النعال , ولا ركب المطايا ، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أفضل من جعفر بن أبي طالب(2) .

وهو من السابقين للإسلام , وقد رآه أبوه أبو طالب يُصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) خلف النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , فقال له : صل جناح ابن عمّك ، وصلِّ عن يساره . وكان علي يصلّي عن يمينه(3) . وله هجرتان ؛ هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة(4) .
وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء ، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره ، وقد تحدّث عن ذلك ، قال : كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع ، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني .

وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب ؛ كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته , حتّى كان ليخرج
ـــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب 1 / 242 ، وجاء فيه : أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) قال له : (( أشبهت خَلقي وخُلُقي يا جعفر )) .
(2) الاستيعاب 1 / 243 .
(3 , 4) اُسد الغابة 1 / 287 .
الصفحة (48)

إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها(1) .
وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة , فاستبشر به رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وفرح ؛ فقد صادف قدومه فتح خيبر ، فقال (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) : (( ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً ؛ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر ؟ ))(2) .
واختطّ له النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) داراً إلى جنب المسجد ، وكان أثيراً عنده ؛ لا لأنّه ابن عمّه فحسب ، وإنّما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام ، وإشاعة مبادئه وأحكامه . بعثه رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها .

ويقول الرواة : إنّ اللواء كان بيده اليمنى , فقطعت , فرفعه بيده اليسرى ، فلمّا قطعت رفعه بيديه ، فقال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) : (( وإنّ الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء ))(3) ؛ ولهذا لقّب بـ (ذي الجناحين) , وبـ (الطيار) .
وحزن رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) على جعفر , فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصابهم الأليم ، فقال لزوجته أسماء : (( ائتيني ببني جعفر )) . فأتته بهم ، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم ، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها , فقالت له : يا رسول الله ، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء .
فأجابها بنبراتٍ تقطر أسىً وحزناً قائلاً : (( نعم ، اُصيب هذا اليوم )) .
ـــــــــــــــ
(1) المصدر السابق .
(2) الاستيعاب 1 / 242 ، كان قدوم جعفر إلى يثرب في السنة السابعة من الهجرة .
(3) الاستيعاب 1 / 242 .
الصفحة (49)

وأخذت أسماء تنوح على زوجها ، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم ، وأمر النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أن يُصنع طعام لآل جعفر(1) , وأقبلت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين ، وقد رفعت صوتها قائلة : (( وا عمّاه ! )) .
وطفق رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يقول : (( على مثل جعفر فلتبك البواكي ))(2) .
لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ؛ فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه .
الاُمّ أسماء

أمّا اُمّ عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس ، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام ، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة ، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً ، ثمّ هاجرت إلى المدينة . ولمّا استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً ، وهو من أعلام الإسلام ، ثمّ توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) فولدت له يحيى(3) .

وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم ، ولها علاقة وثيقة مع سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ فقد قامت بخدمتها ، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر ، فجاءت عائشة عائدة لها فمنعتها أسماء ، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر , فعاتبها ، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها(4) .
لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل
ـــــــــــــــــ
(1) (2) اُسد الغابة 1 / 289 .
(3) المصدر السابق 5 / 395 .
(4) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 1 / 271 .
الصفحة (50)

بيت النبوّة ، كما كانت من الراويات للحديث ، ويقول المؤرّخون : إنّها روت عن النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ستّين حديثاً .
وعلى أيّ حال ، فإنّ أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) قامت بخدمة الحسنين واُختهما زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34369)(عليها السّلام) ، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً ، ترعاهم كما ترعى أبناءها ؛ لأنّهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص , وشكروا لها رعايتها وعطفها .
عبد الله

ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر ، فقد كان فذّاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم ، يقول فيه معاوية : هو أهلٌ لكلّ شرفٍ ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه(1) .

وكان يُسمّى (بحر الجود)(2) ، ويُقال : لم يكن في الإسلام أسخى منه(3) . مدحه نصيب فأجزل له في العطاء ، فقيل له : تُعطي لهذا الأسود مثل هذا ؟! فقال : إن كان أسود فشِعره أبيض ، ولقد استحق بما قال أكثر ممّا نال . وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى ، وأعطانا مدحاً يروى وثناءً يبقى(4) !

وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس ، فقال : إنّ الله عوّدني عادة ، وعوّدت الناس عادة ، فأخاف إن قطعتها قُطعت عني(5) . وأنشد :لستُ أخشى قلّةَ العدمِ ما اتّقيتُ اللهَ في كرمي
كـلّما أنـفقتُ يـخلفهُ ليَ ربُّ واسعُ النعمِ(6)

ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه ، وقد وسع الله عليه لدعاء
ــــــــــــــــــ
(1) تهذيب التهذيب 5 / 171 .
(2) اُسد الغابة 3 / 134 .
(3 ـ 5) الاستيعاب 3 / 881 ، 882 ، 288 .
(6) عمدة الطالب / 37 ـ 38 .
الصفحة (51)

النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) له , فكان من أثرى أهل المدينة ، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة ؛ فقد روى عن عمّه الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) وعن الحسن والحسين (http://im88.gulfup.com/r2YXw0.gif) .
أبناؤه

ورُزق هذا السيد الجليل من سيدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)(عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء , وهم :
1 ـ عون

وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله ، صحب خاله الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) حينما هاجر من يثرب إلى العراق , ولازمه في رحلته ، فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم ، اليوم الخالد في دنيا الأحزان ، تقدّم إلى الشهادة بين يدي خاله ، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز :
إن تـنكروني فأنا ابنُ جعفرْ شهيدُ صدق في الجنانِ أزهرْ
يـطيرُ فـيها بجناحٍ أخضرْ كفى بهذا شرفاً من محشرْ(1)

لقد عرّف نفسه بهذا الرجز ؛ فقد انتسب إلى جدّه الشهيد العظيم جعفر الذي قُطعت يداه في سبيل الإسلام ، ويكفيه بذلك شرفاً وفخراً ، وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة ، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(2) .

ورثاه سليمان بن قتّة بقوله :
وانـدبي إن بـكيتِ عـوناً أخـاهُ لـيـس فـيـما يـنوبهم بـخذولِ
فـلعمري لـقد أصـبتِ ذوي القر بى فبّكي على المصابِ الطويلِ(3)
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 3 / 258 ، نقلاً عن الفتوح .
(2) الإرشاد / 268 .
(3) مقاتل الطالبيّين / 91 .
الصفحة (52)

2ـ علي الزينبي
3 ـ محمّد
4 ـ عباس
5 ـ السيدة اُمّ كلثوم(1)
وبلغت هذه السيدة [أي اُمّ كلثوم] مبلغ النساء ، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامّة بني هاشم ، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم , ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين في أن يخطبها لولده يزيد ، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه :
أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أحبّ أن يردّ الإلفة ، ويسلّ السخيمة ، ويصل الرحم ؛ فإذا وصل إليك كتابي فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين ، وارغب إليه في الصداق ...
وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيّفة وما يبذله من الأموال الطائلة تُغري السادة العلويِّين الذين تربّوا على الكرامة والشرف وكلِّ ما يسمو به الإنسان ، ولم يعلم أنّ سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر .
ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ؛ لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر ، وسافر الحسين فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر ، فعرض عليه كتاب معاوية وجعل يحبّذ له الأمر ، ويطالبه بالإسراع فيه ؛ لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين ، واجتماعاً للكلمة .

ولم يخف عن عبد الله الأمر ، فقال لمروان : إنّ خالها الحسين في ينبع(2) ، وليس لي من سبيل أن
ـــــــــــــــــ
(1) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)الكبرى / 126 .
(2) ينبع : تبعد عن المدينة بسبع مراحل ، فيها عيون ماء عذب غزيرة ، قيل : إنّها لبني الحسن ، وقيل : إنّها حصن به نخيل وزرع ، وبها وقوف الإمام عليّ (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) يتولاّها ولده ، جاء ذلك في معجم البلدان 5 / 45 .
الصفحة (53)

أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته .
ولمّا رجع الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً , فعرض عليه الأمر وما أجاب به مروان ، فالتاع الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) من ذلك ؛ إذ كيف تكون ابنة اُخته عند فاجر بني أُميّة ، حفيد أبي سفيان !

فانطلق الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) إلى شقيقته زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)(عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم , فلمّا مثلت أمامه قال لها : إن ابن عمّك القاسم بن محمّد بن جعفر أحقّ بك ، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق .
واستجابت الفتاة لرأي خالها ، ورحّبت اُمّها العقيلة بذلك ، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين ، وقدّم لها الإمام مهراً كثيراً .
وكتم الإمام الأمر ، فلمّا كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامّة دعا فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة ، وكان من جملة المدعوين مروان ، وقد ظنّ أنّه دُعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد ، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم ، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) فأعلن أنّه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر .

ولمّا سمع مروان تميّز غيظاً وغضباً , وفقد صوابه ، فقد أفشل الإمام رغبته ، فرفع عقيرته قائلاً : أغدراً يا حسين !(1)
وخرج مروان يتعثّر بأذياله ، وانتهى الأمر إلى معاوية فحقد على الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، وساءه ذلك ؛ فقد فشلت محاولاته في خداع العلويِّين ، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبويّة .
ــــــــــــــ
(1) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)عقيلة بني هاشم / 27 . عناصرها النفسيّة

وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان ، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم . وسيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)(عليها السّلام) قد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وأبيها الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، واُمّها سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام) ، وأخويها الحسن والحسين (http://im88.gulfup.com/r2YXw0.gif) سيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ؛ فقد ورثت خصائصهم ، وحكت مميّزاتهم ، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم .
لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيّدة في دنيا الإسلام ؛ فقد أقامت صروح العدل ، وشيّدت معالم الحق ، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين ، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد ، ووقفتا بصلابة لا يُعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين الذين أقامهم الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أعلاماً لاُمّته ، وخزنة لحكمته وعلومه .

فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سيد العترة الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) , رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام ، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد ، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فهي المؤسّسة الأولى بعد أبيها (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) لمذهب أهل البيت (عليهم السّلام) .

