المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تعـرف على الأئمـة الإثنى عشـر عليهم السـلام


ابوجعفرالديواني
22-11-2008, 10:50 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اللهم صلي على محمد وآل محمد واللعن اعدائهم إلى يوم الدين

‏ ‏قال النبي ‏ (ص) ‏ : ‏يكون بعدي اثنا عشر خليفة ‏‏ كلهم من ‏قريش . ‏

المصدر:
صحيح البخاري - الأحكام - الاستخلاف - رقم الحديث : ( 6682 )
صحيح مسلم - الإمارة - الناس تبع لقريش والخلافة في قريش- رقم الحديث : ( 3393 )
مسند أحمد - مسند المكثرين من الصحابة - مسند عبد الله بن مسعود ( ر ) - رقم الحديث : ( 3593 )


هنا نحاول ان نأخذ شعاعا من أنوار الأئمة المعصومين الإثنى عشر ونستعرض جانبا مختصرا من حياتهم الشريفة وهي مأخوذة من كتاب الائمة (الاثني عشر ) للشيخ جعفر السبحاني حتى نعرف الجاهل بهم عليهم السلام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخـليفة الأول

الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام



مقدمة :

إنّ الإمام علي بن أبي طالب (ع) أشهر من أن يعرّف، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه، وخطبه، وقصار كلماته، وسياسته، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال، واحالة القارئ الى تلك الموسوعات، بيد أنّا نكتفي هنا بذكر اوصافه الواردة في السنّة فنقول:

هو أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين، وأوّل القوم ايماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأعظمهم مزيّة، وأقومهم بأمر الله، وأعلمهم بالقضية، وراية الهدى، ومنار الإيمان، وباب الحكمة، والممسوس في ذات الله، خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الهاشمي، وليد الكعبة المشرّفة، ومُطهِّرها من كل صنم ووثن، الشهيد في البيت الإلهي (جامع الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة 40 هجري.

وكل جملة من هذه الجمل، وعبارة من هذه العبارات، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من اهل السنّة(راجع مسند احمد 1 / 331، 5 / 182 _ 189، حلية الأولياء 1 / 62 _ 68، ولاحظ الغدير 2 / 33.).

الإمام علي ومكوّنات الشخصية:

تعود شخصية كل انسان - حسب ما يرى علماء النفس - إلى ثلاثة عوامل هامّة لكل منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها.
وكأنّ الشخصية الإنسانية لدى كل انسان أشبه بمثلث يتألّف من اتّصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض، وهذه العوامل الثلاثة هي:

1 _ الوراثة.
2 _ التعليم والثقافة.
3 _ البيئة والمحيط.

إنّ كلّ ما يتّصف به المرء من صفات حسنة او قبيحة، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق.

وانّ الأبناء لا يرثون منّا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم، بل يرثون كل ما يتمتّع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك.

فالأبوان _ بانفصال جزئي «الحويمن» و«البويضة» المكوّنين للطفل منهما _ إنّما ينقلان _ في الحقيقة _ صفاتهما ملخّصة الى الخلية الاُولى المكوّنة من ذينك الجزأين، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.

ويشكّل تأثير الثقافة والمحيط، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية، فإنّ لهذين الأمرين أثراً مهمّاً وعميقاً في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبلية او المتواجدة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين.

فإنّ في مقدور كل معلّم ان يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي اليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار، فكم من بيئة حوّلت أفراداً صالحين الى فاسدين، أو فاسدين الى صالحين.

وإنّ تأثير هذين العاملين المهمّين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح. على أننّا يجب أن لا ننسى دور ارادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة.

الإمام علي (ع) والجانب الموروث في شخصيته:

لم يكن الإمام علي _ عليه السلام _ كبشر بمستثنى من هذه القاعدة.
فقد ورث الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ جانباً كبيراً من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة، وإليك تفصيل ذلك:

1 _ الإمام علي (ع) والوراثة من الأبوين:

لقد انحدر الإمام علي من صلب والد عظيم الشأن، رفيع الشخصية هو أبو طالب، ولقد كان أبو طالب زعيم مكّة، وسيّد البطحاء، ورئيس بني هاشم، وهو إلى جانب ذلك، كان معروفاً بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبّة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدّس، والعقيدة التوحيديّة المباركة.

فهو الذي تكفّل رسول الله مند توفّي عنه جدّه وكفيله الأوّل عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره، وتولّى العناية به والقيام بشؤونه، وحفظه وحراسته في السفر والحضر، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ويقوم في سبيل ارساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء، ويتحمّل لتحقيق هذه الأهذاف العليا كل تعب ونصب وعناء.

وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلّى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله:

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً *** نبيّ كموسى والمسيح ابن مريم

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً *** رسولاً كموسى خط في أوّل الكتب .( مجمع البيان 4 / 37 )

إنّ من المستحيل أن تصدر امثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعاً في الشعب ومقاطعتهم القاسية من دافع غير الايمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية، الذي كان يتّصف به أبو طالب، إذ لا تستطيع مجرّد الوشائج العشائرية، وروابط القربى، أن توجد في الإنسان مثل هذه الروح التضحوية.

إنّ الدلائل على ايمان أبي طالب بدين ابن اخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كل المحقّقين المنصفين والمحايدين، ولكن بعض المتعصّبين توقّف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة، بالدعوة المحمدية، بينما تجاوز فريق هذا الحد الى ما هو أبعد من ذلك، حيث قالوا بأنّه مات غير مؤمن.

ولو صحّت عُشر هذه الدلائل الدالة على ايمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث، في حقّ رجل آخر لما شكّ أحد في ايمانه فضلاً عن إسلامه، ولكن لا يعلم الإنسان لماذا لا تستطيع كل هذه الأدّلة إقناع هذه الزمرة، وإنارة الحقيقة لهم ؟!.
هذا عن والد الإمام أمير المؤمنين (ع)

وأمّا اُمّه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كانت قبل ذلك تتّبع ملّة إبراهيم.

إنّها المرأة الطاهرة التي لجأت - عند المخاض - إلى المسجد الحرام، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول:

«يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم وانّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و(بحق) المولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليّ ولادتي».

فدخلت فاطمة بنت اسد في الكعبة ووضعت عليّاً هناك(كشف الغمة 1 / 60)

وتلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرخين والمحدّثين الشيعة، وكذا علماء الأنساب في مصنّفاتهم، كما نقلها ثلّة كبيرة من علماء السنّة وصرّحوا بها في كتبهم واعتبروها حادثة فريدة، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل(مروج الذهب 2 / 349، شرح الشفاء للقاضي عياض 1 / 151 وغيرهما، وقد أفرد العلامة الاردوبادي رسالة في هذه المنقبة وسمّاها: علي وليد الكعبة.).

وقال الحاكم النيسابوري: وقد تواترت الأخبار انّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة ( شرح عينية عبد الباقي أفندي العمري 15)

وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي: «وكون الامير كرم الله وجهه، ولد في البيت، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه، كما اشتهر وضعه . الغدير 6 / 22

الإمام علي والتربية في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم

وأمّا التربية الروحية والفكرية والأخلاقية فقد تلقّاها علي _ عليه السلام _ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.

ولو أنّنا قسّمنا مجموعة سنوات عمر الإمام _ عليه السلام _ إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الأوّل من هذه الأقسام الخمسة من حياته الشريفة، يشكلّ السنوات التي قضاها _ عليه السلام _ قبل بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

وانّ هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات، لأنّ اللّحظة التي ولد فيها علي _ عليه السلام _ لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك، هذا مع العلم بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث بالرسالة في سنّ الأربعين.

وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام علي _ عليه السلام _ قد تجاوز السنة العاشرة من عمره يوم بعث رسول الله (ص) بالرسالة، وتوّج بالنبوّة.

إنّ أبرز الحوادث في حياة الإمام علي _ عليه السلام _ هو تكوين الشخصية العلوية، وتحقّق الضلع الثاني من المثلّث الذي أسلفناه بواسطة النبيّ الأكرم وفي ظلّ ما أعطاه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي (ع) من أخلاق وأفكار، لأنّ هذا القسم في حياة كل انسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة، والقيمّة جدّاً، فشخصية الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقيّة تقبل كل لون وهي مستعدّة لان ينطبع عليها كل صورة مهما كانت، وهذه الفترة من العمر تعتبر - بالتالي - خير فرصة لأن ينمّي المربّون والمعلّمون فيها كلّما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيّبة وصفات كريمة، وفضائل أخلاقية نبيلة، ويوقفوا الطفل - عن طريق التربية - على القيم الأخلاقية والقواعد الإنسانية وطريقة الحياة السعيدة، وتحقيقاً لهذا الهدف السامي تولّى النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه تربية علي (ع) بعد ولادته، وذلك عندما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها علي (ع) إلى رسول الله (ص) فلقيت من رسول الله حبّاً شديداً لعلي (ع) حتى أنّه قال لها:

اجعلي مهده بقرب فراشي وكان صلى الله عليه وآله وسلم يطهّر علياً في وقت غسله، ويوجر اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويلاحظه ويقول: هذا أخي، ووليّي وناصري وصفيّي وذخري وكهفي، وصهري، ووصيّي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيّتي وخليفتي . كشف الغمة 1 / 60

ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي ان يتم توفير الضلع الثاني في مثلّث الشخصية (وهو التربية) بواسطته صلى الله عليه وآله وسلم وان لا يكون لاحد غير النبي (ص) دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.

وقد ذكر الامام علي (ع) ما أسداه الرسول الكريم اليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة اذ قال:

وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمّني الى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه . نهج البلاغة - شرح عبده -2 / 182 الخطبة القاصعة.

النبي يأخذ عليّاً إلى بيته:

وإذا كان الله تعالى يريد لولي دينه أن ينشأ نشأة صالحة وأن يأخذ النبي عليّاً الى بيته وأن يقع منذ نعومة أظفاره تحت تربية النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ألفت نظر نبيّه الى ذلك.

فقد ذكر المؤرخّون أنّه أصابت مكّة -ذات سنة -أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة، وكان أبو طالب -رضي الله عنه -ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشاً من العدم والضائقة والجهد والفاقة: فعند ذلك دعا رسول الله عمّه العباس الى أن يتكفّل كل واحد منهما واحداً من أبناء أبي طالب وكان العباس ذا مال وثروة وجدة فوافقه العباس على ذلك:

فأخذ النبي عليّاً، واخذ العباس جعفراً وتكفّل أمره، وتولّى شؤونه(بحار الأنوار 35 / 44، وسيرة ابن هشام 1 / 246.).

