المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محاور توثيق الحديث على خطب الإمام علي في نهج البلاغة


صدى المهدي
12-05-2022, 08:05 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾

عندما يُعرَض على الإنسان كلامٌ منسوبٌ لجهة معيّنة، فإنَّ دور الإنسان تجاه ما يسمع أن يستثمر عقله في مجال التدبّر والتفكير ليكتشف حسن الكلام من سوئه، وصوابه من خطئه، وصحّته من فساده، ولذلك اعتبر القرآن الكريم أنَّ من يستثمر عقله في اكتشاف حسن الكلام فهو من ذوي اللب، ومن هذا المنطلق إذا وردنا حديثٌ عن الإمام المعصوم فما هو دورنا تجاه الحديث؟ هنا عدّة محاور:

المحور الأول: المسار والطريق التوثيقي للحديث، كيف نوثِّق صدور الحديث أو عدم صدوره؟ ما هو الطريق لتوثيقه؟

المحور الثاني: إذا فقدنا الطريق لتوثيق الحديث، لم نجد طريقًا لتوثيقه، ننطلق إلى مضمون الحديث، هل أنَّ مضمون الحديث مضمونٌ ذو متانة وعظمة بحيث لا يمكن أن يصدر هذا المضمون إلّا من الإمام المعصوم؟ فيكون علوّ المضمون دليلًا على صدور الحديث، المحور الثاني في المضامين العالية.

المحور الثالث: لنفترض أننا لم نستطع من خلال طريق للتوثيق ولا من خلال قراءة المضمون أن نثبت أنَّ هذا الحديث صدر من المعصوم، نأتي إلى محور ثالث، وهو الشهادة القياسية، أي قياس الحديث المشكوك على الحديث الثابت.

سنتعرّض لكلّ محور من هذه المحاور بشكل مختصر، كيف نطبّق هذه المحاور على خطب الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif في نهج البلاغة؟
المحور الأول: توثيق الصدور.


هل عندنا طريق لتوثيق صدور نهج البلاغة عن الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif؟ أوّل من شكّك في نهج البلاغة ابن خلكان في كتابه [وفيّات الأعيان: ج3، ص30] عندما ترجم السيّد المرتضى علم الهدى، فقال: إنَّ الناس اختلفوا في نهج البلاغة، هل هو جمع المرتضى أم الرضي؟ ثم زاد الجرعة قليلًا، قال: وقيل إنه ليس من كلام الإمام علي، وأنَّ من جمعه هو الذي وضعه، من جمعه سواء كان المرتضى أو الرضي اختلقه ونسبه للإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif، وبعد ذلك جاء بعض المؤلفين ودخل في هذا التشكيك، الصفدي في الوافي بالوفيات، اليافعي في [مرآة الجنان: ج3، ص505]، الذهبي في [ميزان الاعتدال: ج1، ص101]، ابن حجر في لسان الميزان، وغيرهم على نفس النسق.

ولذلك تصدّى جمعٌ من الباحثين المحقّقين لتوثيق نهج البلاغة، أي لإثبات أنَّ هناك طرقًا توثِّق صدور نهج البلاغة عن الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif، ومن هؤلاء المحقّقين: المرحوم العلامة السيد عبد الزهراء الخطيب، له كتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده، هذا الكتاب فعلًا بحرٌ من التحقيق، من خلال هذا الكتاب أرجع خطب الإمام علي كلها إلى طرق موثوقة، ذكر السيد عبد الزهراء الخطيب - رحمه الله - ثلاثة طرق، بعض الناس يخلطون بينه وبين الشيخ عبد الزهراء، الشيخ عبد الزهراء الكعبي خطيب مشهور، سنويًا يذاع المقتل بصوته، بينما السيد عبد الزهراء الخطيب لقبه الخطيب، وهو من العلماء المحقّقين، وهو الذي كتب كتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده، ذكر ثلاثة طرق.