وكذلك وقفت ابنتها العقيلة أمام الحكم الاُموي الأسود الذي
الصفحة (56)

استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره ، وإقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي ، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي ؛ فوقفت حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد ، فحطّم أخوها بشهادته , وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي , ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين .
وعلى أي حال ، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسيّة لحفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وما تتمتّع به من القابليات الفذة التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين ، وفيما يلي ذلك :
الإيمان الوثيق

وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى ، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل ، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض ، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم .
لقد تغذّت حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif)بجوهر الإيمان وواقع الإسلام ، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها ، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها ، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب ، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة .
إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبويّة ومن أبرز خصائصهم .

ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) في دعائه : (( ما عبدتك طمعاً(*) في جنّتك ، ولا خوفاً من نارك ، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك )) ؟
ـــــــــــــــ
(*) ورد كلام الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) هنا بهذا النحو ( عبدتك لا طمعاً في ... ) , وما أثبتناه فهو من جلّ المصادر الاُخرى . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
الصفحة (57)

وهو القائل : (( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً )) .
أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص ، وذاب في محبّته , وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله ، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال ، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه ، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى .

فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى ، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال ، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة . لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة ، قال : (( لك العتبى يا ربّ ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل )) .

ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال : (( هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله ))(1) . أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له ؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله ؟
وكانت حفيدة الرسول زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)(http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله ؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس ، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه : اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 3 / 276 .
(2) المصدر السابق / 304 .



الصفحة (58)

إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها . لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان ؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل ؟
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة ، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي ، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا .
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله . لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها ، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان .

لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال ؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين ، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام ، وسلبوا ما على بنات رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة , وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها .
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء ، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه .
الصفحة (59)
الصبر

من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)(عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام ، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا ، فرُزئت بجدّها الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) الذي كان يحدب عليها ، ويفيض عليها بحنانه وعطفه ، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها ؛ فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر ، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر .

وتوالت بعد ذلك عليها المصائب ، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة .

وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين ، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويِّين ، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها .

إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه ، واستسلم للضعف النفسي , وما تمكن على مقاومة الأحداث ، ولكنّها (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم ، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى , وصابرة على بلائه ، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ )(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 155 ـ 157 .
الصفحة (60)

وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )(1) ، وقال تعالى : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(2) .

لقد صبرت حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله ، وقاومتهم بصلابة وشموخ ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب .
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها :
لـلهِ صـبرُ زيـنبَ العقيلهْ كـم شـاهدت مصائباً مهولهْ
رأت مِـنَ الخطوبِ والرزايا أمـراً تـهونُ دونـهُ المنايا
رأت كـرامَ قـومِها الأماجد مـجزّرينَ فـي صعيدٍ واحد
تـسفي على جسومِها الرياحُ وهـي لـذؤبانِ الـفلا تُباحُ
رأت رؤوسـاً بـالقنا تُـشالُ وجـثـثاً أكـفانُها الـرمالُ
رأت رضـيعاً بالسهامِ يفطمُ و صـبيةً بـعدَ أبيهم اُيتموا
رأت شـمـاتةَ الـعدو فـيها وصـنعهُ مـا شاءَ في أخيها
وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ وقـوفها بـين يـدي يـزيدِ

وقال السيد حسن البغدادي :
يـا قـلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ فـيكَ الـرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا
لو كانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا
يـكفيكَ صـبراً قـلوبَ الناسِ كلّهمُ تـفـطّرت لـلذي لاقـيتهُ جـزعا

لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر / 10 .
(2) سورة النحل / 96 .
الصفحة (61)
العزّة والكرامة

من أبرز الصفات النفسيّة الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)(عليها السّلام) هي العزّة والكرامة ؛ فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة ، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة , ومعها بنات رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة ، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم ، فترفّعت العقيلة أن تطلب من اُولئك الممسوخين ـ من شرطة ابن مرجانة ـ شيئاً من الطعام لهم .

ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة , وعلمنَ النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة , سارعنَ إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع ، فانبرت السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة : الصدقة محرّمة علينا أهل البيت .
ولمّا سمع أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام ، وأخذ بعضهم يقول لبعض : إنّ عمّتنا تقول : الصدقة حرام علينا أهل البيت .
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ! إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله .
ولمّا سُيّرت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34370)طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها ؛ فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من اُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب .
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة , والشرف والإباء ، فلم تخضع لأيّ أحدٍ مهما قست الأيام وتلبّدت الظروف ، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى .
الشجاعة

ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من
الصفحة (62)

الاُسرة النبويّة الكريمة ؛ فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله ، وهو القائل : (( لو تضافرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها )) .

وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة ، فجندل الأبطال وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر ، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده ، فهو معجزة الإسلام الكبرى ، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) مضرب المثل في بسالته وشجاعته ؛ فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه .

فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أيّ أحدٍ من أبطال العالم ؛ فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر ، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً . فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره ـ وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً ـ فحمل عليهم وحده , وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب ، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب ـ على حدّ تعبير بعض الرواة ـ وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كلّ جانب ، لم يوهن له ركن ولم تضعف له عزيمة .

يقول العلوي السيّد حيدر :
فـتـلـقّى الـجـمـوعَ فـــرداً ولكن كلُّ عضو في الروعِ منهُ جموعُ
رمـحهُ مـن بـنانهِ و كـأنّ مـن عـزمـهِ حــدُّ سـيـفهِ مـطبوعُ
زوّج الـسـيفَ بـالنفوسِ ولـكن مـهرُها الـموت والخضابُ النجيعُ

ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه ؛ خوفاً ورعباً منه . يقول السيد حيدر :
عـفيراً متى عاينتهُ الكماة يـختطف الرعبُ ألوانَها
فما أجلت الحربُ عن مثلهِ صـريعاً يـجبّنُ شجعانَه

يتبع

الشيخ عباس محمد
02-08-2015, 11:16 PM
وتمثّلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34371)(http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif) ؛ فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به ، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وكذّب اُحدوثتكم .
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر ، وهو غيرنا يابن مرجانة ...(1) .
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح ، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر ، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ ، وشهرت عليهنَّ سيوف الملحدين . لقد أنزلت العقيلة ـ بهذه الكلمات ـ الطاغية من عرشه إلى قبره ، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم ، وأنّ أخاها هو المنتصر .

ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، قائلاً : كيف رأيت صنع الله بأخيك(2) ؟
وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود ، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتُحاجّ وتُخاصم ، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة !
أرأيتم هذا التبكيت الموجع ؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية ؟ فقد سجّلت
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 263 .
(2) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34371)الكبرى / 61 .
الصفحة (64)

حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين , ومجداً خالداً للاُسرة النبويّة .
أمّا موقفها في بلاط يزيد ، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي ، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين ، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية .
الزهد في الدنيا

ومن عناصر سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34371)(عليها السّلام) الزهد في الدنيا ؛ فقد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها ، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين , زهراء الرسول .

فقد كانت ـ فيما رواه المؤرّخون ـ لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل , وجلد شاة ، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل ، وتطحن بيدها الشعير ، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا . وقد تأثّرت عقيلة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا ، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif)(1) .

وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار ؛ فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء , أخبرها بذلك أبوها ، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة ، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه ، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها ، وما يجري عليها بالذّات من الأسر والذلّ .

لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى .
ـــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 319 ، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركه 3 / 149 ، وابن الأثير في اُسد الغابة 5 / 523 ، والخطيب في تأريخ بغداد 7 / 36 ، وغيرهم .
الصفحة (65)
أحداث مروّعة(*)

وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34371)الصبا في كنف جدّها الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , وفي ذرى عطفه ، وهي ناعمة البال قريرة العين ، يتلقّاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم ، وترى أبويها وقد غمرتهما المودّة والاُلفة والتعاون ، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام .

وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز ، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه ؛ فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام . كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية ، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوّة ؛ فقد اندحرت وأذلّها الله ؛ فقد فتحت مكة وطُهّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تُعبد من دون الله تعالى .
ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدّها الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بأبيها واُمّها وأخويها ؛ فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته .وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها ، وهذه بعضها :
1 ـ روى زيد بن أرقم : أنّ رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) : (( أنا حربٌ لمَنْ حاربتم ، وسلم لمَنْ سالمتم ))(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(*) يبدو أنّ هذا العنوان قد وقع هنا سهواً من قِبل المؤلِّف أو الناسخ ؛ إذ لا توجد بينه وبين الموضوع الذي تصدّره أيّةُ علاقة ؛ اللهمَّ إلاّ إذا قلنا بشموليّته للعنوان وموضوعه الذي يأتي في أواخر الصفحة (67) وإن كان هذا بعيداً عنه . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(1) مسند أحمد 1 / 77 ، صحيح الترمذي 2 / 301 ، تهذيب التهذيب 10 / 430 ، وجاء فيه أنّ نصر بن عليّ حدّث بهذا الحديث ، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط ، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد , وجعل يقول له : إنّه من أهل السنّة . فلم يزل يترجّاه حتّى تركه .
الصفحة (66)

2 ـ روى أحمد بن حنبل بسنده : أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : (( مَنْ أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة ))(1) .
3 ـ روى أبو بكر قال : رأيت رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) خيّم خيمة ، وهو متكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : (( معاشر المسلمين ، أنا سلم لمَنْ سالم أهل الخيمة ، وحرب لمَنْ حاربهم ، ووليّ لمَنْ والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ , ردئ الولادة ))(2) .
4 ـ روى ابن عباس أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) قال : (( النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ))(3) .
5 ـ روى زيد بن أرقم أنّ رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) قال : (( إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ))(4) .
6 ـ روى أبو سعيد الخدري ، قال : سمعت النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يقول : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ؛ مَن ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق . وإنّما مثل أهل بيتي
ـــــــــــــــــــــ
(1) الرياض النضرة 2 / 252 .
(2) مستدرك الحاكم 3 / 149 ، كنز العمال 6 / 116 ، الصواعق المحرقة / 111 . نصّ الحديث : (( النجوم أمان لأهل الأرض , وأهل بيتي أمان لاُمّتي )) .
(3) صحيح الترمذي 2 / 308 ، اُسد الغابة 2 / 12 ، وما يقرب من هذا الحديث روي في كنز العمّال 1 / 48 ، مجمع الهيثمي 9 / 163 .
(4) مجمع الزوائد 9 / 168 ، مستدرك الحاكم 2 / 43 ، تأريخ بغداد 2 / 19 ، ذخائر العقبى / 20 .
الصفحة (67)

فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ؛ مَن دخله غفر له ))(1) .
7 ـ روى أبو برزة ، قال : صلّيت مع رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) سبعة أشهر ، فإذا خرج من بيته ، أتى باب فاطمة (عليها السّلام) ، فقال : (( السلام عليكم ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ))(2) .
رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) لأبيها واُمّها وأخويها ، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم ، وأنّه ليس مجرّد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة ، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة ، والقابليات الفذّة التي ترشّحهم لقيادة الاُمّة ، وتطويرها فكرياً واجتماعياً .

وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس ، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام ، والتزموا بحرفية الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) .
خطوب مروّعة

ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبويّة , فقد دهمتهم كارثة مروّعة ؛ فقد بدت على الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه ، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين , فاستشعر بدنوّ الأجل المحتوم منه(3) ، وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام) ، فقال لها :
ـــــــــــــــــــــ
(1) ذخائر العقبى / 24 ، روى أنس بن مالك : أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى الفجر , ويقول : (( الصلاة يا أهل البيت )) , ويتلو الآية الكريمة . جاء ذلك في مجمع الزوائد 9 / 169 ، أنساب الأشراف 1 / 157 ، القسم الأوّل .
(2) الخصائص الكبرى 2 / 368 .
(3) تأريخ ابن كثير 5 / 223 .
الصفحة (68)

(( إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وأنّه عارضني بهذا العام مرّتين ، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي ))(1) .
وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً ، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع ، وطافت بها وهي في فجر الصبا تيارات من الأسى .
ونزلت على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) سورة النصر , فكان يسكت بين التكبير والقراءة , ويقول : (( سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه )) .
وذهل المسلمون ، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة ، فأجابهم : (( إنّ نفسي قد نُعيت إليّ ))(2) .
وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع ؛ فقد وقع عليهم كالصاعقة ، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم .
رؤيا العقيلة

ورأت العقيلة في منامها رؤياً أفزعتها وأذهلتها , فأسرعت إلى جدّها الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) تقصّها عليه ، ولمّا مثلت عنده أجلسها في حجره , وجعله يوسعها تقبيلاً ، فقالت له : يا جدّاه ، رأيت رؤياً البارحة .
ـ (( قصّيها عليّ )) .
ـ رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منها وأظلمت ، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلّقت بها من شدّة العاصفة ، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض ، فتعلّقت بغصنٍ
ـــــــــــــــــــــ
(1) مناقب ابن شهرآشوب 1 / 167 .
(2) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34371)الكبرى / 19 .
الصفحة (69)

قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح ، فتعلّقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً ، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعها فكسرته العاصفة أيضاً ، ثمّ استيقظت من نومي .
فأجهش النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بالبكاء ، وفسّر لها رؤياها قائلاً : (( أمّا الشجرة فجدّك ، وأمّا الفرع الأوّل فاُمّك ، والثاني أبوك عليّ ، والفرعان الآخران هما أخواك الحسنان ، تسودّ الدنيا لفقدهم , وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم ))(1) .
وساد الحزن والأسى في البيت النبوي ، وصدقت رؤيا العقيلة , فلم تمض أيام حتّى رُزئت بجدّها واُمّها ، وتتابعت عليها بعد ذلك الرزايا ، فقد استشهد أبوها وأخواها ، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد .
حجة الوداع

ولمّا علم النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أنّ لقاءه بربّه قريب ، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم ، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحقّ والعدل .
وحجّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) لهذا الغرض ، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ (حجّة الوداع) ، وقد أشاع بين حجّاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم ، وأنّه سيسافر إلى الفردوس الأعلى ، وجعل يطوف بين الجماهير ويعرّفهم سبل النجاة ، ويرشدهم إلى ولاة اُمورهم من بعده قائلاً : (( أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم الثقلين ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ))(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الترمذي 2 / 308 .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 91 ـ 92 .



ثمّ وقف النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) عند بئر زمزم , وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسيّة ، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة : (( إنّي خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي , ألا هل بلّغت )) .
فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين : اللهمّ نعم(1) .
لقد عيّن الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) القيادة العامّة لاُمّته , وجعلها مختصة بأهل بيته ؛ فهم ورثة علومه ، وخزنة حكمته الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي ، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كلّ شيء .
مؤتمر غدير خم

وقفل النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب , وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن ينصب الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) خليفةً من بعده ، ومرجعاً عاماً للاُمّة . لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )(2) .
ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ؛ إذ إنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه ، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين . فانبرى (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) فحطّ أعباء المسير ، ووضع رحله في رمضاء الهجير ، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك ، وكان الوقت قاسياً في حرارته , فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه
ـــــــــــــــــــــ
(1) الغدير 2 / 34 .
(2) سورة المائدة / 67 . نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الواحدي في أسباب النزول , والرازي في تفسيره ، وغيرهما .
الصفحة (71)

ليتّقي به حرارة الأرض ، وقام النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) فصلّى بالناس ، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل ، فصُنع له ذلك فاعتلى عليه ، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، فخطب خطاباً مهمّاً أعلن فيه ما لاقه من عناء شاق في سبيل هدايتهم ، وتحرير إرادتهم ، وإنقاذهم من خرافات الجاهليّة وعاداتها .

ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه ، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، ثمّ التفت إليهم فقال : (( انظروا كيف تخلفوني في الثقلين )) .
فناداه منادٍ من القوم : ما الثقلان يا رسول الله ؟
فأجابه : (( الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر : عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا )) .
ثمّ أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ليفرض ولايته على جميع المسلمين , فرفعها حتّى بان بياض إبطيهما ، ونظر إليهما القوم , ورفع النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) صوته قائلاً : (( أيّها الناس ، مَنْ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ )) . فانبرت قوافل الحجّاج رافعة عقيرتها : الله ورسوله أعلم .
ووضع النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً : (( إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه )) .
الصفحة (72)

وكرّر هذا القول ثلاث مرّات أو أربع , ثمّ قال : (( اللّهمّ وال مَنْ والاه ، وعاد مَنْ عاداه ، وأحبّ مَنْ أحبّه ، وأبغض مَنْ أبغضه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار . ألا فليبلغ الشاهد الغائب )) .
لقد أدّى النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) رسالة ربّه ؛ فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده ، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة ، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة , ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم ، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئنَ الإمام بهذا المنصب العظيم ففعلنَ ، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه ، وقال له : هنيئاً يابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(1) .
وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً )(2) .
قد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، وقد خطا النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته ، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف ؛ فنصب لها القائد والموجّه , ولم يتركها فوضى ـ كما يزعمون ـ تتلاعب بها الفتن والأهواء , وتتقاذفها أمواج من الضلال .

إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلّة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبي الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده ؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 4 / 281 .
(2) سورة المائدة / 3 . نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 8 / 29 ، السيوطي في الدر المنثور ، وغيرهما من أعلام أهل السنّة .
الصفحة (73)

لقد وعت سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34371)(عليها السّلام) وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها ، وأنّ جدّها قد قلّده بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها ، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم ، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض ، ولكنّ القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب ، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة ، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب ، وتجرّعت حفيدة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بالذّات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة ـ من دون شك ـ عن هذه المؤامرة التي حيكت ضدّ أبيها ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
مرض النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif)

ولمّا قفل النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم ، فقد ألمّ به المرض ، وأصابته حمّى مبرحة حتّى كأنّ به لهباً منها ، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجه وعوّاده عليها أيديهم شعروا بحرّها(1) .

وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد , فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف ، وكان (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يقول : (( ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ (خيبر) ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم ))(2) ؛ فقد قدّمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه .
ولمّا اُشيع مرض النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) هرع المسلمون إلى عيادته ، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول ، فنعى (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) إليهم نفسه , وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً : (( أيّها الناس ، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقدّمت إليكم القول
ـــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 5 / 226 .
(2) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34371)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 1 / 202 .
الصفحة (74)

معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي )) .
ثمّ أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، فقال لهم : (( هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض ))(1) .
لقد قرّر النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أهم القضايا المصيرية لاُمّته ، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها .
سرية اُسامة

ورأى النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وهو في المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صمّمت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة ، فرأى أنّ خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزجّ بجميع أصحابه في بعثة عسكرية , حتّى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادّة لوليّ عهده ؛ فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد ، وهو شاب في مقتبل العمر ، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر , وأبو عبيدة الجراح وبشير بن سعد(2) .

وقال النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) لاُسامة : (( سِر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل ؛ فقد ولّيتك هذا الجيش , فاغزُ صباحاً على أهل أبنى(3) , وحرّق عليهم ، وأسرع السير لتسبق الأخبار ، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاء , وقدّم العيون والطلائع معك )) .
ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة ، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم
ـــــــــــــــــــــ
(1) الصواعق المحرقة / 124 .
(2) كنز العمّال 5 / 312 ، طبقات ابن سعد 4 / 46 ، تأريخ الخميس 2 / 46 .
(3) ابنى : ناحية بالبلقاء من أرض سوريا ، بين عسقلان والرملة ، تقع بالقرب من مؤتة ، وهي التي استشهد فيها زيد بن حارثة وجعفر الطيّار .
الصفحة (75)

العسكرية ، ولمّا علم النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بذلك تألّم ، فخرج مع ما به من المرض , فحثّ الجند على المسير , وعقد بنفسه اللواء لاُسامة ، وقال له : (( اغزُ بسم الله , وفي سبيل الله ، وقاتل مَنْ كفر بالله )) .
فخرج اُسامة بلوائه معقوداً ودفعه إلى بريده ، وعسكر بـ (الجرف) ، وتثاقل جمع من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر ، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش .

يقول له عمر : مات رسول الله وأنت عليَّ أمير ؟!
وانتهت كلماته إلى النبيّ (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماً ، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض ، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه ، فقال : (( أيّها الناس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة ، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله . وأيم الله ، إنّه كان خليقاً بالإمارة , وإنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها )) .
ثمّ نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(1) , وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً : (( جهّزوا جيش اُسامة , نفّذوا جيش اُسامة , لعن الله مَنْ تخلّف عن جيش اُسامة )) .
ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة ؛ فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش , واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير ، وهو (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) لم يمنحهم العذر ، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا ؛ فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم ، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب .
ـــــــــــــــــــــ
(1) السيرة الحلبية 3 / 34 .رزية يوم الخميس

وأحاط النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) علماً بالتحرّكات السياسيّة من بعض أصحابه , وأنّهم عازمون ومصرّون على صرف الخلافة عن أهل بيته ، وإفساد ما أعلنه غير مرّة من أنّ عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده ، فرأى (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أن يحكم الأمر ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ ، فقال لمَنْ حضر في مجلسه : (( ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ))(1) .
حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام ، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أنّ اُمّته لا تُصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب .
ما أعظم هذه النعمة على المسلمين ، إنّه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضلّ اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها ، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، إنّه سينصّ على خلافة عليّ من بعده ، ويعزّز بيعة يوم الغدير ، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم ، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف : حسبنا كتاب الله .
ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يوصي بحماية الثغور , أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة ، ولكنّه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده .
وكثر الخلاف بين القوم ؛ فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) . وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وهو في الساعات الأخيرة من حياته ، فقلن لهم : ألا تسمعون ما يقول رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ؟!
فثار عمر وصاح فيهنّ ؛ خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه ، فقال للسيدات :
ـــــــــــــــــــــ
(1) الرواية أخرجها البخاري ومسلم ، والطبراني في الأوسط ، وغيرهم .
الصفحة (77)

إنكنّ صويحبات يوسف ؛ إذا مرض عصرتنَّ أعينكنَّ ، وإذا صح ركبتنَّ عنقه .
فنظر إليه النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بغضبٍ وغيظٍ ، وقال له : (( دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم )) .
وبدا صراع رهيب بين القوم ، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته ، فقال ـ ويا لهول ما قال ـ : إنّ النبيّ ليهجر(1) .
ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يُتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته ؛ فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف ، وإنّه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته ، قال تعالى : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )(2) ، وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ )(3) .
إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبي وتكامل ذاته ، ولكن حبّ الدنيا والتهالك على السلطة دفهم للجرأة على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته .
وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتّى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ ، وهو يصعد آهاته ويقول : يوم الخميس ! وما يوم الخميس ! قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) : (( ائتوني بالكتف
ـــــــــــــــــــــ
(1) نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع الرواة والمؤرّخين في الإسلام ، ذكرها : البخاري في صحيحه عدّة مرّات ، إلاّ أنّه كتم اسم قائلها , وفي نهاية غريب الحديث ، وشرح النهج 3 / 114 (صُرّح باسم القائل) .
(2) سورة النجم / 2 ـ 5 .
(3) سورة التكوير / 19 ـ 22 .
الصفحة (78)

والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً )) . فقالوا : إنّ رسول الله يهجر(1) .
حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى ؛ فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال .
لقد وعت السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34372)هذا الحادث الخطير ، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه ، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم ، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث .
لوعة الزهراء (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif)

ونخب الحزن قلب بضعة الرسول ، وبرح بها الألم القاسي , وذهبت نفسها شعاعاً حينما علمت أنّ أباها مفارق لهذه الحياة ؛ فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنّها تعاني آلام الاحتضار , وسمعته يقول : (( واكرباه ! )) .
فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة : (( وا كربي لكربك يا أبتي ! )) .
وأشفق الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) على بضعته ، فقال لها مسلّياً : (( لا كرب على أبيك بعد اليوم ))(2) .
وهامت زهراء الرسول في تيّارات مروعة من الأسى والحزن , فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها ، وأراد النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) أن يسلّيها ويخفّف لوعة مصابها , فأسرّ إليها بحديثٍ ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع ، ثم أسرّ إليها ثانياً ، فقابلته
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 1 / 355 ، وغيره .
(2) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34372)الإمام الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 1 / 112 .
الصفحة (79)

ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور ، فعجبت عائشة من ذلك , وراحت تقول : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن .
وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها ، فأشاحت بوجهها الكريم عنها , وأبت أن تخبرها ، ولكنّها أخبرت بعض السيّدات بذلك ، فقالت : (( أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وأنّه عارضني في هذا العام به مرّتين ، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي )) .
وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها ، أمّا سبب سرورها وابتهاجها ، فقالت : (( أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي ، ونِعمَ السلف أنا لك ، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة ؟ ))(1) .
ونظر إليها النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وهي خائرة القوى ، منهدّة الركن ، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب قائلاً : (( يا بُنيّة ، لا تبكي ، وإذا متّ فقولي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ؛ فإنّ فيها من كلّ ميّت معوضة )) .
وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً : (( ومنك يا رسول الله ؟ )) .
(( نعم ، ومنّي ))(2) .
واشتدّ المرض برسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) والزهراء إلى جانبه , وهي تبكي وتقول لأبيها : (( يا أبت ، أنت كما قال القائل فيك :
ـــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق / 113 .
(2) أنساب الأشراف 1 / 133 ، القسم الأوّلوأبـيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأراملِ ))

فقال لها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) : (( هذا قول عمّك أبي طالب )) . وتلا قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )(1) .
وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها ، فانكبّت عليه ومعها الحسنان ، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء ، فأجهش النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بالبكاء ، وهو يقول : (( اللّهمّ أهل بيتي ، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن )) .
وجعل يردّد ذلك ثلاث مرّات حسبما يرويه أنس بن مالك(2) .
أمّا حفيدة الرسول زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34372)فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها ، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيّارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة .
إلى الفردوس الأعلى

وبعدما أدّى النبي العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين ، وأقام صروح الإسلام ، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى ، فقد هبط عليه ملك الموت ، فاستأذن بالدخول عليه ، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) مشغول بنفسه عنه ، فانصرف ثمّ عاد بعد قليل يطلب الإذن ، فأفاق النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) من إغمائه ، والتفت إلى بضعته فقال لها : (( يا بُنية ، أتعرفينه ؟ )) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف 1 / 133 ، القسم الأوّل .
(2) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34372)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 1 / 216 .



ـ (( لا يا رسول الله )) .
ـ (( إنّه معمّر القبور ، ومخرّب الدور ، ومفرّق الجماعات )) .
وجمدت بضعة الرسول ، وأخرسها الخطب ، ولم تملك نفسها أن رفعت صوتها ودموعها تتبلور على وجهها الشريف قائلةً : (( وا أبتاه لخاتم الأنبياء ! وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء , ولانقطاع سيّد الأصفياء ! وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء ! فقد حُرمت اليوم كلامك )) .
وتصدّع قلب النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) على بضعته , وأشفق عليها ، فقال لها مسلّياً : (( لا تبكي ؛ فإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي ))(1) .
وسكنت روعتها لمّا أخبرها أنّها لا تبقى بعده إلاّ قليلاً .. وأذن النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) لملك الموت ، فلمّا مثلَ أمامه ، قال له : يا رسول الله ، إنّ الله أرسلني إليك ، وأمرني أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني ؛ إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها ، وإن أمرتني أتركها تركتها .
فبُهر النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وقال له : (( أتفعل يا ملك الموت ذلك ؟! )) .
ـ بذلك اُمرت أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني .
وهبط جبرئيل على النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، فقال له : يا أحمد ، إنّ الله قد اشتاق إليك(2) .
واختار النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) جوار ربّه والرحيل عن هذه الدنيا ، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة ، وفي هذه اللحظات ألقى الحسنان بأنفسهما على جدّهما وهما يذرفان الدموع , والنبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يوسعهما تقبيلاً ، وأراد الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) أن ينحّيهما عنه , فأبى النبيّ (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وقال له :
ـــــــــــــــــــــ
(1) درّة الناصحين / 66 .
(2) طبقات ابن سعد 2 / 48 .
الصفحة (82)

(( دعهما يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما ؛ فسيصيبهما بعدي أثرة )) .
والتفت النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) إلى عوّاده فأوصاهم بعترته قائلاً : (( قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ))(1) .
والتفت النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، فقال له : (( ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله ؛ فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك ، ثم وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رِمسي ، واستعن بالله عزّ وجلّ ))(2) .
وأخذ الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) رأس النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) فوضعه في حجره ، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه , وشرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة ، والرسول يعاني آلام الموت وقسوته حتّى فاضت روحه العظيمة , فمسح بها الإمام وجهه(3) .
لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء العقول وحرّر الأفكار ، وأقام مشاعل النور في جميع بقاع الأرض . لقد سمت روح النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) إلى بارئها ، وهي أقدس روح سمت إلى السماء منذ خلق الله هذه الأرض . لقد أشرقت الآخرة لقدومه ، وأظلمت الدنيا لفقده ، وما أصيبت الإنسانيّة بكارثة أقسى وأعظم من فقد الرسول العظيم .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين ـ الخوارزمي 1 / 114 .
(2) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34372)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 1 / 220 .
(3) المناقب 1 / 29 ، وتضافرت الأخبار بأنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) توفّي ورأسه الشريف في حجر الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، جاء ذلك في كنز العمّال 2 / 55 ، طبقات ابن سعد ، وغيرهما .
الصفحة (83)
تجهيزه (صلوات الله عليه وعلى آله)

وانبرى الإمام أمير الؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) وهو خائر القوى ، منهدّ الركن إلى تجهيز جثمان سيد الأنبياء (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) فغسّل الجسد الطاهر ، وهو يقول بذوب روحه : (( بأبي أنت واُمّي ! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء ، خصصت حتّى صرت مسلّياً عمّن سواك ، وعممت حتّى صار الناس فيك سواء . ولولا أنّك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلاً ، والكد مخالفاً ))(1) .
وكان العباس واُسامة يناولانه الماء من وراء الستر(2) .