وهكذا وللمرّة الأُخرى أصبح علي (ع) في حوزة رسول الله صلى الله عليه وآله بصورة كاملة، واستطاع بهذه المرافقة الكاملة ان يقتطف من ثمار أخلاقه العالية وسجاياه النبيلة، الشيء الكثير، وأن يصل تحت رعاية النبي وعنايته وبتوجيهه وقيادته، الى أعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي.

وهذا هو الإمام أمير المؤمنين (ع) يشير إلى تلك الأيام القيّمة وإلى تلك الرعاية النبويّة المباركة المستمرّة إذ يقول:

«ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر اُمّه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به »(نهج البلاغة - شرح عبده -2 / 182.).

علي في غار حراء

كان النبي -حتى قبل أن يبعث بالرسالة والنبوّة -يعتكف ويتعبّد في غار حراء شهراً من كل سنة، فإذا انقضى الشهر وقضى جواره من حراء انحدر من الجبل، وتوجّه إلى المسجد الحرام رأساً وطاف بالبيت سبعاً، ثمّ عاد إلى منزله. وهنا يطرح سؤال: وماذا كان شأن علي _ عليه السلام _ في تلك الأيام التي كان يتعبّد ويعتكف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المكان مع ما عرفنا من حبّ الرسول الأكرم له؟ هل كان يأخذ صلى الله عليه وآله وسلم علياً معه إلى ذلك المكان العجيب أم كان يتركه ويفارقه؟

إنّ القرائن الكثيرة تدل على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن أخذ علياً لم يفارقه يوماً أبداً فهاهم المؤرّخون يقولون:

كان علي يرافق النبي دائماً ولا يفارقه أبداً حتى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى الصحراء أو الجبل أخذ علياً معه(ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة 13 / 208.).

يقول ابن أبي الحديد:
وقد ذكر علي (ع) هذا الأمر في الخطبة القاصعة اذ قال:

«ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري»(نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم 187.).

إنّ هذه العبارة وإن كانت محتملة في مرافقته للنبي في حراء بعد البعثة الشريفة إلاّ انّ القرائن السابقة وكون مجاورة النبي بحراء كانت في الأغلب قبل البعثة، تؤيّد أنّ هذه الجملة، يمكن أن تكون اشارة الى صحبة علي للنبي في حراء قبل البعثة.

إنّ طهارة النفسيّة العلوية، ونقاوة الروح التي كان علي (ع) يتحلىّ بها، والتربية المستمرّة التي كان يحظى بها في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كل ذلك كان سبباً في أن يتّصف علي (ع) _ ومنذ نعومة أظفاره _ ببصيرة نفّاذة وقلب مستنير، واُذن سميعة واعية تمكّنه من أن يرى أشياءً ويسمع امواجاً تخفى على الناس العاديين ويتعذّر عليهم سماعها ورؤيتها، كما يصرّخ نفسه بذلك اذ يقول:

«أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة»(نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم 187.).

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام):
«كان علي (ع) يرى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الرسالة، الضوء ويسمع الصوت».
وقد قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصيّ نبيّ ووارثه، بل أنت سيّد الاوصياء وإمام الأتقياء(ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة 13 / 310.).

ويقول الإمام علي (ع) :
لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان ايس من عبادته، ثمّ قال له:»(نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم 187).

هذا هو الرافد الثاني الذي كان يرفد الشخصية العلوية بالأخلاق والسجايا الرفيعة.

3 _ البيئة الرسالية وشخصية الإمام:

ولو أضفنا ذينك الأمرين (أي ما اكتسبه من والديه الطاهرين بالوراثة، وما تلقّاه في حجر النبي ) الى ما أخذه من بيئة الرسالة والإسلام من أفكار وآراء رفيعة، وتأثر عنها أدركنا عظمة الشخصية العلوية من هذا الجانب.

ومن هنا يحظى الإمام علي (ع) بمكانة مرموقة لدى الجميع: مسلمين وغير مسلمين، لما كان يتمتع به من شخصية سامقة، وخصوصيات خاصة يتميّز بها.

وهذا هو ما دفع بالبعيد والقريب الى ان يصف عليّاً بما لم يوصف به احد من البشر، ويخصّه بنعوت، حرم منها غيره، فهذا الدكتور شبلي شميل المتوفّى 1335 وهو من كبار الماديين في القرن الحاضر يقول:

«الإمام علي بن ابي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً»(الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 / 37.).

وقال عمر بن الخطاب:
«عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب»(الغدير 6 / 38 طبعة النجف.).

ويقول جورج جرداق الكاتب المسيحي اللبناني المعروف:
«وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره»(الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 / 49.).

هذه الأبعاد التي ألمحنا اليها هي الأبعاد الطبيعية للشخصية العلوية.

البعد الرابع لشخصية الإمام (ع) :

غير أنّ أبعاد شخصية الإمام علي (ع) لا تنحصر في هذه الأبعاد الثلاثة، فإنّ لأولياء الله سبحانه بعداً رابعاً، داخلاً في هوية ذاتهم، وحقيْة شخصيتهم وهذا البعد هو الذي ميّزهم عن سائر الشخصيات وأضفى عليهم بريقاً خاصّاً ولمعاناً عظيماً.

وهذا البعد هو البعد المعنوي الذي ميّز هذه الصفوة عن الناس، وجعلهم نخبة ممتازة وثلّة مختارة من بين الناس وهو كونهم رسل الله وأنبياءه، أو خلفاءه وأوصياء أنبيائه.

نرى أنّه سبحانه يأمر رسوله أن يصف نفسه بقوله: {قُل سُبحان رَبِّي هَل كُنتُ إلاّ بَشَراً رَسُولاً}(الاسراء / 93.).

فقوله: { بَشَراً} إشارة الى الأبعاد البشرية الموجودة في كل انسان طبيعي، وإن كانوا يختلفون فيها في ما بينهم كمالاً ولمعاناً.

وقوله: { رَسُولاً} إشارة إلى ذلك البعد المعنوي الذي ميّزه صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس وجعله معلّماً وقدوة للبشر.

فلأجل ذلك يقف المرء في تحديد الشخصيات الإلهية على شخصية مركّبة من بعدين: طبيعي وإلهي ولا يقدر على توصيفها إلاّ بنفس ما وصفهم الله به سبحانه مثل قوله في شأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

{ الِّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم فيِ التَّوراةِ وَالإنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمعرُوفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحرّمُ عَلَيِهمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إصرَهُم وَالأغلالَ الَّتِي كانَت عَلَيهِم}(الأعراف / 57.) وقد نزلت في حق الإمام أمير المؤمنين (ع) آيات ووردت روايات.

كيف وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن ابي طالب (ع) »(أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخه 4 / 410.).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«من سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي فليوال عليّاً بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمة من بعدي فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذّبين بفضلهم من اُمتّي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي»(أخرجه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء 1 / 86.).

وقال الإمام أحمد بن حنبل:
ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي -رضي الله عنه -(مناقب أحمد لابن الجوزي الحنبلي 163.).

وقال الإمام الفخر الرازي:
من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه(تفسير مفاتيح الغيب 1 / 205.).

وقال أيضاً:
من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللّهم أدر الحقّ مع علي حيث دار (المصدر نفسه 204.).

تسليط الضوء على شخصيته السامية :

لا عتب على اليراع لو وقف عند تحديد شخصية كريمة معنوية خصّها الله تعالى بمواهب وفضائل، وكفى في ذلك ما رواه طارق بن شهاب، قال: كنت عند عبد الله بن عباس فجاء اُناس من أبناء المهاجرين فقالوا له: يا بن عباس أي رجل كان علي بن أبي طالب؟.

قال: ملئ جوفه حكماً وعلماً وبأساً ونجدة وقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(شواهد التنزيل 1 / 108 ح 153.).

روى عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزل في القرآن : {يَا أَيِّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلاّ وعلي _ عليه السلام _ رأسها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان، وما ذكر عليّاً إلاّ بخير(مسند أحمد 1 / 190، تاريخ الخلفاء 171.).

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي(الصواعق المحرقة، الباب التاسع، الفصل الثالث 76.).

وقال ابن عباس: نزلت في علي أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه (تاريخ الخلفاء 172.).

ونكتفي في ترجمة علي (ع) بكلمتين عن تلميذيه اللذين كانا معه سرّاً وجهراً:

1 _ قال ابن عباس -عندما سئل عن علي فقال - :
رحمة الله على أبي الحسن كان والله علم الهدى وكهف التقى وطود النهى ومحل الحجى وغيث الندى، ومنتهى العلم للورى، ونوراً أسفر في الدجى، وداعياً إلى المحجّة العظمى ومستمسكاً بالعروة الوثقى، أتقى من تقمّص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وابو السبطين، وزوجته خير النساء فما يفوقه احد، لم تر عيناي مثله، ولم أسمع بمثله، فعلى من أبغضه لعنة الله ولعنة العباد الى يوم التناد .(ميزان الإعتدال 1 / 484).

2 _ إنّ معاوية سأل ضراراً بن حمزة بعد موت علي عنه، فقال: صف لي عليّاً، فقال: اوتعفيني؟ قال: صفه، قال: اوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لابدّ فأقول ما أعلمه منه:

والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب.

كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا اذا اتيناه، ويأتينا اذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلّمه هيبة، ولا نبتدئه عظمة، إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.

فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وكأنّي أسمعه وهو يقول: يا دنيا أبي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ هيهات، هيهات غرّي غيري قد باينتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمّه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها .(ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 18 / 225 وغيره.).

هذه شذرات من فضائله، وقبسات من مناقبه الكثيرة التي حفظها التاريخ عن تلاعب الأيدي.

غير أنّه لا يعرف عليّاً غير خالقه، وبعده صاحب الرسالة الكبرى ابن عمه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.


تنصيب علي (ع) للإمامة:

لا شك في أنّ الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأُمة الإسلامية من شؤون النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ما دام على قيد الحياة، وطبع الحال يقتضي أن يوكل مقام القيادة بعده الى أفضل أفراد الأُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي؟ اتّجاهين:

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي، ولابدّ أن ينصّ على خليفة النبيّ من السماء، بينما يرى اهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري، أي أنّ على الأُمّة ان تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلاّ أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فإنّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاّتجاهين.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لابدّ أن يعيّن من جانب الله تعالى، ولا يصحّ أن يوكّل هذا إلى الأُمّة، فإنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي (الروم -الفرس -المنافقين) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الأمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:

لقد كانت الإمبراطورية الرومانية احد أضلاع الخطر المثلث الذي يحيط بالكيان الإسلامي، ويهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوّة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام، حتى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدّت هذه المواجهة إلى استشهاد القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم «جعفر الطيار» و«زيد بن حارثة» و«عبد الله بن حارثة».