الطريق الأول: شهرة خطب الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif منذ زمانه إلى القرن الخامس، خطب الإمام علي اشتهرت وتظافر نقلها لقرون خمسة، إلى أن وصلت إلى الشريف الرضي فنقلها، كيف نثبت هذه الشهرة؟ ذكر عدّة كلمات، لاحظ مثلًا الجاحظ وهو من القرن الثالث في كتابه «البيان والتبيين، ص115» قال: إنَّ خطب رسول الله https://www.almoneer.org/images/prefix/a1.gif وخطب أبي بكر وخطب عمر وخطب الإمام عليّ كلّها مدوّنة ومشهورة، يعني الخطب معروفة في زمانه الذي كان في القرن الثالث.

ابن واضح أيضًا في نفس الفترة في كتابه [مشاكلة الناس لزمانهم: ص15] يقول: حفظ الناس عن الإمام علي خطبه، فإنه قد خطب 400 خطبة حُفِظَت عنه، وهي التي تدور بين الناس ويستعملونها في خطبهم. قد يقول قائل: كيف حفظونها؟! هي ليست واحدة ولا اثنتين، كيف حفظوها وهي 400 خطبة؟! نقول: كيف حفظ الناس المعلّقات في الجاهلية؟! لا أحد يشكّك في المعلّقات، ولكن خطب الإمام علي يشكَّك فيها! المعلَّقات لشعراء الجاهلية لم يشكّك فيها أحد، مع أنّها طويلة، أبيات كثيرة، لكن حفظها الناس وتناقلوها، وهي قبل ولادة علي بن أبي طالب، مع ذلك حُفِظت وتظافر نقلها واشتهرت إلى زماننا هذا، ولم يشكّك فيها أحد، قبلها الكل وقال هذه معلَّقات ثابتة، فلا غرابة أن تحفَظ خطب الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif كما حُفِظت المعلّقات، والخطبة الواحدة قد لا تشكِّل نصف صفحة.

والمسعودي - وهو من علماء القرن الثالث والرابع قبل الشريف الرضي - في [مروج الذهب: ج2، ص36] قال: والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربع مئة ونيف وثمانين خطبة، وكذلك السبط ابن الجوزي مثل كلامه. الرضي كم خطبة جمع؟ إذا تراجع نهج البلاغة لا تجده فيه إلّا 129 خطبة، معناه أنَّ الشريف الرضي انتقى من تلك الخطب وسمّاه نهج البلاغة، وإلا فالخطب التي اشتهرت واتّصل نقلها بزمان الشريف الرضي ما ذكره المسعودي، أربع مئة ونيف وثمانين خطبة، الشريف الرضي انتقى بعضًا منها ونشرها بعنوان وباسم نهج البلاغة.

الطريق الثاني: هل هناك كتبٌ ألِّفت في خطب الإمام علي، يعني في جمع هذه الخطب قبل ولادة الشريف الرضي؟ نعم، يذكر السيد الخطيب 114 كتابًا كلّها دوِّنت في خصوص خطب الإمام علي، كلّها تكفّلت بجمع خطب الإمام علي، ذكر منها ابن النديم وهو من المؤرّخين المعروفين وهو من المذاهب الإسلامية الأخرى، ابن النديم ذكر الكثير من هؤلاء، أوّل مؤلف جمع خطب الإمام علي من هو؟ زيد بن وهب الجهني، توفّي عام 96، يعني بعد مقتل الإمام علي ب56 سنة، قريب العهد، جمع خطب الإمام علي وسمّاها «خطب أمير المؤمنين في الجمع والأعياد»، وتوفّي عام 96.

بعدها، هشام السائب الكلبي من القرن الثالث، أبو المفضّل نصر بن مزاحم المنقري من القرن الثالث، أبو الحسن المدائني من القرن الثالث، كتاب أخبار القضاة لوكيع بن خلف بن حيان، كتاب اختلاف أصول المذهب للقاضي أبي حنيفة النعمان المصري، وغيرها من الكتب، إذا تراجع الكتاب تجد الكتب كلها ومصادرها ومن أين وكيف ضمّت وجمعت خطب الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif.

الطريق الثالث: كتبٌ جاءت بعد زمان الرضي تضمّنت أيضًا خطب الإمام علي، لكن لم تستند إلى الرضي، بل استندت إلى مصادر سابقة على الرضي، ولم تذكر الرضي ولا كتابه في سندها وطريقها لخطب الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif.