وكان بدن رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) تفوح منه روائح الطيب ، والإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) يقول : (( بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! طبت حيّاً وميّتاً ))(3) . وبعد الفراغ من غسله أدرجه الإمام في أكفانه ووضعه على السرير . وأوّل مَنْ صلّى على الجثمان العظيم هو الله تعالى من فوق عرشه ، ثمّ جبرئيل ، ثمّ إسرافيل ، ثمّ الملائكة زمراً زمراً(4) .
وبعد ذلك صلّى عليه الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، ثمّ أقبل المسلمون للصلاة عليه ، فقال لهم الإمام : (( لا يقوم عليه إمام منكم ، هو إمامكم حيّاً وميّتاً )) . فكانوا يدخلون رسلاً رسلاً فيصلون عليه صفاً واحداً , ليس لهم إمام ، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان , وهو يقول : (( السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته . اللّهمّ إنّا نشهد أنه قد بلّغ ما
ـــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 2 / 255 .
(2) وفاء الوفاء 1 / 227 ، البداية والنهاية 5 / 63 .
(3) حلية الأولياء 4 / 77 .
(4) المصدر السابق .
الصفحة (84)

اُنزل إليه , ونصح لاُمّته ، وجاهد في سبيل الله حتّى أعزّ الله دينه , وتمّت كلمته ... اللّهمّ فاجعلنا ممّن يتّبع ما اُنزل إليه , وثبّتنا بعده , واجمع بيننا وبينه ... )) .
وكانت الجماهير تقول : آمين(1) . وقد نخب الحزن قلوبهم فقد مات مَنْ دعاهم إلى الحقّ ، وحرّرهم من خرافات الجاهليّة وأوثانها ، وأقام لهم دولة تدعو إلى إنصاف المظلوم ، وردع الظلم ، وإشاعة الرفاهية والرخاء والأمن بين الناس .
مواراة الجثمان المقدّس

وبعد أن فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير ، قام الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) فوارى الجسد الطاهر في مثواه الأخير , ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، ويقول : (( إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وإنّ المصاب بك لجليل ، وإنّه قبلك وبعدك لجلل ))(2) .
لقد مادت أركان العدل , وانطوت ألوية الحقّ ؛ فقد غاب عن هذه الحياة سيّد الكائنات الذي غيّر مجرى التأريخ ، وأقام صروح الوعي والفكر في دنيا العرب والإسلام .
فجيعة الزهراء (عليها السّلام)

وكان أكثر أهل بيت النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) جزعاً وأشدّهم مصاباً بضعة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وحبيبته فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ فقد أشرفت على الموت وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه ، وتقول : (( وا أبتاه ! وا رسول الله ! وا نبيّ الرحمتاه ! الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقطع
ـــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمّال 4 / 54 .
(2) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 3 / 224 . عنّا جبرئيل . اللّهمّ ألحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر إلى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة ))(1) .
وقالت بذوب روحها : (( وا أبتاه ! إلى جبرئيل أنعاه ، وا أبتاه ! جنّة الفردوس مأواه ، وا أبتاه , وا أبتاه ! أجاب رباً دعاه )) .
وأحاطت بالاُسرة النبويّة موجات من الأسى والحزن على هذا المصاب العظيم كما أحاطت بها تيّارات من الفزع والخوف ؛ لأنّ رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) قد وتر الأقربين والأبعدين , فخافوا من انقضاض العرب عليهم ، يقول الإمام الصادق (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) : (( لمّا مات النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) بات أهل بيته كأن لا سماء تظلّهم , ولا أرض تقلّهم ؛ لأنّه وتر الأقرب والأبعد )) .
لقد عانت حفيدة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34372)(عليها السّلام) وهي في سنّها المبكّر هذه المصيبة الكبرى وما تنطوي عليها من أبعاد ، وما ستعانيه هي وأهلها من فوادح الرزايا بعد وفاة جدّها , كما فقدت بموته العطف والحنان الذي كان يغدقه عليها , وكان عمرها الشريف خمس سنين .

وقد غزت قلبها هذه المحنة الشاقة ؛ فقد رأت جدّها يوارى في مثواه الأخير ، ورأت أباها بادي الهمّ والحزن على فراق ابن عمّه ، وشاهدت اُمّها الرؤوم وهي ولهى قد ذابت من الأسى ، وهي تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة ، ومنذ ذلك اليوم لازمها الأسى والحزن حتّى لحقت بالرفيق الأعلى .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الخميس 2 / 192 .


يتبع

الشيخ عباس محمد
02-08-2015, 11:18 PM
في عهد الخلفاء

لا يستطيع أيّ كاتب مهما كان بارعاً في تصوير دقائق النفوس ، وكشف أسرار المجتمع وأحداث التأريخ أن يصوّر بدقّة عمق الكوارث والأوبئة التي داهمت الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة نبيّها العظيم ، كما صوّرها القرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... )(1) .
إنّه تصوير هائل للأزمات المفجعة والنكبات السود التي مُني بها العالم الإسلامي ، إنّه انقلاب على الأعقاب ، وانسلاخ عن العقيدة الإسلاميّة ، وتدمير لشريعة الله ، فأيّ زلزال مدمّر كهذا الزلزال الذي عصف بالاُمّة الإسلاميّة وأخلد لها الفتن والكوارث على امتداد التأريخ .
وكان من أقسى ما فُجعت به الاُمّة إبعاد العترة الطاهرة عن المسرح السياسي وتحويل القيادة إلى غيرها ، الأمر الذي نجم عنه فوز الاُمويِّين وغيرهم بالحكم ، وإمعانهم بوحشية قاسية في ظلم العلويِّين ومطاردتهم ، ومجزرة كربلاء كانت من النتائج المباشرة لصرف الخلافة عن أهل البيت (عليهم السّلام) .
وعلى أيّ حال ، فإنّا نعرض ـ بإيجاز ـ لبعض تلك الأحداث ، والتي منها حكومة الخلفاء الذين عاصرتهم حفيدة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ؛ فإنّ بها ترتبط ارتباطاً موضوعياً بالكشف عن حياتها وما عانته من كوارث وأهوال ، وفيما يلي ذلك :
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 144 .
الصفحة (88)
مؤتمر السقيفة

أمّا مؤتمر السقيفة فهو مصدر الفتنة الكبرى التي مُني بها المسلمون والتي كان من جرّائها الأحداث المروّعة التي رُزئ بها أهل البيت (عليهم السّلام) . يقول الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء :
تاللهِ مـا كـربلا لولا (سقيفتُهمْ) ومثل هذا الفرعِ ذاك الأصل أنتجه

ويقول بولس سلامة :
وتوالت تحتَ السقيفةِ أحدا ثٌ أثـارت كوامناً وميولا
نزعات تفرّقت كغصونِ الـ ـعوسج الخفيّ شائكاً مدخولا

لقد أسرع الأنصار إلى عقد مؤتمرهم في (سقيفة بني ساعدة) لترشيح أحدهم لمنصب الخلافة , وإقامة حكومة تضمن مصالحهم وترعى شؤونهم . لقد عقدوا مؤتمرهم في وقت كان جثمان الرسول الأعظم (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) لم يوارَ في مثواه الأخير ، وأكبر الظنّ إنّما قاموا بهذه السرعة الخاطفة بذلك ؛ لأنّهم خافوا من استيلاء المهاجرين على الحكم ، فقدر رأوا تحرّكهم السياسي في صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) وكراهيتهم له .
وعلى أيّ حال ، فقد خطب سعد بن عبادة زعيم الخزرج في الأنصار ، وكان منطق خطابه الإشادة بنضال الأنصار وجهادهم في نصرة الإسلام وقهر القوى المعادية لهم ، فهم الذين حملوا النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ونصروه في أيام محنته ، فإذاً هم أولى بمركز النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , وأحقّ بمنصبه من غيرهم .

كما حفل خطابه بالتنديد بالاُسر القرشية التي ناهضت النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , وناجزته الحرب حتّى اضطر للهجرة إلى يثرب ، فهم خصومه وأعداؤه , ولا حقّ لهم بأيّ حالٍ في التدخّل بشؤون الدولة ومصيرها .

وقام زعيم آخر من الأنصار هو الحبّاب بن المنذر ، فحذّر الأنصار من القرشيّين ،
الصفحة (89)

وأهاب بهم أن يجعلوا لهم نصيباً في الحكم ، قائلاً : لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم مَنْ قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم .
وتحقّق تنبؤ الحبّاب ؛ فإنّه لم يكن ينتهي حكم الخلفاء حتّى آل الأمر إلى الاُمويِّين , فأمعنوا في إذلال الأنصار , وإشاعة البؤس والفقر فيهم ، وقد انتقم منهم معاوية كأشرّ وأقسى ما يكون الانتقام .

ولمّا وليَ الأمر من بعده يزيد جهد في الوقيعة بهم ، فأباح أموالهم ودماءهم وأعراضهم لجيوشه في واقعة (الحرّة) التي اُنتهكت فيها جميع ما حرّمه الله .
وعلى أيّ حال ، فقد تجاهل سعد وغيره من الأنصار الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) الذي هو من النبيّ بمنزلة هارون من موسى ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، وسيّد عترته .

ولا نرى أيّ مبرر لسعد في إغضائه وتجاهله حقّ الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، فقد فتح باب الشرّ على الاُمّة ، وأخلد لها المصاعب والفتن على امتداد التأريخ .
مباغتة الأنصار

وحينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة , إذ خرج من مؤتمرهم عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وكانا من أولياء أبي بكر , ومن أعضاء حزبه ، وكانا يحقدان على سعد ، فانطلقا مسرعَين إلى أبي بكر فأخبراه بالأمر .

ففزع أبو بكر وأسرع ومعه عمر وأبو عبيدة الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة وآخرون من المهاجرين(1) ، فكبسوا الأنصار في ندوتهم ، فذُهل الأنصار وأُسقط ما بأيديهم ؛ لأنّهم أحاطوا ندوتهم بسريّة وكتمان ، وتغيّر لون سعد ، فقد انهارت جميع مخطّطاته ، وفشلت جميع تدابيره .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 62 .
الصفحة (90)
خطاب أبي بكر

واستغلّ أبو بكر الموقف ، وأراد صاحبه عمر أن يفتح الحديث مع الأنصار ، فنهره أبو بكر ؛ لعلمه بشدّته وهي لا تساعد في مثل هذا الموقف الملبّد الذي يجب أن تستعمل فيه الأساليب السياسيّة والكلمات الناعمة لكسب الموقف .

فبادر أبو بكر فخاطب الأنصار بكلمات معسولة وبسمات فيّاضة بالبشر ، قائلاً : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم الإسلام وواسيتم فجزاكم الله خيراً ، فنحن الاُمراء وأنتم الوزراء .

لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، فلا تنفسوا على إخوتكم المهاجرين ما فضّلهم الله به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين , يعني عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجراح(1) .
ولم يعرض هذا الخطاب إلى وفاة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) التي هي أعظم كارثة مُني بها المسلمون ، فكان الواجب أن يُعزّي المسلمين بوفاة منقذهم ونبيّهم ، كما أنّ الواجب يقضي بتأخير المؤتمر إلى بعد مواراة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) حتّى يجتمع جميع المسلمين وينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم مَنْ شاؤوا .
وشيء آخر في هذا الخطاب أنّه لم يمعن إلاّ بطلب الإمرة والسلطان ؛ فقد طلب من الأنصار أن يتنازلوا عن الخلافة إلى المهاجرين ، وأنّهم سينالون عوض ذلك الوزارة ، إلاّ أنّه لمّا تمّ الأمر لأبي بكر أقصاهم ولم يمنحهم أيّ منصبٍ من مناصب الدولة .
وممّا يؤخذ على هذا الخطاب أنّه تجاهل بصورة كاملة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين هم
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 62 .
الصفحة (91)

وديعة النبي في اُمّته ، والثقل الأكبر فيها ، فلم يُشر إليهم أبو بكر بقليل ولا بكثير .
بيعة أبي بكر

وانبرى حزب أبي بكر إلى تأييده ، فكان من أعظم المناصرين له عمر بن الخطاب ، وسارع إلى بيعته مع بقية أعضاء حزبه خوفاً من تطوّر الأحداث ، واشتدّ عمر في إرغام الناس على بيعة أبي بكر ، وقد لعبت درّته شوطاً في الميدان ، وقد سمع الأنصار يقولون : قتلتم سعداً ! فجعل يقول بعنف : اقتلوه ! قتله الله ؛ فإنّه صاحب فتنة(1) .
وبعدما تمّت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة الخاطفة أقبل به حزبه يزفّونه زفاف العروس إلى مسجد رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، ولم يشترك أبو بكر ولا أيّ فرد من حزبه في تشييع جثمان رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ومواراته ؛ فقد انشلغوا بالمُلك والسلطان وتدبير اُمورهم .
لقد أُهمل في بيعة أبي بكر رأي العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم ، فلم يُعنَ بها , ولم يُؤخذ رأيها ، ومنذ ذلك اليوم واجهت جميع ألوان الرزايا والنكبات ، وما كارثة كربلاء وغيرها من مآسي العترة الطاهرة إلاّ وهي متفرّعة من يوم السقيفة حسبما نصّت عليه الوثائق التاريخية والدراسات العلميّة .
امتناع الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) عن البيعة

والتاع الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) من بيعة أبي بكر ، واعتبرها تعدّياً صارخاً عليه ، فقد كان محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 62 .


الطير على حدّ تعبيره ، وقد تخلّف عن بيعة أبي بكر وأعلن معارضته لها ، وقد شاع ذلك بين المسلمين . ومَنْ يقرأ نهج البلاغة يجد فيه لواحات من تذمّره وأساه على ضياع حقّه .
إرغامه على البيعة

وأجمع أبو بكر وسائر أعضاء حزبه على إرغام الإمام على البيعة لأبي بكر وحمله بالقوّة عليها ، فأرسلوا إليه شرطتهم فكبسوا داره وأخرجوه منها بالقسر والقوّة ، وجاءوا به إلى أبي بكر ، فصاحوا به : بايع أبا بكر ...
فأجابهم الإمام بمنطقه الفيّاض وحجّته الحاسمة ، قائلاً : (( أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا اُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً !
ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) منكم ، فأعطوكم المقادة , وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ؛ نحن أولى برسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون )) .
وأعلن الإمام بهذا الخطاب الرائع أنّه أولى بمركز النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وأحقّ بخلافته من غيره ، فهو أقرب الناس وألصق بالرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) من المهاجرين الذين فازوا بالحكم لقربهم من النبي ، فهو ابن عمّه وأبو سبطيه ، ولا يملك أحد من القرب إلى النبي غيره .

وثار ابن الخطاب بعد أن أعوزته الحجّة والبرهان ، فاندفع بعنفٍ قائلاً : إنّك لست متروكاً حتّى تبايع .
الصفحة (93)

فزجره الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) قائلاً : (( احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره ، يردده عليك غداً )) .
وكشف الإمام الوجه في اندفاع ابن الخطاب وتهالكه على نصرة أبي بكر ؛ فإنّه يأمل أن ترجع إليه الخلافة والملك بعد أبي بكر .
وثار الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) وهتف قائلاً : (( والله يا عمر ، لا أقبل قولك ولا أبايعه )) .
وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث ، وخشي أن ترجع إلى المسلمين حوازب أحلامهم فيقصوه عن منصبه ، فخاطب الإمام بناعم القول : إن لم تبايع فلا اُكرهك .
وانبرى أبو عبيدة بن الجراح وهو من أبرز حزب أبي بكر ، فخاطب الإمام قائلاً : يابن عمّ ، إنّك حدث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتم بالاُمور ، ولا أرى إلاّ أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ؛ فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق ، وبه حقيق ؛ في فضلك ودينك , وعلمك وفهمك , وسابقتك ونسبك وصهرك .
وليس في هذا القول إلاّ الخداع والتضليل ؛ فإنّ التقدّم في السن ليس له أيّ ترجيح في منصب الخلافة التي تتطلّب الطاقات الخلاّقة بما تحتاج إليه الاُمّة في الميادين السياسيّة والاقتصادية والقضائية ، ولا يملك أحد المسلمين ذلك غير الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) .
وأثارت مخادعة أبي عبيدة كوامن الألم في نفس الإمام ، فانبرى يخاطب المهاجرين قائلاً :
الصفحة (94)

(( الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ؛ فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ؛ لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم .

ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الاُمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ؟ والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ))(1) .
وحفلت هذه الكلمات بالصفات الرفيعة الماثلة في أهل بيت النبوّة من الفقه بدين الله ، والعلم بسنن رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، والإحاطة بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاقتصادية والسياسيّة ولا تتوفّر بعض هذه الصفات في غيرهم ، ولو أنّ القوم استجابوا لنداء الإمام لجنّبوا العالم الإسلامي الكثير من المشكلات والأزمات ولكنّهم انسابوا وراء أطماعهم وشهواتهم وتهالكهم على الإمرة والسلطان .
وعلى أيّ حال ، فقد رجع الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) إلى داره لم يبايع أبا بكر ، وقد أحاطت به موجات من الأسى على ضياع حقّه وحرمان الاُمّة من قيادته ، وقد التاعت سيّدة النساء زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34373)وغزاها الحزن على ما حلّ بأبيها من الآلام والكوارث ؛ فقد رأته جالساً في بيته يساور الهموم والأحزان ، وحوله اُمّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وهي تبكي أباها , وتندبه بأشجى ما تكون الندبة ، وقد شاركت زوجها في مصابه على ضياع حقّه ، ونهب مركزه ومقامه .
إجراءات صارمة

وقضت سياسة أبي بكر أن يقابل الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) بجميع الإجراءات الصارمة ؛
ــــــــــــــــ
(1) الإمامة والسياسة 1 / 11 ـ 12 .
الصفحة (95)

لأنّه الممثّل الوحيد للقوى المعارضة لحكومته . ومن بين تلك الوسائل التي سلكها أبو بكر :
1 ـ إسقاط الخمس

أمّا الخمس فهو حقّ مفروض لآل رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) نصّ عليه القرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )(1) ، وأجمع الرواة أنّ النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أرحامه بسهم آخر منه ، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى جواره .

ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبي , وسهم ذي القربى ، ومنع بني هاشم من الخمس(2) ؛ وبذلك فقد قضى على أهم مورد اقتصادي لهم . وقد أرسلت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) إلى أبي بكر تسأله أن يدفع إليها ما بقي من خمس (خيبر) ، فأبى أن يدفع إليها شيئاً(3) ؛ وبذلك فقد ترك شبح الفقر على آل النبي ، وحجب عنهم ما فرضه الله لهم .
2 ـ الاستيلاء على تركة النبيّ (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif)

واستولى أبو بكر على جميع ما تركه الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) من بلغة العيش وحازه إلى بيت المال ، وبذلك فقد فرض حصاراً اقتصادياً على آل الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) حتّى لا يتمكّنون من القيام بأيّ حركة ضدّه .
3 ـ تأميم فدك

وأمّم أبو بكر (فدكاً) وصادرها من أهل البيت ، ومنعهم من أخذ وارداتها ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنفال / 41 .
(2) الكشّاف 2 / 158 ـ 159 (في تفسير آية الخمس) .
(3) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34373)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 1 / 260 .
الصفحة (96)

وقد ضيّق عليهم بذلك غاية التضييق ، ومنع عنهم جميع وسائل العيش .
الزهراء (عليها السّلام) مع أبي بكر

والتاعت بضعة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) من أبي بكر ؛ فقد سدّ عليها جميع نوافذ الحياة الاقتصادية ، فخرجت (http://im46.gulfup.com/vep8zA.gif) غضبى , فلاثت خمارها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية أبيها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) حتّى دخلت على أبي بكر وهو في جامع أبيها ، وكان في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة .

فوقفت مفخرة الإسلام فأنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء , وارتجّ المجلس ، فأمهلتهم حتّى إذا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد الله والثناء عليه ، وانحدرت في خطابها كالسيل ، فلم يُسمع أخطب ولا أبلغ منها ، وحسبها أنّها بضعة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) الذي أفاض عليها بمكرمات نفسه ، وغذّاها بحكمه وآدابه .
وتحدّثت في خطابها عن معارف الإسلام ، وفلسفة تشريعاته ، وعلل أحكامه ، وعرضت إلى الحالة الراهنة التي كانت عليها اُمم العالم وشعوب الأرض قبل أن يشرق عليها نور الإسلام ؛ فقد غرقت الاُمم بالجهل والانحطاط خصوصاً (الجزيرة العربية) ؛ فقد كانت في أقصى مكان من الذلّ والهوان ، وكانت الأكثرية الساحقة تقتاد القِدّ ، وتشرب الطَرق ، وترسف في قيود الفقر والبؤس إلى أن أنقذها الله بنبيّه محمّد (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، فرفعها إلى واحات الحضارة وجعلها سادة الاُمم والشعوب ، فما أعظم عائدته على العرب والمسلمين !
وعرضت سيّدة نساء العالمين في خطبتها إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، وعظيم جهاده في نصرة الإسلام ، وذبّه عن حياض الدين ، في حين أنّ المهاجرين من قريش بالخصوص كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين ، لم يكن لهم أيّ ضلع في نصرة القضية الإسلاميّة والدفاع عنها , فلم يُؤثر عن أعلامهم أنّهم قتلوا مشركاً , أو برزوا ببسالة وصمود إلى مقارعة الأقران في الحروب ، وإنّما كانوا ينكصون عند النزال ، ويفرّون من القتال ـ على حدّ تعبيرها ـ وكانوا يتربّصون الدوائر بأهل بيت النبوّة , ويتوقعون بهم نزول الأحداث .
وأعربت مفخرة الإسلام في خطابها عن أسفها البالغ على ما مُني به المسلمون من الزيغ والانحراف , والاستجابة لدواعي الهوى والغرور , وذلك بإقصائهم لأهل البيت (عليهم السّلام) عن مركز القيادة العامة , وتنبّأت عمّا سيحلّ بهم من الكوارث والخطوب التي تدع فيئهم حصيداً ، وجمعهم بديداً من جرّاء إبعادهم لأهل بيت النبوّة عن مقامهم الذي نصبهم فيه رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) .
ثمّ عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، فقالت : (( وأنتم تزعمون أن لا إرث لي من أبي ! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . وَيهاً أيّها المسلمون ! أاُغلب على تراث أبي ؟! )) .

