أولاً: إن الغاية من البحث في الأحكام تفرض تحصيل الحجة القاطعة للعذر فيها نفياً أو إثباتاً.. وينعكس ذلك على مقام العمل والممارسة، من حيث جواز التعبد والإلتزام بالحكم، وحصول الأمن من العقوبة، وتحصيل المثوبات عليه، أو التعرض للغضب الإلهي، واستحقاق المقت، والطرد، والحرمان من الألطاف والرحمات، لو تركه عن عمد واستخفاف.
وربما كان ما يؤدي إلى المثوبة أو العقوبة هو نفس الإلتزام القلبي بالشيء، أو نسبة الحكم أو الأمر إلى الله تعالى، أو إلى أنبيائه ورسله، وإلى الأئمة الذين جعلهم ناطقين عنه، وهداة إليه، وأدلَّاء على سبل نيل رضوانه..
وهذا الواقع قد فرض على الإنسان الإلتزام بضوابط توفِّق بين الغايات، وبين وسائل الوصول إليها، وكيفيات التعاطي معها.
وكان منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ:
1 ـ عدم جواز نسبة شيء إلى الشرع والدين ما لم يُعلم بالحجة القاطعة للعذر أنه منه.
2 ـ لكن يجوز العمل بما يحتمل أنه من الشرع إذا بلغه ـ ولو بسند ضعيف ـ ثواب عليه، فيأتي العامل به برجاء المطلوبية، شرط عدم نسبته إلى الدين، ما دام لم يثبت بالدليل المعتبر أنه منه.
هذا إن لم نقل: إن أخبار من بلغ تفيد استحباب ما ورد الوعد بالثواب عليه.
فظهر بذلك: أن المعيار في الأمور الفقهية: هو الحجة المعتبرة على الإثبات أو النفي.
ثانياً: بالنسبة إلى القضايا التاريخية، مثل ما جرى على السيدة الزهراء «عليها السلام»، فيلاحظ: أن الغاية من البحث فيها تختلف عن الغاية من البحث في الأحكام بنحوٍ أو بآخر، فإن المطلوب قد لا يكون هو تحصيل الحجة القاطعة على حصول الشيء، وقد يكون المطلوب أيضاً الإلتزام بشيء تجاه النتيجة التاريخية، ولو مثل تحديد طبيعة العلاقة مع من صنع الحدث، أو مع المشاركين فيه، والممالئين عليه، لكي تكون علاقة ولاء وحب وطاعة، واقتداء، وانصهار وانبهار؟!
أو هي علاقة رفض وتبرٍّ، وعداء؟!
أو هي علاقة ثقة واعتماد؟!
أو هي علاقة ريبة وحذر، وتجنب لمواضع الخطر، والضرر، ولاسيما فيما يرتبط بقضايا الدين، ومصادر أخذها، وحفظ نظام الأمة، وغير ذلك؟!
فإن كانت حالة عداء، ونفور، وبراءة، فلا بد من أن يثبت منشؤها بمبرر وحجة، لكي يتحدد نوع التعامل، وطبيعة الموقف، بالإستناد إليه..
وكذلك الحال إذا كانت العلاقة علاقة حبٍّ وولاء، وطاعة، واقتداء، فلا بد من إثبات مبررات الإلزام بهذا الحب، وبهذه الطاعة، واستحقاق هذا النوع من الطاعة بالبراهين الساطعة، والقاطعة للعذر، ولو كانت من نوع المعجزة، التي تفرض البخوع والخضوع المطلق لمضمونها.
وإن كانت العلاقة المطلوبة هي علاقة الثقة والإعتماد، فلا بد من تلمّس مبرراتها أولاً، وإثباتها بنحو مقنع ومقبول ثانياً.
وإن كان المطلوب هو الحذر، والتحرز، وتحصيل الإطمئنان إلى السلامة من الأخطار والأضرار، فإن الشارع قد أمضى حكم العقل بلزوم الحذر في موارد كهذه، إذا كان احتمال الضرر أو الخطر يعتدُّ به عند العقلاء.
وعطفاً على ما تقدم نقول ما يلي:
أولاً: إن موارد لزوم الولاء والطاعة قد تكفَّل الشارع الحكيم بالإعلان عنها، وتعريف الناس بها، بالطرق اليقينية، كالمعجزات، والإخبار عن الغيب، وظهور العلم الخاص الذي لا يحصل البشر عليه بالطرق العادية، وغير ذلك. فالبحث إنما يكون في هذا المورد في هذه الدائرة.. ويجب أن ينتهي إلى النتيجة المتوخاة..