نحن عندما نرجع إلى نهج البلاغة ونستدلّ به، أهمّ متن في نهج البلاغة هو العهد، عهد الإمام علي لمالك الأشتر الذي بدأه بقوله: ”هذا ما أوصى به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين مالكَ بن الأشتر النخعي حين ولّاه مصر جباية خراجها وعمارة بلادها واستصلاح أهلها وجهاد عدوّها“، بعض العلماء قد يختلف كلامه، مثل سيّدنا الخوئي قدس سره، في أول فترة أستاذيته ونضجه العلمي ذكر في كتابه [مصباح الفقاهة: ج1، ص422] أنَّ العهد مرسل، يعني لا سند له، لكنه بعد أن تفوّق وتألّق نضجه العلمي قال في كتابه [المعجم في رجال الحديث: ج3، ص222]: هناك طريقٌ صحيحٌ للعهد ذكره الشيخ الطوسي - عليه الرحمة - في كتاب الفهرست وينتهي إلى الأصبغ بن نباتة الذي عاصر أمير المؤمنين https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif وكتب هذا العهد ونقله للأجيال اللاحقة.
المحور الثاني: علوّ المضامين.


لنفترض أنه لا يوجد طريقٌ لتوثيق خطب نهج البلاغة، ننتقل إلى المحور الثاني، هل مضمون هذه الكلمات التي وردت في نهج البلاغة يمكن أن يصدر عن غير الإمام علي؟ هل يمكن أن هذا المضمون عن غير الإمام المعصوم؟ أم أنّ علوّ المضمون يشهد بصدور هذا المضمون عن الإمام المعصوم؟

مجموعة من علمائنا قالوا: نحن لا نحتاج أصلًا إلى الطريق الأول، بل يكفينا الطريق الثاني، هذه الكلمات عالية المضامين لا تصدر إلا من أبي الحسن، السيد محسن الأمين في كتابه [أعيان الشيعة: ج1، ص79]، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه [الفردوس الأعلى: ص50]، كلاهما قالا: لا نحتاج إلى أيّ شاهد، بل قال السيد الأمين: نهج البلاغة كالشمس لا يحتاج إلى شاهد على ثبوته، لأنَّ هذه المضامين لا تصدر إلا عن أمير المؤمنين، عندما تسمع الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، للعين ما رأت ولليد ما أخذت، أنت تحكم بأنّ هذا المضمون لا يصدر إلّا عن علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif، علوّ المضمون يشهد بصدوره عن عليّ https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif، هل هذا الطريق مقبول عند كلّ العلماء؟

لا، بعض العلماء يقولون: لا، لا يكفي علوّ المضمون، لأنه يحتمَل أنَّ هذا المضمون ينتزَع من عدّة روايات وتصاغ وتنسَب الصياغة للإمام علي، يعني المضمون ربما صدر منه لكن الصياغة لم تصدر منه، يمكن أن يأتي مؤلف ويشتق هذا المضمون من عدّة أحاديث ويكتبها في صياغة واحدة كأنه حديث صادر من الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif، فعلوّ المضمون ليس دليلًا. أضرب لك بعض الأمثلة حتى تتضح هذه النقطة.
المثال الأول: دعاء الإمام الحسين https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif يوم عرفة.


كلنا يوم عرفة نقرأ دعاء الحسين، عندما تقرأ مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي بعد أن يذكر دعاء الحسين يوم عرفة يكتب: إلى هنا تمّ دعاء الإمام الحسين يوم عرفة كما ذكره الشيخ الكفعمي في كتابه البلد الأمين، وكما ذكره المجلسي في كتابه زاد المعاد، ولكن السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال زاد عليه، وجاء بمقطع من صفحتين ونصف، من قوله: إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيرًا في فقري، من هنا إلى صفحتين ونصف هذه زيادة جاء بها ابن طاووس وقال أنها من الدعاء، لكننا لم نجدها في الدعاء في الكتب الأخرى.