ولقد تسّبب انسحاب الجيش الإسلامي بعد استشهاد القادة المذكورين الى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذا الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة، ويجدّد حياته السياسية:

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأعد قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين، وأمّر عليهم«أُسامة بن زيد»، وكلّفهم بالتوجّه الى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.

أما الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدّد الكيان الإسلامي، فكان الإمبراطورية الإيرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الإمبراطورية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعاداتها لدعوته، أن أقدم امبراطور ايران «خسرو برويز» على تمزيق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوجيه الإهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه، والكتابة الى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه الى المدينة من يقبض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو يقتله إن امتنع.

و«خسرو» هذا وإن قتل في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّ استقلال اليمن -التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الإيرانية ردحاً طويلاً من الزمان -لم يغب عن نظر ملوك ايران آنذاك، وكان غرور اولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الإسلامية) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل الى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في طريق العودة من تبوك الى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه، انّ الحركة الإسلامية سينتهي امرها بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورحيله، وبذلك يستريح الجميع .

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة الى الامّة الإسلامية من الداخل وذلك عندما اتى علياً (ع) وعرض عليه ان يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الامّة الإسلامية الواحدة الى شطرين متحاربين متقاتلين، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام علياً (ع) أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:

«والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً. لا حاجة لنا في نصيحتك»(الكامل في التاريخ ج 2 ص 222، العقد الفريد ج 2 ص 249.).

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي: سورة آل عمران، والنساء، والمائدة والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقين والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الألداء والاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصح أن يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنه كان من الواجب أن يمنع رسول الإسلام بتعيين قائد للأمّة، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الإسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الامّة.

إنّ تحصين الأمّة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كل فريق «الزعامة» لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن ليتحقّق، إلاّ بتعيين قائد للامّة، وعدم ترك الامور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا الى صحّة نظرية «التنصيص على القائد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» ولعلّ لهذه الجهة ولجهات اخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الايام الاولى من ميلاد الرسالة الإسلامية، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الاخيرة منها، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضاً.

وإليك بيان كلا هذين المقامين:

1 _ النبوّة والإمامة توأمان:

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبت صحّة الرأي الأوّل بصورة قطعية، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحّة الموقف والرأي الذي ذهب اليه علماء الشيعة وتصدّقه، فقد نصّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، وأخرج موضوع الإمامة من محال الانتخاب الشعبي والرأي العام.

فهو لم يعيّن (ولم ينص على) خليفته ووصيه من بعده في أُخريات حياته فحسب، بل بادر الى التعريف بخليفته ووصيه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضع عشرة من الاشخاص، وذلك يوم امر من جانب الله العلي القدير ان ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم. وأن يدعوهم الى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع رسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

فجمع اربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب، ثمّ وقف فيهم خطيباً فقال:
«أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على ان يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟».

فأحجم القوم، وقام عليّ (ع) وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برقبته، والتفت الى الحاضرين، وقال:
«إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم»(تاريخ الطبري ج 2 ص 216، الكامل في التاريخ ج 2 ص 62 و63.).

وقد عرف هذا الحديث عند المفسّرين والمحدّثين: ب «حديث يوم الدار» و«حديث بدء الدعوة».

على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، بل صرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر، بخلافة علي (ع) من بعده، ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

2 _ قصة الغدير:

لمّا انتهت مراسيم الحج، وتعلّم المسلمون مناسك الحجّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرحيل عن مكة، والعودة الى المدينة، فأصدر امراً بذلك، ولمّا بلغ موكب الحجيج العظيم الى منطقة «رابغ»(رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة.) التي تبعد عن «الجحفة»(من مواقيت الإحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.) بثلاثة أميال، نزل امين الوحي جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنطقة تدعى «غدير خم»، وخاطبه بالآية التالية:

{يا أيُّها الرَّسُولُ بَلُّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ وإن لمّ تَفعَل فَما بَلَّغتَ رِسالَتهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ} (المائدة / 67.).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أن الله تعالى ألقى على عاتق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولية القيام بمهمّة خطيرة، وأيّ امر اكثر خطورة من أن ينصّب علياً (ع) لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد؟!

من هنا أصدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالتوقّف، فتوقّف طلائع ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان المناخ حارّاً الى درجة كبيرة جداً، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه،وصنع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مظلّة وكانت عبارة عن عباءة أُلقيت على اغصان شجرة (سمرة)، وصلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحاضرين الظهر جماعة وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعد صلى الله عليه وآله وسلم على منبر أعدّ من احداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعاً صوته، وهو يقول:

« الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات اعمالنا الذي لا هادي لمن اضلّ، ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلاّ هو، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أمّا بعد: ايّها الناس انّي أوشك ان أدعى فأجيب، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون فماذا انتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاك الله خيراً.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حق، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال صلى الله عليه وآله وسلم : «اللّهمّ اشهد».

ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً».

فنادى مناد: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وما الثقلان؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم« كتاب الله سبب طرف بيد الله، وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به، والآخر عترتي، وانّ اللطيف الخبير نبّأني إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا
وهنا اخذ بيد «عليّ _ عليه السلام _ » ورفعها، حتى رؤي بياض ابطيهما، وعرفه الناس اجمعون ثمّ قال:

«أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: الله ورسوله أعلم

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا اولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه .
اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبّه، وابغض من بغضه، وأدر الحق معه حيث دار » . (راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني ).

فلمّا نزل من المنبر، استجاز حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر، فأجازه الرسول، فقام وأنشد:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ وأكرم بالنبيّ مناديا

يقول فمن مولاكم ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** ولم تَرَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدقٍ مواليا

هناك دعا: اللهّم! وال وليّه *** وكن للذي عادى علياً معاديا

مصادر الواقعة:

هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال، وهي بحق واقعة لا يسوغ لاحد انكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرخين امثال:
البلاذري، وابن قتيبة، والطبري، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وابن عساكر، وياقوت الحموي، وابن الاثير، وابن ابي الحديد، وابن خلّكان، واليافعي، وابن كثير، وابن خلدون، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن الصباغ المالكي، والمقريزي، وجلال الدين السيوطي، ونور الدين الحلبي الى غير ذلك من المؤرّخين الذين جادت بهم القرون والاجيال.

كما ذكره ايضاً أئمّة الحديث امثال: الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، والبغوي، والطحاوي، والحاكم النيسابوري، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي، والكنجي، ومحب الدين الطبري، والحمويني، والهيثمي، والجزري، والقسطلاني، والمتقي الهندي، وتاج الدين المناوي، وأبو عبد الله الزرقاني، وابن حمزة الدمشقي الىغير ذلك من أعلام المحدّثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.

كما تعرض له كبار المفسرين، فقد ذكره: الطبري، والثعلبي، والواحدي في أسباب النزول، والقرطبي، وأبو السعود، والفخر الرازي، وابن كثير الشامي، والنيسابوري، وجلال الدين السيوطي، والآلوسي، والبغدادي.

وذكره من المتكلّمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وإبراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده، والقاضي عبد الرحمن الايجيي في مواقفه، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع النوار، والتفتازاني في شرح المقاصد، والقوشجي في شرح التجريد الى غير ذلك من المتكلّمين الذين تعرضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجة فيه.

واقعة الغدير ورمز الخلود:

أراد المولى عزّ وجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مرّ الأجيال لم يُكدّر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الاحقاب، وكرّ الأزمان، وانصرام الاعوام، ويرجع ذلك الى امور ثلاثة:

1 _ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد هتف به في مزدحم غفير يربو على عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الاكبر، فنهض بالدعوة والاعلان، وحوله جموع من وجوه الصحابة وأعيان الامّة، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تمّ إبلاغه.

2 _ إنّ الله سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ الى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات:

أ _ { يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أنزِلَ إِليَكَ مِن رَبِّكَ وإن لم تَفعَل فَما بَلَّغتَ رِسالَتهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ}(المائدة / 67.).

وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير لفيف من المفسّرين يربو عددهم على الثلاثين، وقد ذكر العلاّمة البحّاثة المحقق الأميني في كتاب «الغدير» نصوص عبارات هؤلاء، فمن أراد الاطلاع عليها، فليرجع إليه.

ب _ { اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينكُم وَأَتممَتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً}(المائدة / 3.).

وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.

ج _ { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلكَافِرِينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي المَعارِج}(المعارج / 1 -3).

وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسّرين ينوف على الثلاثين، أضف الى ذلك أنّ الشيعة عن بكرة أبيهم متّفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة(راجع كتاب الغدير في شأن نزول هذه الآيات ج 1 ص 214 و217.).

3 _ إنّ الحديث منذ صدوره من منبع الوحي، تسابقت الشعراء والأدباء على نظمه، وانشاده في ابيات وقصائد امتدّت رقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة الى عصرنا هذا، وبمختلف اللغات والثقافات، وقد تمكّن البحّاثة المتضلّع العلاّمة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك الحادثة، والمؤمّل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم وأُنشد في أدبهم الخاص.

وحصيلة الكلام: قلّما نجد حادثة تاريخية حطيت في العالم البشري عامّة، وفي التاريخ الإسلامي والأُمة الإسلامية خاصّة بمثل ماحظيت به واقعة الغدير، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسّرين والكلاميين والفلاسفة والأُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا بها.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ إنّ يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة الى درجة أنّ ابن خلكان يقول حول «المستعلى ابن المستنصر»:

«فبويع في يوم غدير خم، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 هجري»:

وقال في ترجمة المستنصر بالله العباسي: «وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت، وهذه هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو غدير خم»(المصدر نفسه.).

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه الآثار الباقية «ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد»(ترجمة الآثار الباقية ص 395، الغدير ج 1 ص 267.).

وليس ابن خلّكان، وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين» (ثمار القلوب ص 511.).

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي، وجذوره ترجع الى نفس يوم «الغدير» لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمر المهاجرين والأنصار، بل امر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على عليّ (ع) وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم: كان أوّل من صافح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس(راجع مصدره في الغدير ج 1 ص 270.).

الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب (ع) .

بعض خصائصه

يطيب لي أن أُشير الى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة، فنقول: إنّ له خصائص لم يشترك فيها أحد:

1 _ ولادته في جوف الكعبة.

2 _ احتضان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم له منذ صغره.

3 _ سبقه الجميع في الإسلام.

4 _ مؤاخاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له من دون باقي الصحابة.

5 _ حمله من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على كتفه لطرح الأصنام الموضوعة في الكعبة.

6 _ استمرار ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلبه.

7 _ بصاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه يوم خيبر، ودعاؤه له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ.

8 _ إنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق.

9 _ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.

10 _ تبليغه سورة براءة عن النبيّ صلى الله عليه وآله.

11 _ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خصّه يوم الغدير بالولاية.

12 _ إنّه القائل: « سلوني قبل أن تفقدوني».

13 _ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خصّه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.

14 _ إنّ الناس جميعاً من أرباب الأديان، وغيرهم ينظرون اليه كأعظم رجل عرفه التاريخ(قد استخرج هذه الخصائص الكاتب القدير محمّد جواد مغنية -رحمه الله -في كتابه: الشيعة والتشيع 234.).



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ



الخليفة الثـانــي


الإمام حسن بن علي ع

مقدمة

هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر، وأوّل السبطين، وأحد سيّدي شباب اهل الجنّة، وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأحد الخمسة من أصحاب الكساء، أُمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّدة نساء العالمين.

ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة، وهو أوّل أولاد علي وفاطمة (ع)

نسب كان عليه من شمس الضحى *** نور ومن فلق الصباح عمودا

وروي عن أنس بن مالك قال: لم يكن احد أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحسن بن علي _ عليهما السلام _(ابن الصباغ المالكي : الفصول المهمّة 152)

فلمّا ولد الحسن قالت فاطمة لعلي: سمّه، فقال: «ما كنت لاسبق باسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»، فجاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخرج اليه فقال: «اللّهمّ إنّي أعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم » .. وأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى.

أشهر ألقابه
: التقي والزكي والسبط.

أمّا علمه:
فيكفي إنّه كان يجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجتمع الناس حوله فيتكلّم بما يشفي غليل السائل ويقطع حجج المجادلين. من ذلك ما رواه الإمام ابو الحسن علي بن احمد الواحدي في تفسير الوسيط: أنّ رجلاً دخل الى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس حوله مجتمعون فجاء اليه الرجل، قال: أخبرني عن {شاهد ومشهود} ؟ فقال: نعم، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة.

فتجاوزه الى آخر غيره يحدّث في المسجد، سأله عن {شاهد ومشهود} قال: أمّا الشاهد فيوم الجمعة، وأمّا المشهود يوم النحر.

قال: فتجاوزه الى ثالث، غلام كأنّ وجهه الدينار، وهو يحدّث في المسجد، فسأله عن شاهد ومشهود، فقال: «نعم، أمّا الشاهد فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا المشهود فيوم القيامة، أما سمعته عزّ وجلّ يقول: { يا أيُّها النبِيُّ إنّا أرسَلناكَ شاهِداً وَمُبشِّراً وَنَذِيراً }(الأحزاب / 45)، وقال تعالى: { ذلِكَ يَومٌ مَجمَوعٌ لَهُ النّاسُ وذلِكَ يَومٌ مَشهُودٌ }»(هود / 103).

فسأل عن الأوّل، فقالوا: ابن عباس، وسأل عن الثاني، فقالوا: ابن عمر، وسأل عن الثالث، فقالوا: الحسن بن علي بن ابي طالب (ع) .(بحار الأنوار 1 / 13)

وأمّا زهده:
فيكفي في ذلك ما نقله الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده أنه (ع) قال: إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته فمشى عشرين مرّة من المدينة الى مكّة على قدميه.

وروي عن الحافظ أبي نعيم في حليته ايضاً: أنّه (ع) خرج من ماله مرّتين، وقاسم الله تعالى ثلاث مرّات ماله وتصدّق به.

وكان (ع) من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها، عارفاً بغرورها وآفاتها، وكثيراً ما كان (ع) يتمثّل بهذا البيت شعراً:

يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها *** إنّ اغتراراً بظلٍّ زائلٍ حَمِقُ(ابن الصباغ المالكي: الفصول المهمّة 154)

وأمّا حلمه:
فقد روى ابن خلّكان عن ابن عائشة: إنّ رجلاً من اهل الشام قال: دخلت المدينة ، فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله، فصرت اليه وقلت له: أأنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: «أحسبك غريباً»؟ قلت: أجل، قال: «مل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آتيناك أو إلى حاجة عاونّاك»قال: فانصرفت عنه وما على الارض أحبّ اليّ منه، وما فكرت فيما صنع وصنعت إلاّ شكرته وخزيت نفسي(ابن خلّكان: وفيات الأعيان 2 / 68).

وأمّا إمامته:
فيكفي في ذلك ما صرّح به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: «هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا...»

وروت الشيعة بطرقهم عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت أمير المؤمنين (ع) حين أوصى الى ابنه الحسن _ عليه السلام _ وأشهد على وصيته الحسين _ عليه السلام _ ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثمّ دفع اليه الكتاب والسلاح وقال له: «يا بني إنّه أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أوصي اليك، وأدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين، ثمّ أقبل على ابنه الحسين (ع) فقال: وأمرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تدفعها الى ابنك هذا، ثمّ أخذ بيد علي بن الحسين وقال: وأمرك رسول الله أن تدفعها الى ابنك محمّد بن علي فاقرأه من رسول الله ومنّي السلام» (الشيخ الطبرسي ( 207 -208 هجري): إعلام الورى بأعلام الهدى، ومن أراد الوقوف على نصوص امامته فعليه أن يرجع الى الكافي 1 / 297، واثبات الهداة 2 / 543 _ 568 فقد نقل خمسة نصوص في المقام.).

روى أبو الفرج الاصفهاني: انّه خطب الحسن بن علي بعد وفاة امير المؤمنين علي (ع) وقال:

«قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد توفّي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم بقية من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله».

ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه.

ثمّ قال: «أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنا ابن البشير: أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي الى الله عزّ وجلّ بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من اهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، والذين افترض الله مودّتهم في كتابه اذ يقول: { ومَن يَقتَرِف حَسَنَةً نَزِد لَهُ حُسناً } فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».


قال أبو مخنف عن رجاله: ثمّ قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس الى بيعته فاستجابوا له وقالوا: ما أحبّه إلينا وحقّه بالخلافة، فبايعوه( مقاتل الطالبيين 52 ).

وقال المفيد: كانت بيعته يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فرتب العمال وأمر الامراء، وأنفذ عبد الله بن العباس الى البصرة، ونظر في الأُمور( المفيد: الارشاد ).

وقال أبو الفرج الاصفهاني: وكان أوّل شيء أحدثه الحسن أنّه زاد في المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي فعل ذلك يوم الجمل، وهو فعله يوم الاستخلاف، فتبعه الخلفاء بعد ذلك( مقاتل الطالبيين 55).

قال المفيد: فلمّا بلغ معاوية وفاة أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دسّ رجلاً من حمير الى الكوفة، ورجلاً من بني القين الى البصرة ليكتبا اليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الأمور، فعرف ذلك الحسن فأمر باستخراج الحميري من عند لحام في الكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه. وكتب الى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فأخرج وضربت عنقه( المفيد: الارشاد 188، مقاتل الطالبيين 52.
).

ثمّ إنّه استمرت المراسلات( ومن أراد الوقوف عليها فليرجع الى مقاتل الطالبيين 53 الى 72 وبالامعان فيها وما أظهر أصحابه من التخاذل، يتضح سرّ صلح الإمام وتنازله عن الخلافة فلم يصالح إلاّ أنّه أتم الحجّة عليهم، ومن اراد التفصيل فليرجع الى صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.) بين الحسن معاوية وانجرّت الى حوادث مريرة الى أن أدّت الى الصلح واضطرّ الى التنازل عن الخلافة لصالح معاوية، فعقدا صلحاً واليك صورته.

صلح الحسن عليه السلام مع معاوية

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلّم اليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسول الله، وليس لمعاوية أن يعهد الى احد من بعده عهداً، على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.

وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه.

وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لاخيه الحسين ولا لاحد من اهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غائلة سوء سرّاً وجهراً، ولا يخيف أحداً في أفق من الآفاق. شهد عليه بذلك فلان وفلان ، وكفى بالله شهيداً( ابن صباغ المالكي: الفصول المهمة 163).

ولما تمّ الصلح صعد معاوية المنبر وقال في خطبته: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدميّ هاتين لا أفي بشيء منها له( المفيد: الارشاد 191 طبعة النجف).

شهادته:

لما نقض معاوية عهده مع الإمام الحسن (ع) وما كان ذلك بغريب على رجل أبوه أبو سفيان وأمّه هند، وهو طليق ابن طلقاء _ عمد الى اخذ البيعة ليزيد ولده -المشهور بمجونه وتهتكه وزندقته -وما كان شيء أثقل عليه من امر الحسن بن علي (ع) فدس إليه السم، فمات بسببه.

فقد روي: أنّ معاوية أرسل الى ابنة الأشعث - وكانت تحت الحسن (ع) - إنّي مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن بن علي. وبعث إليها بمائة ألف درهم، فقبلت وسمّت الحسن، فسوّغها المال ولم يزوّجها منه( مقاتل الطالبيين 73).

فلمّا دنا موته أوصى لاخيه الحسين (ع) وقال:
«اذا قضيت نحبي غسّلني وكفّني واحملني على سريري الى قبر جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ ردّني الى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفنّي هناك، وبالله أقسم عليك أن تهريق في امري محجمة دم ».فلمّا حملوه الى روضة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يشكّ مروان ومن معه من بني أميّة انّهم سيدفنونه عند جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتجمّعوا له ولبسوا السلاح، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا احب!! وجعل مروان يقول: يا ربّ هيجاء هي خير من دعةٍ، أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ. وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أميّة. ولاجل وصيّة الحسن مضوا به الى البقيع ودفنوه عند جدته فاطمة بنت أسد( الارشاد 193، كشف الغمة 1 / 209، مقاتل الطالبيين 74 _ 75).