ثانياً: بالنسبة لعلاقة الرفض والبراءة، والعداء، نقول:
إن الشارع الحكيم قد تكفل أيضاً ببيانها، حيث وضعها ضمن عناوين واضحة وصريحة، ومحددة.. فلم يُجز مثلاً تولي الكافرين، أو معونة الظالمين، والضالين، والجاحدين، والذين يحاربون الله ورسوله، وغير ذلك.. وترك للناس مهمة التعرف على أشخاص هؤلاء وأحوالهم من خلال تصرفاتهم ومواقفهم، وغير ذلك.
ثالثاً: بالنسبة لعلاقة الثقة والإعتماد نلاحظ: أنه أيضاً قد وضعها ضمن عناوين يحتاج البشر إلى التعرّف عليها، من حيث توفرها أو عدمه في الأشخاص الذين يريدون التعامل معهم، وأرشد إلى وسائل الحصول على هذه المعرفة، فنلاحظ على سبيل المثال قوله تعالى: ?وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ?(1)، فإن من السذاجة غير المبررة الإستنامة لمن يخالفك في الدين، ويرى أنك لا حرمة لك، ولا لمالك، ولا لعرضك، ويجيز لنفسه العدوان عليك، وكل ما يعود إليك.
وكذلك الحال في قوله «عليه السلام»: «لم يخنك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن».
ولأجل تحصيل هذا الإعتماد اشترطت العدالة في الشهادة، وفي القضاء، وفي إمام الجماعة، وغير ذلك.. واشترط التبين والتثبت في الأخبار المنقولة إليك.. ولا يختص ذلك بالمؤمن، بل يعمُّ المؤمن العادل والفاسق، والموافق في المذهب وغير الموافق.. واشترط الصدق في من تريد أن تكون معه، فقال: ?وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?(2)..
وأمثلة ذلك كثيرة لا يكاد يمكن إحصاؤها.
ويلاحظ: أن الشارع الحكيم لم يصعِّب الأمور في تحصيل ما يمكن أن يكون سبباً للإعتماد في مثل هذه الموارد، إذا كان الأمر يرتبط بالأمور الشخصية والعادية التي يوجب تصعيبها إرباكاً، واختلالاً في حياة الناس.. فاكتفى مثلاً بحسن الظاهر للاستدلال به على الباطن، وجعل سوق المسلمين علامة على حلية أو طهارة ما يطلب فيه ذلك.. واكتفى بحمل فعل المسلم على الصحة، بسؤال أهل الخبرة، ونحو ذلك.. مما شأنه تيسير الأمور وانتظامها، وقد أشار تعالى إلى هذا التيسير، فقال: ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ?(3).
رابعاً: بالنسبة للأمور التي وجب فيها الحذر، وهي الأمور المهمة التي يوجب الإخلال فيها خطراً على الإنسان، أو على دينه، وآخرته، فقد قال تعالى: ?وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ?(4).. فحرَّم الإقدام على كل ما يحتمل فيه الخطر والضرر الذي لا يقدم عليه العقلاء..
ومن موارد ذلك: الإعتماد والأخذ ممن ظهرت فيه الإختلالات في أمور الدين والسلوك، فلم يجز له أخذ معالم دينه وحقائقه منه، فإنه إن لم تثبت أهليته للإعتماد عليه والوثوق به، فإنه يكون اعتماداً على فاسد، ومفسد، يخشى منه أن يحرِّف الدين، ويغير حقائقه، ويتلاعب بنصوصه، بحيث تتناسب مع مصالحه وأهوائه، وأهدافه التي يحتمل أن تكون شريرة وهدامة..
كما أن طاعته قد تؤدي إلى الإطاحة بمصلحة الدين والأمة، وهدم مستقبلها، وإشاعة الفساد والمنكرات فيها، وتقويض كيانها، في الدنيا والآخرة..
وهذا أمر عظيم، وخطر هائل، لا بد من تجنبه بكل حيلة ووسيلة، ولا يجيز الإقدام عليه عاقل، بل ولا عالم أو جاهل، لأنه يؤدي إلى الإطاحة بالغايات الإلهية، وإبطال جهود الأنبياء، والأوصياء، والأولياء والعلماء، وتضييع دماء الشهداء..
وأدنى احتمال لهذا الأمر يدعو للحذر، ويحتِّم تجنب الخطر. لأن القضية لا تقتصر على التعرض لتعب يسير، أو مرض يعرض لشخصٍّ، أو خسارة مالية، أو تلف للمزروعات، أو عاهة في الأشجار والثمار، أو تلوث في المياه والأنهار، أو غير ذلك..
بل تتعدى ذلك كله إلى خسارة الدين، والقيم، والأخلاق، والدمار، والبوار للسعادة في الدنيا والآخرة..