عدّة علماء يقولون: صحيح هذا المضمون ليس له طريق، لكن علوّ المضمون يثبت أنّه للحسين، السيد الإمام والسيد صاحب الميزان كلاهما يقولان: علوّ المضمون يشهد أنه من الحسين، ولا يمكن لغير المعصوم أن ينشئ مثل ذلك، لكن الآن أحد مراجع العصر الكبار السيد موسى الزنجاني - دام ظله - في قمّ المقدّسة ينكر ذلك، يقول: اتّضح لنا أنَّ هذا الذيل من منشآت ابن عطا الله الإسكندراني، وهو من كبار الصوفية في القرن السابع والثامن، ونفس هذا المقطع موجود في كتاب الحكم العطائية، وأنّ الشيخ المجلسي في كتاب البحار قال: إنَّ هذه العبارات ليست من الأئمة، بل هي مسانخة لمكتوبات الصوفية، وأنه لا وجود لهذا الذيل في النسخ القديمة للإقبال «كتاب الإقبال لابن طاووس الشيخ عباس القمي اعتمد على نسخة مستحدثة، لو رجع للنسخ القديمة لكتاب الإقبال سيجد أنَّ هذا المقطع ليس موجودًا»، كما أنّها ليست موجودة في كتاب مصباح الزائر في السيّد ابن طاووس نفسه، ولم يذكرها الشهيد الأول في مجموعته الدعائية أصلًا. إذن، مجرّد علوّ المضمون لا يعني أنه صادر، هذا مضمون عالٍ جدًا ومع ذلك موجود في كتاب لابن عطا الله الإسكندراني.
المثال الثاني: لله بلاء فلان.


عندما تفتح نهج البلاغة الآن تجد هذه المقولة: ومما قاله في بعض أصحابه: ”لله بلاء فلان! فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السنّة، وأمات البدعة - وفي بعض الروايات: وخلّف البدعة - ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرّها“، هذا المتن اختلف الشرّاح فيه في ثلاث جهات:

الجهة الأولى: من هو المقصود فلان؟ بعض الشرّاح يقول: هو مالك الأشتر، بعد مقتله الإمام أبّنه، والشاهد على ذلك أنه قال: ومما قاله في بعض أصحابه، وأكثر الشرّاح يقولون: فلان هو الخليفة الثاني وليس مالك الأشتر.

الجهة الثانية: من الذي قال فلان؟ لماذا لم يصرّح باسمه؟ بعضهم يظنّ أنّ الشريف حذف الاسم وجعل بدل كلمة الخليفة الثاني «فلان»! لا، ارجع إلى كتاب ابن الأثير - وهو ليس من علماء الشيعة - يذكر في [النهاية: ج3، ص279] هذا النصّ عن الإمام علي ويقول: لله بلاء فلان، لم يذكر الاسم، فليس الشريف الرضي هو الذي أخفى الاسم، بل الشريف الرضي نقل النص كما ورد.

الجهة الثالثة: هذه المقالة هل صدرت أم لم تصدر عن الإمام علي؟ نحن عندما نقرأ النهج: وممّا قاله في بعض أصحابه، قاله يعني قاله الإمام علي، ولكن هنا بحث لطيف، أستاذ من أساتذة الحوزة الكبار العلم الفقيه السيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع الأعلى السيد السيستاني عنده بحث في هذه المقولة، عنده كتاب اسمه القبسات مشهورٌ ومعروفٌ في الحوزة، ذكر في كتابه هذا البحث، قال: عند مراجعة المصادر ظهر لنا أنّ السيد الرضي اشتبه، نسب المقولة للإمام وليست له، كيف؟ هو بحث طويل، أذكر لك بعض المصادر.