وتوفي الحسن وله من العمر 47 عاماً وكانت سنة وفاته سنة 50 من الهجرة النبويّة. والعجيب أنّ مروان بن الحكم حمل سريره الى البقيع فقال له الحسين: «أتحمل سريره!! أما والله لقد كنت تجرّعه الغيظ» فقال مروان: إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال( مقاتل الطالبيين 76).

ولما بلغ معاوية موت الحسن (ع) سجد وسجد من حوله وكبّر وكبّروا معه، ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد البرّ في الاستيعاب وغيرهما.

فقال بعض الشعراء:
أصبح اليوم ابن هند شامتا *** ظاهر النخوة إذ مات الحسن
يا ابن هند إن تذق كأس الردى *** تكُ في الدهر كشيء لم يكن
لست بالباقي فلا تشمت به *** كل حيّ للمنايا مرتهن( الأمين العاملي: في رحاب أئمّة أهل البيت 43)

هذه لمحة عن حياة الحسن المشحونة بالحوادث المريرة. وتركنا الكثير ممّا يرجع الى جوانب حياته، خصوصاً ما نقل عنه من الخطب والرسائل والكلم القصار، ومن أراد التفصيل فليرجع الى تحف العقول( الحرّاني، حسن بن شعبة، تحف العقول 225 _ 236) فقد ذكر قسماً كبيراً من كلماته.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ

الخليفــة الثـالــث

سيد الشهداء
الإمام الحسين بن علي ع


مقدمة :

هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر، وثاني السبطين، وسيدي شباب أهل الجنّة، وريحانتي المصطفى (ص) ، وأحد الخمسة أصحاب الكساء، وسيد الشهداء، وأمّه فاطمة بنت رسول الله (ص) .

ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة، ولما ولد جيء به الى رسول الله (ص) فاستبشر به، وأذن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه حسينا، وعقّ عنه بكبش، وأمر أُمّه ان تحلق رأسه وتتصدق بوزن شعره فضّة، كما فعلت بأخيه الحسن، فامتثلت - عليها السلام - ما أمرها به.

ولقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة 61 من الهجرة، وقيل يوم السبت، وكان قد ادرك من حياة النبيّ الأكرم (ص) خمس أو ست سنوات، وعاش مع ابيه 36 سنة، ومع اخيه 46 سنة.

إنّ حياة الإمام الحسين من ولادته الى شهادته حافلة بالأحداث، والاشارة - فضلاً عن الاحاطة - الى كل ما يرجع اليه يحتاج الى تأليف مفرد، وقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون والباحثون عن جوانب من حياته (ع) حيث تحدثوا في مؤلّفاتهم المختلفة عن النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه، وعن علمه ومناظراته ، وخطبه وكتبه وقصار كلمه، وفصاحته وبلاغته، ومكارم أخلاقه وكرمه وجوده، وزهده، وعبادته، ورأفته بالفقراء والمساكين، وعن أصحابه والرواة عنه، والجيل الذي تربّى على يديه. وذلك في مؤلّفات قيمة لا تعد ولا تحصى.

غير أنّ للحسين (ع) وراء ذلك، خصيصه أُخرى وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الذي عُرِفَ به، والذي اصبح مدرسة سياسية دينية، لعلها أصبحت الطابع المميز له (ع) والصبغة التي اصطبغت حياته الشريفة بها، وأسوة وقدوة مدى اجيال وقرون، ولم يزل منهجه يؤثر في ضمير الامّة ووعيها، ويحرّك العقول المتفتحة، والقلوب المستنيرة الى التحرّك والثورة ، ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.

وها نحن نقدم اليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيارات الإلحادية والانهيار الخلقي.

إباؤه للضيم ومعاندة الجور:

لما توفي أخوه الحسن في العام الخمسين من الهجرة أوصى اليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله، يرجعون اليه في حلّهم وترحالهم، وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون اليه ما يكون من الاحداث المهمّة التي لا توافق هوى السلطة الاموية المنحرفة، والتي قد تشكل خطراً جدياً على وجودها غير المشروع، ولقد كان هم هذه السلطة هو الإمام الحسين (ع) لما يعرفونه عنه من موقف لا يلين ولا يهادن في الحق، ومن هنا فقد كتب مروان بن الحكم - وكان عامل معاوية على المدينة -:
إنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون الى الحسين بن علي ، وأنّه لا يأمن وثوبه، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني انّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن ان يكون هذا ايضاً لما بعده.

ولما بلغ الكتاب الى معاوية كتب رسالة الى الحسين (ع) وهذا نصّها:
أمّا بعد: فقد انتهت اليّ أمور عنك ان كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها، ولعمر الله انّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وأنّ حقّ الناس بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله لها...( الإمامة والسياسة 1 / 163).

ولما وصل الكتاب الى الحسين بن علي، كتب اليه رسالة مفصّلة ذكر فيها نقضه ميثاقه وعهده، نقتبس منها ما يلي:

«ألست قاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين، الذين ينكرون الظلم، ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، جرأة على الله واستخفافاً بعهده.

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم ، لنزلت من شعف الجبال.

أولست المدعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنّة رسول الله (ص) تعمّداً وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويُسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك.

أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنّهم على دين علي - صلوات الله عليه - فكتبت اليه: أن اقتل كل من كان على دين عليّ، فقتلهم ومثـل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمه (ص) الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف» ..( الإمامة والسياسة 1 / 164).

هذا هو الحسين، وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله التي ضبطها التاريخ.

رفضه البيعة ليزيد:

لما مات معاوية في منتصف رجب سنة 60 هجرية كتب يزيد الى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين (ع) بالبيعة له، فأنفذ الوليد الى الحسين (ع) فاستدعاه، فعرف الحسين (ع) ما أراد، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال: «اجلسوا على الباب، فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا عليّ».

وصار (ع) إلى الوليد فنعى الوليد اليه معاوية فاسترجع الحسين (ع) ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاوية، فقال الحسين (ع) :
«إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سراً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس»، فقال له الوليد: أجل، فقال الحسين (ع) :
«فتصبح وترى رأيك في ذلك» .
فقال الوليد: انصرف على اسم الله تعالى، فقال مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها ابداً حتى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع او تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسين (ع) وقال:
«أنت يا بن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت» ثمّ خرج(الشيخ المفيد: الارشاد 200).

وأصبح الحسين من غده يستمع الاخبار، فاذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال: أبا عبد الله إنّي أرشدك لبيعة يزيد فانّها خير لك في دينك وفي دنياك، فاسترجع الحسين (ع) وقال:
«إنّا لله وإنّا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام اذا بليت الأمّة براع مثل يزيد، ثمّ قال: يا مروان أترشدني لبيعة يزيد!! ويزيد رجل فاسق، لقد قلت شططاً من القول وزللاً، ولا الومك فإنّك اللعين الذي لعنك رسول الله وأنت في صلب ابيك الحكم بن العاص، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد، اليك عنّي يا عدوّ الله، فإنّا أهل بيت رسول الله الحق فينا ينطق على ألسنتنا، وقد سمعت جدّي رسول الله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء، فاذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما امروا فابتلاهم بابنه يزيد» (الخوارزمي: مقتل الحسين 1 / 184 )

ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة الى مكة، ولما بلغ اهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد ، فاتّفقوا أن يكتبوا الى الحسين رسائل وينفذوا رسلاً طالبين منه القدوم اليهم في الكوفة ، لانّ القوم قد بايعوه ونبذوا بيعة الامويين، وألّحوا في ذلك الامر أيّما الحاح، مبّينين للإمام (ع) أنّ السبل ميسرة والظروف مهيأة لقدومه، حيث كتب له وجهاؤهم من جملة ما كتبوه:
«أمّا بعد: فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، فاذا شئت فأقبل على جند لك مجنّدة».

ولما جاءت رسائل أهل الكوفة تترى على الحسين (ع) أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل - رضوان الله عليه - الى الكوفة ممثلاً عنه لأخذ البيعة له منهم، وللتحقق من جدية هذا الأمر، ثمّ كتب اليهم:
«أمّا بعد: فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم انّه ليس علينا امام فاقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى، وإنّي باعث اليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ: انّه قد اجتمع رأي ملائكم وذوو الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأته في كتبكم، فإنّي أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله».. ( المفيد: الارشاد 204).

ثمّ خرج الإمام من مكة متوجّهاً الى الكوفة يوم التروية او يوماً قبله مع اهل بيته وجماعة من أصحابه وشيعته، وكان كتاب من مسلم بن عقيل قد وصل اليه يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً من اهل الكوفة، وذلك قبل أن تنقلب الامور على مجاريها بشكل لا تصدّقه العقول، حيث استطاع عبيد الله بن زياد بخبثه ودهائه، وافراطه في القتل، أن يثبط همم أهل الكوفة، وأن تنكث بيعة الإمام الحسين (ع) ، ويقتل سفيره بشكل وحشي بشع.

ولما أخذ الإمام (ع) يقترب من الكوفة استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد الله بن زياد لاستقدامه واكراهه على اعطاء البيعة ليزيد وارساله قهراً الى الكوفة، فعند ذلك قام الإمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحر بقوله:
«أيها الناس إنّ رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً حرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحّلوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غَيَّر» .. ( الطبري: التاريخ 4 / 304 حوادث سنة 61 هجري، وأمّا ما جرى على الإمام وأهل بيته حتى نزل أرض كربلاء فراجع المقاتل).

الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق:

رغم انّ الدافع الظاهري لهجرته (ع) الى العراق كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتى أنّ الإمام احتجّ بها عندما واجه الحر بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سرّ مجيئه الى العراق فقال: «كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم»( المفيد: الارشاد 224 - 228).

إلاّ ان السر الحقيقي لهجرته (ع) رغم ادراكه الواضح لما سيترتب عليها من نتائج خطرة ستؤدي بحياته الشريفة، وهو ما وطّن نفسه (ع) عليه، يمكن ادراكه من خلال الاستقراء الشامل لمسيرة حياته وكيفية تعامله مع مجريات الاحداث. انّ الامر الذي لا مناص من الذهاب اليه هو ادراك الإمام (ع) ما يشكله الاذعان والتسليم لتولّي يزيد بن معاوية خلافة المسلمين ، رغم ما عُرف عنه من تهتك ومجون وانحراف واضح عن ابسط المعايير الإسلامية، وفي هذا مؤشّر خطر عن عظم الانحراف الذي أصاب مفهوم الخلافة الإسلامية، وابتعادها الرهيب عن مضمونها الشرعي.