ثمّ وجهت خطابها إلى أبي بكر : (( يابن أبي قُحافة , أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) ؟ وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا ، إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) , وقال : ( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) , وقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) ,وقال : ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) .
وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي ؟ أم تقولون : إنّ أهل ملّتَين لا يتوارثان ، أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ؟ )) .
وبعدما أدلت بهذه الحجج الدامغة المدعمة بآيات من القرآن الكريم التي فنّدت فيها مزاعم أبي بكر من أنّ الأنبياء لا يورثون ، التفتت إليه , فوجّهت إليه هذه الكلمات اللاذعة قائلةً : (( فدونكها مرحولةً مزمومةً تكون معك في قبرك ، وتلقاك يوم حشرك ، فنِعمَ الحَكَم الله ، ونِعمَ الزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، و( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ، ( مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) )) .
ثمّ اتّجهت نحو فتيان المسلمين تستنهض هممهم ، وتوقظ عزائمهم للمطالبة بحقّها والثورة على الحكم القائم ، قائلة : (( يا معشر النقيبة ، وأعضاد الملّة ، وحضنة الإسلام ، ما هذه الغَميزة في حقّي والسِنَة عن ظُلامتي ؟ أما قال رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) : المرء يُحفظ في وُلده ؟ لَسرعان ما أحدثتم , وعجلان ذا إهالةً !

أتقولون : مات محمّد ؟ لعمري ، خطب جليل استوسع وهيُه ، واستنهر فتقه ، وفقد راتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال ، واُضيع الحريم ،
الصفحة (99)

وأُزيلت الحرمة ، فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في أفنيتكم ، ممساكم ومصبحكم ، هتافاً هتافاً : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) )) .
وأخذت سيّدة النساء تحفّز الأنصار ، وتذكّرهم بجهادهم المشرق في نصرة الإسلام وحماية مبادئه وأهدافه وكفاحهم لأعدائه القرشيّين ، طالبة منهم الثورة ضدّ الحكم القائم وإرجاع الحقّ إلى عترة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) قائلة : (( إيهاً بني قيلة(1) ! أأُهضَم تراث أبي وأنتم بمرأى منّي ومسمع , ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخُبرة ، وأنتم ذوو العُدّة والعدد , والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجُنّة(2) , تُوافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تُغيثون , وأنتم موصوفون بالكِفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنُخبة التي انتُخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت ؟!

قاتلتم العرب ، وتحمّلتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الأمم ، وكافحتم البُهم ، فلا نبرح أو تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حَلَب الأيّام ، وخضعت نُعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى جرتم(3) بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ؟!
ـــــــــــــــــــــ
(1) بنو قيلة : هم الأوس والخزرج من الأنصار .
(2) الجنّة (بالضم) : ما يستتر به من السّلاح .
(3) جرتم : أي ملتم .
الصفحة (100)

بؤساً لقوم ( نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين ) )) .
ولمّا رأت وهن الأنصار وتخاذلهم عن إجابة الحقّ ، وجّهت لهم أعنف القول , وأشدّ العتب والتقريع , قائلة لهم : (( ألا وقد قلتُ ما قلتُ , هذا على معرفة منّي بالجذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنّها فيضة النفس ، وبثّة الصدر ، ونفثة الغيظ ، وتقدمة الحجّة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بغضب الله ، وشنار الأبد ، موصولة بـ ( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) , عين الله ما تفعلون , ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فـ ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ) ))(1) .
وهذا أروع خطاب ثوري عرفه التأريخ الإسلامي ؛ فقد وضعت فيه مفخرة الإسلام النقاط على الحروف ، ووضعت المسلمين أمام الأمر الواقع ، وكشفت لهم عمّا سيواجهونه من الويلات والكوارث والأزمات من جراء تخاذلهم عن نصرة الإسلام أمام هذه المحنة الحازبة .

وقد وجلت القلوب وخشعت الأبصار ، وأوشكت الثورة أن تحدث على أبي بكر ويُقصى عن منصبه إلاّ أنّه سيطر على الموقف بلباقة مذهلة فقد قابل بضعة الرسول بكلّ حفاوة وتكريم ، وتصاغر أمامها ، وأظهر لها أنّه لم يتقلّد منصب الحكم ، ولم يتّخذ معها الإجراءات القاسية
ـــــــــــــــــــــ
(1) أعلام النساء 3 / 208 ، بلاغات النساء / 12 ـ 19 .
الصفحة (101)

عن رأيه الخاص ، وإنّما كان عن رأي المسلمين واتّفاقهم .

متى ولا نعلم أنّه حتّى استشار أحداً في تقمّصه للخلافة ، ومصادرته لتركة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وتأميمه لفدك وغيرها ؛ مما أوجب التضييق الاقتصادي على العترة الطاهرة ؟!
وعلى أي حال ، فقد حفظت السيّدة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34374)وهي في عهد الصبا هذا الخطاب الخالد ، وهي إحدى رواته ، وكان ذلك آية في نبوغها فقد روته بحرفيته ، وكانت مع اُمّها حينما أدلت بهذا الخطاب الذي هو أحد الركائز المهمّة في مذهب أهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد رجعت معها وهي تجرّ أذيال الخيبة ، قد مزّق الأسى فؤادها ؛ فلم يرع أبو بكر مكانتها ، ولم يستجب المسلمون لمطالبها ، وقد استولت عليها الآلام والهموم على ما تُمنى به الاُمّة من الكوارث والأزمات من جراء إقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن القيادة العامة للعالم الإسلامي .
اعتذار مرفوض

وجهد أبو بكر وعمر على إرضاء زهراء الرسول وتطييب خاطرها على ما اقترفاه في حقّها ، فاستأذنا بالدخول عليها فأبت أن تأذن لهما ، وعرضا على الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) رغبتهما الملحّة في مقابلة سيّدة النساء ، فانطلق الإمام نحو الصدّيقة والتمس منها إجابتهما ، فسمحت لهما بالدخول ، فلمّا مثلا عندها أشاحت بوجهها عنهما ، وقدّما إليها اعتذارهما ، فقالت : (( أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) تعرفانه وتعملان به ؟ )) .
فأجابا : نعم .
فقالت : (( نشدتكما الله ، ألم تسمعا رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمَنْ أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومَنْ أرضىالصفحة (102)

فاطمة فقد أرضاني ، ومَنْ أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ )) .
فقالا : نعم ، سمعناه من رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) .
فانبرت حبيبة رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) وهي مغيظة محنقة , فخاطبت أبا بكر وشاركت معه صاحبه قائلة : (( إنّي اُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه )) .
وفزع أبو بكر وقال رافعاً عقيرته : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة . ووجّهت إليه أعنف القول قائلة : (( والله ، لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة اُصليها ))(1) .
وخرج أبو بكر ولم يظفر برضا زهراء الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) , وكان ذلك من أعظم الصدمات التي واجهها في أيام حكومته . ومن الطبيعي أنّ عقيلة بني هاشم قد شاركت اُمّها البتول في سخطها على أبي بكر ، وعدم رضائها عنه .
مآسي البتول (عليها السّلام)

وطافت موجات قاسية من الآلام والأحزان ببضعة الرسول ووديعته ؛ فقد استغرق الأسى قلبها الرقيق المعذّب , وغشيتها سُحب قاتمة من اللوعة والحزن على فقد أبيها الذي كان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تزور بلهفة جسده الطاهر , فتطوف حوله
ـــــــــــــــــــــ
(1) الإمامة والسياسة 1 / 14 ، الطبعة الأولى .


وهي ذاهلة اللبّ , منهدّة الكيان , فتلقي بنفسها عليه ، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عينيها ، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه ، وتقول :
مـاذا عـلى مَن شمّ تربةَ أحمدٍ أن لا يـشمَ مدى الزمانِ غواليا
صُـبّت عـليّ مصائبٌ لو أنّها صُـبّت على الأيام صرنَ لياليا
قل للمغيّبِ تحتَ أطباقِ الثرى إن كنتَ تسمعُ صرختي و ندائيا
قـد كنتُ ذات حمى بظلِ محمّدٍ لا أخـتشي ضيماً و كانَ جماليا
فـاليوم أخـضعُ للذليلِ وأتّقى ضـيمي وأدفـعُ ظالمي بردائيا
فـإذا بـكت قـمريةٌ في ليلها شجناً على غصنٍ بكيتُ صباحيا
فـلأجعلنَّ الحزنَ بعدكَ مؤنسي ولأجعلنّ الدمعَ فيك وشاحيا(1)

وحكت هذه الأبيات ما عانته زهراء الرسول من لوعة وشجون على فراق أبيها الذي استوعب حبّه عواطفها ومشاعرها ، وقد بلغ من عظيم حزنها عليه أنّه لو صبّت مصائبها على الأيام لخلعت ضياءها ولبست السواد القاتم .
كما صوّرت هذه الأبيات الرقيقة مدى عزّتها وعظيم مكانتها في أيام أبيها سيّد الكائنات ؛ فقد كانت من أعزّ وأمنع نساء المسلمين ، ولكنّها بعد فقد أبيها تنكّر لها أصحابه ، وأجمعوا على هضمها والغضّ من شأنها حتّى صارت تخضع للذليل ، وتتّقي الظالمين لها بردائها ، إذ ليس عندها قوّة تحميها ولم تكن تأوي إلى ركن شديد .