البلاذري في كتابه [أنساب الأشراف: ج10، ص430] عن المدائني قال: لما مات الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ندبته - يعني رثته - ابنة أبي حثمة فقالت: وا عمراه أقام الأود وأبرأ العمد وأمات الفتن وأحيا السنن خرج من الدنيا نقي الثوب، يعني القائل ابنة أبي حثمة عندما رثت الخليفة، إذا كان الراثية امرأة فما علاقته بالإمام علي؟! كيف نُسِب الكلام للإمام علي؟! هل من المعقول أن يشتبه الشريف الرضي إلى هذا المقدار؟! نرجع إلى ابن عساكر، في كتابه [تاريخ دمشق: ج4، ص457] يذكر عن أوفى بن حكيم قال: لما كان اليوم الذي مات فيه الخليفة الثاني خرج عليٌّ مغتسلًا فجلس فأطرق ساعة ثم قال: لله درّ باكية عمر قالت، يعني الإمام علي نقل مقالها، نقل نفس المقالة عن من ندبت، وهي ابنة أبي حثمة، نقل كلامها الإمام علي، لعله من هنا جاءت النسبة للإمام علي.

أما الطبري فأورد نصًّا لعلّه يوفّق بينهما أو يحاول أن يوفِّق بينهما، قال في [ج3، ص285] عن المغيرة بن شعبة قال: لما مات الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أتيتُ عليًّا وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئًا، فقال: يرحم الله ابن الخطّاب، لقد صدقت ابنة أبي حثمة يوم قالت، فالطبري يورد هذا النصّ كأنّه توفيقٌ بين النصّين، أن الإمام عليًّا https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif صدّق كلامها ووثّقه، فلذلك نُسِب الكلام إليه.

نحن نريد من هذا البحث المختصر أن نقول: لله بلاء فلان، لقد قوّم الأود، هذا لفظ، ألفاظه ضخمة، معانيه كبيرة، لكن هذا لا يعني أنه صادرٌ عن الإمام https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif، إذن لا بد أن نبحث، هل هناك طريق موثّق لإثبات صدوره عن الإمام https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif أم لا.
المثال الثالث: روايات ذمّ المرأة.


تفتح نهج البلاغة فترى ”النساء نواقص عقل ودين وحظّ، أما نقصان عقلهن فشهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وأما نقصان دينهن فإذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم، وأما نقصان حظّهن فلهن نصف سهم من الميراث“، النسوان يسألون دائمًا: لماذا هكذا؟! نحن أمهاتكم، بناتكم، أخواتكم، ثم هكذا؟! أو مثلًا في نهج البلاغة: ”المرأة كلّها شرٌ، وشرٌّ منها أنه لا بدّ منها“، أو مثلًا في نهج البلاغة: ”إياكم ومشاورة النساء، فإنَّ رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن“.

عندما نغربل هذه الأحاديث وننخلها نجد قسمًا منها ليس حديثًا عن الإمام عليّ بل هو كلام عن الرسول، ففي مجمع الفتاوى لمفتي الملكة الشيخ عبد العزيز بن باز قال: إنَّ هذا حديثٌ للرسول https://www.almoneer.org/images/prefix/a1.gif. قسمٌ منها ليس له أيّ سند، لا نستطيع أن نثبت، مثل ”المرأة كلّها شرٌّ وشرٌّ منها أنّها لا بدّ منها“، ليس له سند، ليس له طريق، وهذه المسكينة تربّي وتتعب وتجاهد. والقسم الثالث له طريق ولكن صدر على نحو القضية الخارجية لا القضية الحقيقية، يعني لم يصدر كقانون دائم، بل صدر لعلاج مشكلة مرحلية مرّ بها الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif، في زمن الإمام علي حدثت أحداث كثيرة، جملة من الناس انقاد إلى بعض النساء، وحصلت أحداث وأخطار، فالإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif علاجًا لذلك الظرف المرحلي وعلاجًا لتلك المشكلة التي حدثت في زمانه وقف في الناس وقال: ”إياكم ومشاورة النساء فإنَّ رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن“.
المثال الرابع: قصة جلد رجلين نالا من عائشة.