ومن هنا فكان لابد من وقفة شجاعة تعيد للأمّة جانباً من رشدها المضاع وتفكيرها المسلوب. إنّ الإمام الحسين (ع) قد أعلنها صراحة بقوله لما طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد، حيث قال:
« فعلى الإسلام السلام اذا بليت الامّة براع مثل يزيد» كما عرفت سابقاً.

نعم إنّ رسول الله (ص) قال: «صنفان من أُمّتي اذا صلحا صلحت أمّتي واذا فسدا فسدت أُمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ فقال: الفقهاء والأمراء» ( القمي: سفينة البحار 2 / 30 مادة أمر) ، فاذا كان صلاح الامّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها، فقيادة مثل يزيد لا تزيد الامر إلاّ عبثـاً وفساداً.

إنّ القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى، ولم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من الله سبحانه ولا بشورى من الامّة، وهذا ما ادركه المسلمون آنذاك حيث كتبوا الى الحسين (ع) رسالة جاء فيها: أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الامّة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها(الجزري: الكامل 2 / 266 - 267، والارشاد 203).

ولم يكن الولد (يزيد) فريداً في غصب حق الأمّة بل سبقه والده معاوية إلى ذلك كما هو معروف وليس بخاف على أحد، وإلى تلك الحقيقة الممجوجة يشير الإمام علي (ع) في كتاب له الى معاوية، حيث يقول:
«فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الامور، فقد سلكت مدارج اسلافك بادعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والاكاذيب، وبانتحالك ما قد علا عنك، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحق وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ممّا قد وعاه سمعك، وملئ به صدرك، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال المبين» .. (نهج البلاغة، قسم الكتب، برقم 65)

هذا ونظائره المذكورة في التاريخ ما دفع الحسين الى الثورة، وتقديم نفسه وأهل بيته قرابين طاهرة من أجل نصرة هذا الدين العظيم، مع علمه بأنّه وفقاً لما تحت يديه من الامكانات المادية لن يستطع ان يواجه دولة كبيرِة تمتلك القدرات المادية الضخمة ما يمكنها من القضاء على أي ثورة فتية، نعم إنّ الإمام الحسين (ع) كان يدرك قطعاً هذه الحقيقة، إلاّ أنّه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدسة شجرة الإسلام الوارفة التي يريد الأمويون اقتلاعها من جذورها.

كما أنّ الإمام (ع) أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الامّة فجعلها حائرة مترددة أمام طغيان الجبابرة وحكّام الجور، وان تصبح ثورته مدرسة تتعلّم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من اجل المبادئ والعقائد، وكان كل ذلك بعد استشهاد الإمام (ع) ، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

كان المعروف منذ ولادة الإمام الحسين (ع) أنّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الأكرم (ص) ووصيّه، لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة، كما أنّ هناك الكثير من القرائن التي تدلّ بوضوح على حتمية استشهاده (ع) ، ومن ذلك:

1 - روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنّه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:
«إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج انس بن الحارث فقتل بها مع الحسين (ع) .. (الاصابة 1 / 81 برقم 266).

2 - إنّ أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج إلى العراق يشكّل خطراً كبيراً على حياة الإمام (ع) وأهل بيته ولاجل ذلك أخلصوا له النصيحة، وأصرّوا عليه عدم الخروج، ويتمثـل ذلك في كلام اخيه محمّد ابن الحنفية، وابن عمّه ابن عباس، ونساء بني عبد المطلب، ومع ذلك اعتذر لهم الإمام وأفصح عن عزمه على الخروج(لاحظ المحاورات التي جرت بين الإمام وهؤلاء في الارشاد 201 - 202 طبع النجف ومقاتل الطالبيين 109، اللهوف 20).

3 - لما عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال:
« الحمد لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني الى اسلافي، اشتياق يعقوب الى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا ألاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جُوّفاً وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ..رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله (ص) لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فانّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى» ( اللهوف 41).

4 - لمّا بلغ عبد الله بن عمر ما عزم عليه الحسين (ع) دخل عليه فلامه في المسير، ولما رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل(تذكرة الخواص 217 - 218).

5 - لمّا خرج الحسين (ع) من مكة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: إلى أين يا بن رسول الله (ص) ما أعجلك عن الموسم؟ قال: « لو لم أعجل لاخذتُ، ثمّ قال له: أخبرني عن الناس خلفك: فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وأسيافهم عليك(الارشاد 218).

6 - لما أتى الى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، قال لأصحابه:
« لقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس معه ذمام» فتفرّق الناس عنه، واخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير مّمن انضمّوا اليه. ومع ذلك فقد واصل (ع) مسيره نحو الكوفة، ولما مرّ ببطن العقبة لقيه شيخ من بني عكرمة يقال عمر بن لوذان، فسأل الإمام: أين تريد؟ فقال له الحسين (ع) «الكوفة» فقال الشيخ: أنشدك لما انصرفت، فوالله ما تقدِمُ إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف، فقال له الحسين: «ليس يخفى علي الرأي، وأنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره» ( الارشاد 223).

وفي نفس النص دلالة على أنّ الإمام كان يدرك ما كان يتخوفّه غيره، وأنّ مصيره لو سار الى الكوفة هو القتل، ومع ذلك أكمل السير طلباً للشهادة من أجل نصرة الدين ورد كيد أعدائه، وحتى لا تبقى لاحد حجة يتذرّع بها لتبرير تخاذله وضعفه.

نعم لقد كان الحسين (ع) على بيّنة من أمره وما سيؤول اليه سفره من مصير محتوم، فلا شيء يقف امام ارادته من اجل اعلاء كلمة الدين وتثبيت دعائمه التي اراد الأمويون تقويضها، أنظر اليه وهو يخاطب الحر بن يزيد الرياحي الذي يحذّره من مغبّة اصراره على موقفه حيث يقول له: «أفبالموت تخوّفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وسأقول كما قال أخو الاوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب فإنّك مقتول، فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى *** إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مِتُّ لمَ أُلم *** كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
( المفيد: الارشاد 225، والطبري في تاريخه 5 / 204)

ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين (ع) أثر كبير في ايقاظ شعور الأمّة وتشجيعها على الثورة ضدّ الحكومة الأموية التي أصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين، ولاجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الأموية بعد زمان.

ولقد أجاد من قال: لولا نهضة الحسين (ع) وأصحابه - رضي الله عنهم - يوم الطف لما قام للإسلام عمود، ولا اخضرّ له عود، ولاماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة قيامه الى قيام الساعة رهين شكر للحسين (ع) وأصحابه - رضي الله عنهم-( جنّة المأوى 208).

بلى، أنّى للإمام الحسين (ع) الاذعان لحقيقة تسلّم يزيد مقاليد خلافة رسول الله (ص) ، يزيد المنحرف الفاسد، عدوّ الله وعدوّ رسوله، الذي لم يستطع اخفاء دفائنه عندما أحضر رأس سيد الشهداء بين يديه حيث أنشد:

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعدلنا قتل بدر فاعتدل
لأهلّوا واستهّلوا فرحا *** ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل
لست من خندف إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل(البيتان الأوّلان لابن الزبعرى، والثلاثة الأخيرة ليزيد، لاحظ تذكرة الخواص 235)

وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً الى العراق والحوادث التي تعرّضت له في مسيره الى أن نزل بأرض كربلاء، والتي استشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم 72 شخصاً، ظمآناً وعطشاناً، فهو خارج عن موضوع البحث. وقد أُلّف فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات. فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد ويوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخليفــة الــرابــع


الإمام علي بن الحسين السجاد "ع"


مقدمة

هو رابع أئمة أهل البيت الطاهر، المشهور بزين العابدين أو سيّدهم، والسجّاد، وذو الثفنات.
ولد في المدينة سنة 38 أو 37 هجري، وتوفّي بها عام 95 أو 94 هجري، يوم السبت الثاني عشر من محرّم.

قال ابن خلّكان: هو أحد الأئمة الإثني عشر ومن سادات التابعين. قال الزهري: ما رأيت قرشيّاً أفضل منه. وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصي وتذكر، ولما توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس - رضي الله عنه -( وفيات الأعيان 3 / 267 )

ولقد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الحسين (ع) في كربلاء، وللاطلاع على النصوص الواردة في إمامته ينبغي الرجوع إلى كتب الحديث والعقائد المتكفّلة بهذا الجانب المهم، وأخص منها بالذكر كتاب «الكافي» للكليني، و«الإرشاد» للشيخ المفيد، و«كفاية الأثر» للخزار، و«اثبات الهداة» للحر العاملي.

ومن أراد الأطلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم، والحلم، والجرأة والاقدام، وثبات الجنان، وشدة الكرم والسخاء، والورع، والزهد، والتقوى، وكثرة التهجّد والتنفّل، والفصاحة والبلاغة، وشدة هيبته بين الناس ومحبّتهم له، وتربيته لجيل عظيم من الصحابة والعلماء أوقفوا حياتهم في خدمة الإسلام، وغير ذلك ممّا لا يسعنا التعرّض لها هنا، فعليه طلب ذلك في الموسوعات المتعدّدة التي تعرّضت لذلك بالشرح والتفصيل.

جوانب من سيرته (ع)

إلاّ أنّا نكتفي هنا بجانب من سيرته (ع) تتعلّق بجملة محدّدة من الأمور:

1 - هيبته ومنزلته العظيمة:

لقد كان (ع) مهاباً جليلاً بين الناس بشكل كبير، حتى أنّ هذه المنزلة العظيمة جعلت الامراء والحكّام يحسدونه عليها، والتاريخ يذكر لنا على ذلك شواهد كثيرة ومتعدّدة، ومن ذلك:

لمّا حجّ هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ذلك، وجاء علي بن الحسين (ع) فتوقّف له الناس، وتنحّوا حتى استلم، فقال جماعة لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه - مع أنّه كان يعرفه أنّه علي بن الحسين (ع) - فسمعه الفرزدق، فقال: لكنّي أعرفه، هذا علي بن الحسين زين العابدين، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلّهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
يُغضي حياء ويُغضى من مهابته *** فما يكلّم إلاّ حين يبتسمُ
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمّتهم *** أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجدّه أنبياء الله قد خُتموا
وليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرت والعجمُ

إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأمّة وشطرها جماعة من الشعراء. وقد ثقل ذلك على هشام فأمر بحبسه، فحبسوه بين مكة والمدينة، فقال معترضاً على عمل هشام:

أيحبسني بين المدينة والتي *** إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيّد *** وعيناً له حولاء باد عيوبها
فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين (ع) عشرة آلاف درهم وقال:
«اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به» فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلاّ لله، فقال له علي (ع) :
«قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه» وأقسم عليه فقبلها.