وقد خلدت بضعة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ووديعته إلى الأسى والحزن ، وقد وجدت في البكاء راحة نفسية لها ، وبلغ من عظيم وجدها على أبيها أنّ أنس بن مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصاب أبيها ، وكان ممّن وسّد رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) في مثواه الأخير ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) مناقب ابن شهرآشوب 2 / 131 .
الصفحة (104)

فقالت له : (( هذا أنس بن مالك ؟ )) .
ـ نعم يا بنت رسول الله .
فانبرت وهي تلفظ قطعاً من قلبها المذاب قائلة : (( كيف طابت نفوسكم أن تحثّوا التراب على رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ؟! ))(1) .
وغرق أنس في البكاء ، وانصرف وقد نخب الأسى فؤاده .

وبلغ من عظيم حزن الصدّيقة على أبيها أنّها كانت تُطالب الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) أن يريها القميص الذي غُسّل فيه أباها رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، فإذا جاء به إليها تأخذه بلهفة وتوسعه تقبيلاً وشمّاً ؛ لأنّها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه . وخلدت زهراء الرسول إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل ، وظلّ شبح أبيها يطاردها في كلّ فترة من حياتها القصيرة الأمد .

وكانت ابنتها الصدّيقة الطاهرة زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34374)في حزن بهيم , تنظر إلى اُمّها وقد أشرفت على الموت من كثرة البكاء على أبيها , فكانت تشاركها في أحزانها وآلامها ولوعتها .
وثقل على أتباع أبي بكر بكاء الصدّيقة على أبيها , فشكوا ذلك إلى الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، وطلبوا منه أن يجعل لبكائها وقتاً خاصاً ، فعرض الإمام عليها ذلك فأجابته ؛ فكانت في نهارها تمضي إلى خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين وزينب (عليهم السّلام) , فتجلس تحت شجرة من الأراك ، وتأخذ باللوعة والبكاء على أبيها طيلة النهار , فإذا أوشكت الشمس أن تغرب قفلت مع أبنائها إلى الدار .

وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقلعوها , فكانت تبكي في حرّ الشمس ، فسارع الإمام أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) فبنى لها بيتاً سمّاه (بيت الأحزان) ، وظل هذا البيت رمزاً لأساها وغضبها على القوم على مرّ العصور .

ويقول الرواة : إنّ الإمام قائم آل محمّد (عجّل الله تعالى فرجه) قال
ـــــــــــــــــــــ
(1) سنن ابن ماجة / 18 ، المواهب اللدنية 2 / 381 .
الصفحة (105)

في هذا البيت :
أم تـراني اتخذت لا وعُلاها بعد بيت الأحزانِ بيتَ سرورِ

وكانت بضعة رسول الله وحبيبته مع أطفالها يمكثون طيلة النهار في ذلك البيت الحزين ، وهي تناجي أباها وتندبه وتبكيه ، فإذا جاء الليل أقبل الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) فأرجعها مع أطفالها إلى الدار .
واستولى الحزن على بضعة الرسول وذاب جسمها ، وقد فتكت بها الأمراض فلازمت فراشها ، ولم تتمكّن من النهوض والقيام ، وكانت ابنتها العقيلة إلى جانبها تقوم بخدماتها ورعايتها ، وبادرت السيّدات من نساء المسلمين إلى عيادتها , فقلن لها : كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله ؟
فرمقتهنَّ بطرفها , وأجابتهنَّ بصوتٍ خافت مشفوع بالأسى والحسرات قائلة : (( أجدني كارهة لدنياكنَّ ، مسرورة لفراقكنَّ ، ألقى الله ورسوله بحسرات ، فما حُفِظ لي الحق ، ولا رُعيت منّي الذمّة ، ولا قُبلت الوصية ، ولا عُرِفت الحرمة ))(1) .
أجل ، لم يُحفظ حقّها ، ولم تُرعَ ذمّتها ؛ فقد أصرّ القوم على هضمها والتنكّر لها ، وانصرفن النسوة وقد غامت عيونهنَّ بالدموع ، وعرضن على أزواجهن كلمات زهراء الرسول وغضبها عليهم ، وقد عرفوا مدى تقصيرهم في حقّها .

وهرعت بعض اُمّهات المؤمنين إلى عيادتها , فقلنَ لها : يا بنت رسول الله ، صيّري لنا في حضور غسلك حظّاً(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 95 .
(2) حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34374)الإمام الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) 1 / 27 .
الصفحة (106)

فلم تجبهنَّ إلى ذلك ، وقالت : (( لا حاجة لي في حضوركنَّ )) .
إلى جنة المأوى

وذوت بضعة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) كما تذوي الأزهار ، ومشى إليها الموت سريعاً وهي في شبابها الغضّ الإهاب ، وبدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة التي استهانت بها ، وطلبت حضور ابن عمّها أمير المؤمنين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) ، فعهدت إليه بوصيتها ، وأهم ما فيها :
1 ـ أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم .
2 ـ أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين هضموها وظلموها ؛ فإنّهم أعداؤها وأعداء أبيها على حدّ تعبيرها .
3 ـ أن يعفي موضع قبرها ويخفيه ؛ ليكون رمزاً لغضبها على القوم , غير قابل للتأويل والتصحيح على ممر الأجيال الصاعدة .

وضمن لها الإمام جميع ما عهدت به إليه ، وانصرف عنها وهو غارق في الأسى والشجون .
وطلبت بضعة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) من أسماء بنت عميس أن يُصنع لها سرير يواري جسدها الطاهر ؛ فقد كانت العادة بوضع الأموات على لوحة تبدو فيها أجسامهم ، وكرهت ذلك سيّدة النساء ، فعملت لها أسماء سريراً يُستر مَنْ فيه , كانت قد رأته حينما كانت في الحبشة .

فلمّا نظرت إليه ابتسمت , وهي أوّل ابتسامة شوهدت لها منذ أن لحق أبوها بالرفيق الأعلى(1) .
وفي آخر يوم من حياة (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34374)الصدّيقة أصبحت وقد ظهر عليها بعض التحسّن ، وبدا عليها الفرح والسرور ؛ فقد علمت أنّ هذا اليوم هو خاتمة حياتها ، وفيه تلتحق بأبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة ، وعمدت الصدّيقة إلى أطفالها فغسلتهم ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) مستدرك الحاكم 3 / 162 .
الصفحة (107)

وصنعت لهم من الطعام ما يكفيهم يومهم ، ثمّ أمرت ولديها الحسن والحسين (http://im88.gulfup.com/r2YXw0.gif) أن يخرجا لزيارة قبر جدّهما ولا يشاهدا وفاتها ، وألقت عليهما وعلى بنتها زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34374)نظرة الوداع , وقلبها الزاكي يذوب ألماً وحزناً ، وخرج الحسنان وقد هاما في تيارات من الهواجس , وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان .
والتفتت وديعة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) إلى أسماء بنت عميس ، وكانت تتولّى تمريضها وخدمتها ، فقالت لها : (( يا اُمّاه )) .
ـ نعم يا حبيبة رسول الله .
ـ (( اسكبي لي غسلاً )) .
فسارعت أسماء وأتتها بالماء , فاغتسلت فيه ، وقالت لها : (( ايتيني بثيابي الجدد )) . فأحضرتها لها ، وقالت لها : (( اجعلي فراشي في وسط البيت )) .
وذعرت أسماء ، وعلمت أنّ الموت قد دنا من وديعة النبي (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وصنعت لها ما أرادت , فاضطجعت في فراشها ، واستقبلت القبلة , ونادت أسماء قائلة بصوت خافت : (( يا اُمّاه ، إنّي مقبوضة الآن ، وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد )) .
وأخذت تتلو آيات القرآن الكريم حتّى صعدت روحها الطاهرة إلى الله تحفّها ملائكة الرحمن ، ويستقبلها أبوها التي كرهت الحياة من بعده .
لقد سمت تلك الروح إلى جنان الخلد فأشرقت الآخرة بقدومها ، وأظلمت الأرض لفقدها ، فما أضلّت سماء الدنيا مثلها في قداستها وطهرها ، وقد انقطع بموتها آخر مَنْ كان في الدنيا من نسل رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) .
الصفحة (108)

وكانت زينب (http://ya3ale.com/showthread.php?t=34374)إلى جانب اُمّها , وقد رأتها جثة هامدة قد انقطعت عنها الحياة , فذابت أسى ، وعجّت بالبكاء والعويل .
وقفل الحسنان (http://im88.gulfup.com/r2YXw0.gif) من مسجد رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) إلى الدار فلم يجدا اُمّهما فيها , فبادرا يسألان أسماء قائلين : (( أين اُمّنا ؟ )) .
فأجابتهما , وهي غارقة في البكاء قائلة : يا سيّدي , إنّ اُمّكما قد ماتت , فأخبرا بذلك أباكما .
وكانت هذه المفاجأة كالصاعقة , فهرعا إلى جثمان اُمّهما ، فوقع عليها الحسن (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) وهو يقول : (( يا اُمّاه , كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني )) . وألقى الحسين (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) بنفسه عليها وهو يعجّ بالبكاء قائلاً : (( يا اُمّاه , أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي )) .
وأخذت أسماء توسعهما تقبيلاً , وتواسيهما بمصابهما الأليم ، وطلبت منهما أن يُخبرا أباهما بموت سيّدة النساء ، وسارعا نحو مسجد رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ، وقد علا صوتهما بالبكاء , فاستقبلهما المسلمون قائلين : ما يبكيكما يا بني رسول الله ، لعلّكما نظرتما قبر جدكما فبكيتما ؟
فأجابا : (( أوَ ليس قد ماتت اُمّنا فاطمة ! )) .
وهزّ النبأ المؤلم مشاعرهم ؛ فقد ندموا على تقصيرهم تجاه بضعة الرسول (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) ؛ فقد ماتت وهي ساخطة عليهم ؛ لأنّهم لم يحفظوا مكانتها من رسول الله (http://im44.gulfup.com/Ijate3.gif) .
ولمّا علم الإمام (http://im44.gulfup.com/foVJfg.gif) بموت الصدّيقة تصدّع قلبه , وودّ مفارقة الحياة ، ورفع صوته