في الليلة السابقة أنا ذكرت قصّة، أنَّ الإمام عليًّا https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif بعد معركة الجمل سمع رجلين ينالان من زوجة الرسول عائشة فأمر بتعزيرهما، بغضّ النظر عن مضمون القصة صحيح أم لا، ثابت أم غير ثابت، بعض الإخوة الباحثين قال: هذا المضمون غير ثابت، لأنَّ هذه القصّة وردت في كتب المؤرّخين لكن من مؤرّخي إخواننا أهل السنة وليست من كتبنا، ابن كثير في [البداية والنهاية: ج7، ص274] نقلها، والطبري في [ج5، ص223]، أبو بكر ابن العربي في [العواصم من القواصم: ص68]، لكن من الإمامية لم ينقلها أحدٌ حتى نوثّقها ونثبتها، فليس عندنا طريق لإثباتها من طرق الإماميّة.
المحور الثالث: الشهادة القياسية.


إذا لم نجد طريقًا لتوثيق المقولة، ولم نجد المضمون دليلًا على صدورها، نأتي إلى المحور الثالث: الشهادة القياسية، وهي قياس المشكوك على الثابت، هذا طريق يستخدمه علماء الأدب، علماء الأدب إذا أرادوا إثبات شعر المتنبي لا يذكرون لكل بيت سندًا، ما هو سنده؟ فلان عن فلان عن فلان عمن رأى المتنبي أنه قال!! لا، هناك طريق يستخدمه علماء الأدب لإثبات الشعر والأدب لأصحابه، وهو الشهادة القياسية. عندما نأتي إلى شعر المتبني، هناك شعر قطعًا ثابت للمتبني، نُقِل بطريقة متواترة عن المتنبي، فهو ثابت، ثم نأتي للمشكوك، وردتنا أبيات مشكوكة هل هي له أم ليست له، مثلًا روي عن المتنبي أنه قال في مدح الإمام علي https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif:
وتركت مدحي للوصي تعمّدًا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه
إذ كان نورًا مستطيلًا شاملًا
وصفات ضوء الشمس تذهب باطلًا

كيف نثبت أنّ هذا للمتنبي؟ نقيسه على شعره الثابت، السيد السيستاني «دام ظله» عنده كتاب مطبوع «قاعدة لا ضرر ولا ضرار»، يذكر في هذا الكتاب أنّ من الطرق لإثبات النصوص هو هذا الطريق، الشهادة القياسية، ويعبّر عنها في ص213 بالموافقة الروحية، كيف؟ نعرض الشعر المشكوك على الشعر الثابت، فإذا اتّفق المشكوك والثابت في أربعة موارد: الصور والمعاني، كل شاعر له صور ومعانٍ تتكرر في شعره، هل يتوافقان في الصور والمعاني أم لا؟ المورد الثاني: الأسلوب، كل شاعر له نوع من الأسلوب، يعني الاستعارات، الكنايات، المجازات، تتكرر في كلامه، هل يتفقان في هذه النقطة أم لا؟ المورد الثالث: طريقة السبك، طريقة تركيب الجمل والألفاظ، لكلّ شاعر طريقة، المورد الرابع: الألفاظ نفسها، كل شاعر له ثروة من الألفاظ يستعملها، فإذا اتفق المشكوك مع الثابت في هذه الموارد الأربعة ثبت لنا أنّ هذا الشعر منه.

الشريف الرضي شاعر عظيم، ورد عنه أنه دخل على قبر جدّه الحسين حافيًا حاسرًا وقال:
كربلا لا زلتِ كربًا وبلا
كم على تربك لمّا صرعوا
ما لقي عندك آل المصطفى
من دم سال ومن دمع جرى

نشكّ أنّ هذا قاله الشريف الرضي أم لا؟ نقسيها على شعره الآخر الثابت، وهكذا يقاس المشكوك على الثابت، فإذا اتّفق معه في الموارد الأربعة التي ذكرناها فهذه تسمّى شهادة قياسية لثبوت النصّ عمّن نُسِب إليه ذلك النصّ.