وواضح: أن احتمال حصول هذا الأمر مهما كان ضعيفاً، يكون منجِّزاً لوجوب الحذر، ويحتِّم موقفاً عملياً جازماً وحازماً في الإبتعاد عن كل ما يوجبه.
ونذكر على سبيل المثال: أن من يحتمل أن يكون قد أغضب الزهراء «عليها السلام»، التي يوجب غضبها غضب الله، أو تجرأ على الله، وعلى أوليائه، وأوصيائه.. فيتحتم تجنب الأخذ منه، والإبتعاد عنه، ويجب الحذر منه.. إلا أن يزول هذا الإحتمال من أساسه بالدليل القاطع، والبرهان الساطع.
فظهر: أن الخبر الضعيف، والمرسل الذي يوجب احتمالاً من هذا النوع ينتج لنا حكماً عقلياً إلزامياً بالمنع من الطاعة والإنقياد له، فضلاً عن بلوغ درجة الحب والولاء، والمعونة، والإنتماء، وغير ذلك مما يتوقف على ثبوت مبرراته، ومقتضياته على نحو القطع واليقين..
وأن لم يوجب ذلك بمجرده البغض والعداوة، ولزوم الإشهار بالبراءة.
وهل يتحقق هذا الثبوت، ويمكن حصول هذا اليقين مع احتمال صدور أي اهانة، أو استهانة منه بأولياء الله، وأئمة الهدى، والأدلاء على الحق؟!
ولا يحصل اليقين بعدم صدور ذلك منه، لمجرد ضعف السند، أو ضعف الإحتمال، أو إثارة أي شبهة في الثبوت، بل لا بد في مثل هذه الأمور الحساسة من ثبوت العدم، والنفي القاطع لكل ريب، والنافي للإحتمال، مهما كان ضعيفاً.
فإن لم يمكن ذلك، فلا يجوز ترتيب آثار الإنتفاء، لأنه لم يتحقق في من أصبحت تحوم حوله الشبهة، وصار في موضع التهمة.
فاتضح مما ذكرناه: الفرق بين البحث في ثبوت الأحكام الفقهية، وبين البحث في الشأن التاريخي، ولاسيما إذا كان مرتبطاً بالدين، أو بالأنبياء، والأوصياء، والأولياء المعصومين.
فلا يكفي مجرد حسن الظن بمن يحتمل صدور الإساءة منه لترتيب آثار ثبوت الصلاح، والفلاح، إلا فيما لا يمسّ الدين، ولا ربط له، ولا خطر منه على مستقبل الناس، والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة..
أما المناقشة في صحة نسبة بعض الكتب إلى مؤلفيها، لوجود بعض الإشتبهات فيها، أو لأي سبب كان، فلا تثبت أن مضامينها مكذوبة، أو محرفة.
كما أن وجود الرواية أو الخبر ـ اتَّحد أو تعدد ـ في مصادر يعلم أن مؤلفيها يوالون من تنسب إليه تلك السقطات والإساءات مع ظهور حرص أولئك المؤلفين على تنزيه المتهمين وتبرئتهم، والدعوة إلى موالاتهم، بل إلى تقديسهم، يمثل قرينة تقوِّي احتمالات صدور تلك السقطة، أو الإساءة ممن تنسب إليهم، ولو لم يصل الأمر إلى درجة اليقين..
وتتأكد التهمة إذا كان بعض أولئك المؤلفين الموالين لمن ينسب إليه ذلك إذا أوردوا الرواية في مؤلفاتهم.. ولم يعلنوا رفضهم لها، بالدليل.. لأن ذلك يكون بمثابة اعتراف بمضمون تلك الرواية، حتى لو كانت منقولة بأسانيد مطعون في صحتها عند ذلك الفريق..
فمثلاً نحن نعلم: بأن صاحب كتاب فرائد السمطين قد أورد في كتابه بعض ما ذكره الشيخ الصدوق في كتبه، مما يتضمن ما لا يروق لمؤلف كتاب الفرائد من الناحية الإعتقادية.. ولم يعقِّب عليه بما يبطله، فإيراده له على هذه الحال يعني ـ على الأقل ـ: أنه لا يملك ما يصح الإعتماد عليه في إبطال مضمون ما ينقله..
ولنفترض جدلاً ـ وفرض المحال ليس محالاً ـ: أن رواية ضرب الزهراء «عليها السلام»، وكسر ضلعها منحصرة بكتاب سُليم بن قيس، فإن ذلك لا يعني أن الرواية مكذوبة، وإن كانت غير معتبرة، بسبب ضعف سندها، أو لأي سبب آخر، فإن عدم اعتبار الرواية، إنما يمنع من حصول اليقين بوقوع مضمونها، ولا يرفع احتمال وقوعه، ووجوب الحذر، كما تقدم.
تعليق