نطبّق هذا على نهج البلاغة، أنقل لك كلام ابن أبي الحديد، وهو سنّي معتزليّ، لكنه تحدّث عن هذه النقطة في نهج البلاغة، لاحظ هذا الكلام الجميل: مصدّق بن شبيب الواسطي قال: قلتُ لأبي محمد عبد الله المعروف بابن الخشّاب.. في السابق كانوا يقرؤون، الطريقة السابقة في التلمذة أن يقرأ التلميذ الكتاب على الأستاذ، أنت التلميذ أقرأ الكتاب وأنا الأستاذ أصحّح لك، ثم أنت تسألني ما هو المقصود بهذه الكلمة وما هو المقصود بهذا النصّ؟ هكذا كانت التلمذة، مصدّق بن شبيب يقرأ كتاب نهج البلاغة على أستاذه ابن الخشّاب، إلى أن وصلوا إلى الخطبة الشقشقية المعروفة، فقال مصدّق لأستاذه: أتقول أنها منحولة؟ فقال: لا والله، إنّي أعلم أنها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق. قلت له: إنّ كثيرًا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي؟ فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور فما يقع مع هذا الكلام في خلٍّ ولا خمر، ثم قال ابن أبي الحديد معلِّقًا على كلام ابن الخشّاب: إنّ من أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفًا من علم البيان وصار له ذوقٌ في هذا الباب يفرِّق بين الكلام الركيك والفصيح والأفصح والأصيل والمولَّد، وإذا وقف على كلام لجماعة من الخطباء أو لاثنين فلا بدّ أن يفرِّق بين الكلامين ويميِّز بين الطريقتين، ألا ترى - هذا يفهمه صاحب الذوق الأدبي - أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدنا فيه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام، ألا ترى أنَّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعر أبي تمّام قصائد كثيرة لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس كثيرًا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدتَه كلَّه ماءً واحدًا ونفسًا واحدًا - يعني بعضه يقاس على بعض، بعضه يشبه بعضًا في الموارد الأربعة التي ذكرناها - وأسلوبًا واحدًا كالأسلوب البسيط الذي لا يكون بعض من أبعاضه مخالفًا لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوّله كوسطه وأوسطه كآخره وكلّ سورة وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولًا وبعضه صحيحًا لم يكن كذلك، فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال أنَّ من زعم أنَّ هذا الكتاب أو بعضه منحولٌ إلى أمير المؤمنين عليّ https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif.

يقول جورج جرداق في كتابه «صوت العدالة الإنسانية» أنَّ عليًّا حلّق في مجال الأدب والنثر في أربعة مواطن: عمق المادّة، والخيال المجنِّح، وروعة التمثيل، وجمال التصوير.
الموطن الأول: عمق المادة.


فحينما تقرأ له: ”الناس أعداء ما جهلوا“، ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“، ”فقد الأحبّة غربة“، ”الفجور دار حصن ذليل“، ”ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد، نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم“، هذا كلّه يعبّر عن عمق المضمون.
الموطن الثاني: الخيال المجنِّح.


لاحظ الإمام عليًّا خياله أين يذهب، التصويرات التي يذكرها، يقول مخاطبًا أهل الكوفة: ”لتغرقن بلدتكم حتى كأنني أنظر إلى مسجدها كجبجب طير في لجّة بحر“، وعندما يتكلم عن الفتن يقول: ”فتمرّ عليكم فتنٌ كقطع الليل المظلم“، وعندما يتكلم عن نفسه في الخطبة الشقشقية يقول: ”وهو يعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير“.
الموطن الثالث: روعة التمثيل.


يقول: ”صاحب السلطان كراكب الأسد يغبَط بموقعه وهو أعلم بموضعه“، وعندما يقول: ”إيّاك ومصادقة الكذّاب؛ فإنّه كالسراب، يقرِّب لك البعيد ويبعِّد عنك القريب“.
الموطن الرابع: جمال التصوير.


تراه يقول عن أهل القبور: ”جيرانٌ لا يتآنسون وأحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء“. وعندما يقول https://www.almoneer.org/images/prefix/a2.gif: ”اللهم إني أستعديك على قريش؛ فإنّهم قطعوا رحمي وأكفؤوا إنائي“.
من محاضرة سماحة العلامة منير الخباز (في رحاب نهج البلاغة )

محـب الحسين
12-05-2022, 12:34 PM
بوركتِ اختنا العزيزه

Wedad
12-05-2022, 02:11 PM
يعطيك العافيه عزيزتي