2 - زهده وعبادته ومواساته للفقراء:

أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من الله فغني عن البيان.فقد روي عنه (ع) أنّه اذا توضّأ اصفرّ لونه، فيقال: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال: «أتدرون بين يدي من اريد أن أقف».

ومن كلماته (ع) : «أنّ قوماً عبدوا الله رياضة فتلك عبادة العبيد، وأن قوماً عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار».

وكان إذا أتاه سائل يقول له : «مرحباً بمن يحمل زادي الى الآخرة».

وكان (ع) كثير الصدقات حريصاً عليها، وكان يوصل صدقاته ليلاً دون أن يعلم به احد، وقد روي انه - عليه اللام - كان يعول مائة عائلة من أهالي المدينة لا يدرون من يأتيهم بالصدقات، ولما توفّي (ع) أدركوا ذلك.

وفي رواية: أنّه (ع) كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به

ويقول: «صدقة السر تطفئ غضب الربّ».

وفي رواية كان اهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين - عليه السلام -( تذكرة الخواص 294).

وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت رجلاً اورع من فلان - وسمّى رجلاً - فقال له سعيد: أما رأيت علي بن الحسين؟ فقال: لا، فقال: ما رأيت اورع منه.

وقال أبو حازم: ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين.

وقال طاووس: رأيت علي بن الحسين - عليهما السلام - ساجداً في الحجر فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيّب لأسمعن ما يقول، فأصغيت اليه فسمعته يقول: «عُبيدُك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك» قال طاووس: فوالله ما دعوت بهنّ في كرب إلا كشف عنّي.

وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة، فاذا أصبح سقط مغشياً عليه، وكانت الريح تميله كالسنبلة، وكان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه فثارت اليه العبيد والموالي، فقال لهم علي - عليه السلام -: «مهلاً كفّوا» ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له :« ما ستر عنك من امرنا اكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحى الرجل فألقى اليه (ع) خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل(كشف الغمّة 2 / 292 - 293).

الثروة العلمية للإمام:

أمّا الثروة العلمية والعرفانية، فهي أدعيته التي رواها المحدّثون بأسانيدهم المتضافرة، والتي جمعت بما أسمي بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم، فهي زبور آل محمد، ومن الخسارة الفادحة ان اخواننا اهل السنّة - إلاّ النادر القليل منهم - غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.

نعم، انّ فصاحة ألفاظها، وبلاغة معانيها، وعلوّ مضامينها، وما فيها من انواع التذلّل لله تعالى والثناء عليه، والاساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل اليه، أقوى شاهد على صحّة نسبتها اليه، وانّ هذا الدر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً الى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب، وتعدّد أسانيدها المتّصلة، الى منشئها، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة، الى زين العابدين(في رحاب أئمّة أهل البيت 3 / 414).

وقد أرسل احد الاعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة الى العلاّمة الشيخ الطنطاوي ( المتوفّى عام 1358 هجري) صاحب التفسير المعروف، فكتب في جواب رسالته: «ومن الشقاء إنّا الى الآن لم نقف على هذا الأثر القيّم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت، وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق، دون كلام الخالق»( مقدمة الصحيفة بقلم العلامّة المرعشي - قدّس سرّه - 28).

وكان المعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاولى التي تتضمنّن واحداً وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من الله سبحانه، والتي تعلّم الإنسان كيف يلجاً الى ربّه في الشدائد والمهمّات، وكيف يطلب منه حوائجه، وكيف يتذلّل ويتضرّع له، وكيف يحمد ويشكر له. غير أنّ لفيفاً من العلماء استدركوا عليها فجمعوا من شوارد ادعيته صحائف خمسة اخيرتها ما جمعه العلاّمة السيد محسن الامين العاملي - قدس سره -.

ولقد قام العلاّمة الحجة السيّد محمد باقر الابطحي - دام ظله - بجمع جميع ادعية الإمام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد، وقال في مقدمته:

وحرّي بنا القول إنّ ادعيته (ع) كانت ذات وجهين: وجهاً عبادياً، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الإمام (ع) في ذلك الظرف الصعب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة ان يمنح ادعيته - الى جانب روحها التعبّدية - محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب، بما حملته من مفاهيم خصبة، وأفكار نابضة بالحياة، فهو (ع) صاحب مدرسة الهية، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد الله ويقدّسه، وكيف يلج باب التوبة، وكيف يناجيه وينقطع اليه، واخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البرّ بالوالدين، ويشرح حقوق الوالد والولد، والأهل، والاصدقاء، والجيران، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي، كل ذلك باسلوب تعليميّ رائع وبليغ.

وصفوة القول: إنّها كانت اسلوباً مبتكراً في ايصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة الى القلوب الظمأى، والافئدة التي تهوى اليها لترتزق من ثمراتها، وتنهل من معينها، فكانت بحق عملية تربوية نموذجية من الطراز الاوّل، أسّس بناءها الإمام السجاد (ع) مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين(الصحيفة السجادية الجامعة 13).

ومن أدعيته (ع) في هذه الصحيفة دعاؤه في يوم عرفة، ومنه:

«اللّهمَّ هذا يوم عرفةَ، يومٌ شرَّفتهُ وكرَّمتهُ وعظّمتهُ، نَشَرتَ فيهِ رحمتَكَ، وَمَننتَ فيهِ بعفوكَ، وأجزلتَ فيهِ عطيتكَ، وتفضَّلتَ بهِ على عبادِكَ.
اللهّمِّ وأنا عبدكَ الذي أنعمتَ عليهِ قَبلَ خَلقِكَ لهُ، وبعدَ خَلقِكَ إيّاهُ، فَجَعَلتَهُ مّمِن هَديتَهُ لديِنكَ، وَوفّقتَهُ لحقّكَ، وعصمتَهُ بِحَبِلكَ، وأدخَلتَهُ في حِزبِكَ، وأرشَدتَهُ لموالاةِ أوليائِكَ ومعاداةِ أعدائِكَ».

رسالة الحقوق:

إنّ للإمام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق، أوردها الصدوق في خصاله( الخصال 564 - 570 في أبواب الخمسين ) بسند معتبر، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول( تحف العقول 183 - 195) مرسلة، وبين النقلين اختلاف يسير.

وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق، يذكر الإمام فيها حقوق الله سبحانه على الإنسان، وحقوق نفسه عليه، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج، ثمّ يذكر حقوق الأفعال، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي... التي تبلغ خمسين حقّاً، آخرها حق الذمّة.

كما روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته احاديث وحكماً مختلفة جليلة حوتها بطون الكتب المختلفة، جمع الكثير منها العلاّمة المجلسي في موسوعته الموسومة ببحار الانوار، من مختلف المصادر، فراجع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخليفــة الخــامـس


الإمام محمد بن علي الباقر "ع"



مقدمة :

أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين - عليهم السلام - الباقر هو خامس أئمّة أهل البيت الطاهر، المعروف بالباقر ، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب: لقّب به لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسّع فيه(لسان العرب 4 / 74).

وقال ابن حجر: سمّي بذلك لانّه من بقر الارض أي شقّها، وإثارة مخبآتها، ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الاحكام، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة او فاسد الطوية والسريرة، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه(الصواعق المحرقة 201).

وقال ابن كثير: أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وسمّي بالباقر لبقره العلوم، واستنباطه الحكم، كان ذاكراً خاشعاً صابراً، وكان من سلالة النبوّة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضاً عن الجدال والخصومات(البداية والنهاية 9 / 309).

وقال ابن خلّكان: ابو جعفر محمّد بن زين العابدين، الملقّب بالباقر، أحد الأئمة الإثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً، وإنّما قيل له الباقر لانّه تَبقَّر في العلم أي توسّع، وفيه يقول الشاعر:
يا باقر العلم لاهل التُقى *** وخير من لبّى على الأجبل(وفيات الأعيان 4 / 174)

ولد بالمدينة غرة رجب سنة 57 هجري وقيل 56 هجري، وتوفّي في السابع من ذي الحجّة سنة 114 هجري، وعمره الشريف 57 سنة. عاش مع جدّه الحسين (ع)4 سنين، ومع ابيه (ع)بعد جدّه (ع)تسعاً وثلاثين سنة، وكانت مدة إمامته (ع)18 سنة(إعلام الورى بأعلام الهدى 264 - 265).

وأمّا النصوص الدالة على إمامته من أبيه وأجداده والتي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الاعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني - رضي الله عنه - وغيره.
قال ابن سعد: محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين من المدينة، كان عالماً عابداً ثقة، وروى عنه الائمّة أبو حنيفة وغيره.

قال أبو يوسف: قلت لابي حنيفة: لقيت محمّد بن علي الباقر؟ فقال: نعم وسألته يوماً فقلت له : أراد الله المعاصي؟ فقال: «أفيعصى قهراً»؟ قال ابو حنيفة: فما رأيت جواباً أفحم منه.

وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند احد أصغر علماً منهم عند ابي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب، ويعني الحكم بن عيينة، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه.
وذكر المدائني: عن جابر بن عبد الله: أنّه أتى أبا جعفر محمّد بن علي الى الكتاب وهو صغير فقال له: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسلّم عليك، فقيل لجابر: وكيف هذا؟ فقال: كنت جالساً عند رسول الله والحسين في حجره وهو يداعبه فقال:«يا جابر يولد مولود اسمه عليّ إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد، اسمه محمّد ، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام».

وذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد نقل القصّة: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لجابر: «وإن لاقيته فاعلم أنّ بقاءك في الدنيا قليل» فلم يعش جابر بعد ذلك إلاّ ثلاثة أيّام. ثمّ قال: هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيّام، وفضيلة شهد له بها الخاص والعام(ابن الجوزي: تذكرة الخواص 302 - 303، الفصول المهمّة 215 - 216).

وقال المفيد: لم يظهر عن احد من ولد الحسن والحسين - عليهما السلام - في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر - عليه السلام -( الارشاد 262).

وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين وسارت بذكر كلامه الاخبار وأنشدت في مدائحه الأشعار...( الفصول المهمّة 210 نقله عن ارشاد الشيخ المفيد 261، فلاحظ).

قال ابن حجر: صفا قلبه ، وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت اوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة(الصواعق المحرقة 301).

وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنه ولا حرج، وقد جمعها العلاّمة الطبرسي في كتاب الاحتجاج (الاحتجاج 2 / 54 - 69).

قال الشيخ المفيد في الارشاد:
وجاءت الاخبار: انّ نافع بن الأزرق (الارشاد 265، ولعلّ المناظر هو عبد الله بن نافع بن الازرق، لانّ نافعاً قتل عام 65 من الهجرة وللإمام عندئذ من العمر دون العشرة، وقد نقل ابن شهر آشوب بعض مناظرات الإمام مع عبد الله بن نافع فلاحظ 4 / 201) جاء الى محمّد بن علي فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام.
فقال له أبو جعفر في عرض كلامه: «قل لهذه المارقة، بم استحللتم فراق امير المؤمنين، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة الى الله بنصرته؟ فسيقولون لك: إنّه حكَّم في دين الله، فقل لهم: قد حكّم الله تعالى في شريعة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم رجلين من خلقه فقال: { فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يُريدا إصلاحاً يوفّق الله بينهما }.
وحكَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم فيهم بما امضاه الله، أوما علمتم أنّ امير المؤمنين إنّما امر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّياه، واشترط ردّ ما خالف القرآن في أحكام الرجال، وقال حين قالوا له: حكّمت على نفسك من حكم عليك؟ فقال: ما حكّمت مخلوقاً وإنما حكّمت كتاب الله.
فأين تجد المارقة تضليل من امر بالحكم بالقرآن، واشترط ردّ ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان»؟ فقال نافع بن الازرق: هذا والله كلام ما مرّ بسمعي قط ولا خطر منّي ببال، وهو الحقّ إن شاء الله.

ثمّ إنّ الشيعة الإمامية اخذت كثيراً من الاحكام الشرعية عنه وعن ولده البار جعفر الصادق وحسب الترتيب المتداول في الكتب الفقهية، حيث روي عنه (ع)الكثير من الروايات الفقهية التي تناولت مختلف جوانب الحياة، وللاطلاع على ذلك تراجع كتب الفقه وموسوعاته المختلفة.

وأمّا ما روي عنه في الحكَم والمواعظ، فقد نقلها ابو نعيم الاصفهاني في حلية الاولياء، والحسن بن شعبة الحرّاني في تحفه(حلية الأولياء 3 / 180 - 235 وفي بعض ما نقل عنه تأمّل ونظر. والحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول 284 - 300).

وقد توفّي الإمام محمّد الباقر (ع)عام 114 هجري، ودفن في جنب قبر أبيه في البقيع، ومن اراد البحث عن فصول حياته في شتى المجالات فليراجع الموسوعات التي تحفل بها المكتبات العامّة والخاصّة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخليفــة السـادس


الإمام جعفر بن محمد الصادق "ع"

مقدمة

هو الإمام السادس من أئمّة أهل البيت الطاهر - رضي الله عنهم اجمعين - ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله، وفضله أشهر من أن يذكر. ولد عام 80 هجري، وتوفّي عام 148 هجري، ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمّد الباقر وجدّه علي زين العابدين وعم جدّه الحسن بن علي - رضي الله عنهم اجمعين - فللّه درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه(وفيات الأعيان 1 / 327 رقم الترجمة 31).

قال محمّد بن طلحة: هو من عظماء أهل البيت وساداتهم ، ذو علوم جمّة، وعبادة موفورة، وزهادة بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسّم اوقاته على انواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكّر بالآخرة، واستماع كلامه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهداه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد انّه من سلالة النبوّة وطهارة أفعاله تصدع انه من ذرّية الرسالة.
نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من اعيان الائمّة واعلامهم، مثل: يحيى بن سعيد الانصاري، وابن جريج، ومالك بن انس، والثوري، وابن عيينة، وأبي حنيفة، وشعبة، وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم، وعدوا اخذهم عنه منقبة شرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها(كشف الغمة 2 / 368).

ذكر أبو القاسم البغّار في مسند أبي حنيفة: قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: من أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمد، لما اقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا ابا حنيفة انّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ لي من مسائلك الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته.

فدخلت عليه، وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر مالم يدخلني لابي جعفر، فسلمت عليه، فأومأ إليّ فجلست، ثمّ التفت اليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة. قال: نعم اعرفه، ثمّ التفت اليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق على ابي عبد الله من مسائلك فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً حتى اتيت على الاربعين مسألة فما اخلّ منها بشيء.

ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أنّ أعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس(بحار الأنوار، ج 47 ص 217 - 218. اسد حيدر: الإمام الصادق والمذاهب الاربعة ج 4 ص 335 نقلاً عن مناقب ابي حنيفة للمكي ج 1 ص 173، وجامع مسانيد ابي حنيفة ج 1 ص 252، وتذكرة الحفّاظ للذهبي ج 1 ص 157).

عن مالك بن أنس: جعفر بن محمد اختلفت اليه زماناً فما كنت اراه إلاّ على احدى ثلاث خصال: امّا مصلّ وأما صائم وأمّا يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً(أسد حيدر: الإمام الصادق ج 1 ص 53 نقلاً عن التهذيب، ج 2 ص 104 والمجالس السنيّة ج 5).

وعن أبي بحر الجاحظ (مع عدائه لاهل البيت): جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال: إنّ أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب(أسد حيدر: الإمام الصادق ج 1 ص 55 نقلاً عن رسائل الجاحظ، ص 106).

وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر، ويُحار في انواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى، صارت الاحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها، تضاف اليه وتروى عنه (كشف الغمة 2 / 368).

وقال ابن الصباغ المالكي: كان جعفر الصادق (ع) من بين اخوته، خليفة ابيه، ووصيّه والقائم بالإمامة من بعده، برز على جماعة بالفضل، وكان أنبههم ذكراً وأجلّهم قدراً، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته وذكره في البلدان، ولم ينقل العلماء عن احد من اهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث.

إنّك اذا تتبّعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها، كلّها تعرب عن اتّفاق الامّة على امامته في العلم والقيادة الروحية، وإن اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل الله عزّ وجلّ، فذهبت الشيعة الى الثاني نظراً الى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها(لاحظ الكافي 1 / 306 - 307).

ولقد امتدّ عصر الإمام الصادق (ع) من آخر خلافة عبد الملك بن مروان الى وسط خلافة المنصور الدوانيقي، أي من سنة 83 هجري الى سنة 148 هجري فقد ادرك طرفاً كبيراً من العصر الاموي، وعاصر كثيراً من ملوكهم وشاهد من حكمهم اعنف اشكاله، وقضى حياته الاولى حتى الحادية عشر من عمره مع جده زين العابدين، وحتى الثانية والثلاثين مع ابيه الباقر ونشأ في ظلّهما يتغذّى تعاليمه وتنمو مواهبه وتربّى تربيته الدينية، وتخرّج من تلك المدرسة الجامعة فاختصّ بعد وفاة ابيه بالزعامة سنة 114 هجري، واتسعت مدرسته بنشاط الحركة العلمية في المدينة ومكة والكوفة وغيرها من الاقطار الإسلامية.

«وقد اتّسم العصر المذكور الذي عاشه الإمام بظهور الحركات الفكرية، ووفود الآراء الاعتقادية الغريبة الى المجتمع الإسلامي واهمها عنده هي حركة الغلاة الهدامة، الذين تطلّعت رؤوسهم في تلك العاصفة الهوجاء الى بث روح التفرقة بين المسلمين، وترعرعت بنات افكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمة الانتصار لمبادئهم التي قضى عليها الإسلام، فقد اغتنموا الفرصة في بث تلك الآراء الفاسدة في المجتمع الإسلامي، فكانو يبثّون الاحاديث الكاذبة ويسندونها الى حملة العلم من آل محمد، ليغرّوا به العامّة، فكان المغيرة بن سعيد يدّعي الاتصال بابي جعفر الباقر ويروي عنه الاحاديث المكذوبة، فأعلن الإمام الصادق (ع) كذبه والبراءة منه، وأعطى لاصحابه قاعدة في الاحاديث التي تروى عنه، فقال: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة، او تجدون معه شاهداً من احاديثنا المتقدمة».

ثمّ إنّ الإمام قام بهداية الأمّة الى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار، واشتعلت فيه نار الحرب بين الامويين ومعارضيهم من العباسيين، ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغلّ الإمام الفرصة فنشر من احاديث جدّه، وعلوم آبائه ما سارت به الركبان، وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء. ولقد جمع أصحاب الحديث اسماء الرواة عنه من الثقات - على اختلاف آرائهم ومقالاتهم - فكانوا أربعة آلاف رجل(الارشاد 270 والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 257). وهذه سمة امتاز بها الإمام الصادق عن غيره من الأئمة - عليه وعليهم السلام -.

إنّ الإمام (ع) شرع بالرواية عن جدّه وآبائه عندما اندفع المسلمون الى تدوين احاديث النبيّ صلى الله عليه وآله بعد الغفلة التي استمرّت الى عام 143 هجري(تاريخ الخلفاء للسيوطي خلافة المنصور الدوانيقي، فقد حدد تاريخ التدوين بسنة 143 هجري)

حيث اختلط آنذاك الحديث الصحيح بالضعيف وتسرّبت الى السنّة، العديد من الروايات الاسرائيلية والموضوعة من قبل أعداء الإسلام من الصليبيين والمجوس بالاضافة الى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الاموي.

ومن هنا فقد وجد الإمام (ع) أنّ أمر السنّة النبويّة قد بدأ يأخذ اتجاهات خطيرة وانحرافات واضحة، فعمد (ع) للتصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة، وتفنيد الآراء الدخيلة على الإسلام والتي تسرّب الكثير منها نتيجة الاحتكاك الفكري والعقائدي بين المسلمين وغيرهم.

إنّ تلك الفترة شكّلت تحدّياً خطيراً لوجود السنّة النبويّة، وخلطاً فاضحاً في كثير من المعتقدات، لذا فانّ الامام (ع) كان بحق سفينة النجاة من هذا المعترك العسر.
إنّ علوم أهل البيت - عليهم السلام - متوارثة عن جدّهم المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي اخذها عن الله تعالى بواسطة الامين جبرئيل (ع) ، فلا غرو ان تجد الامّة ضالتّها فيهم - عليهم السلام -، وتجد مرفأ الأمان في هذه اللجج العظيمة، ففي ذلك الوقت حيث اخذ كل يحدث عن مجاهيل ونكرات ورموز ضعيفة ومطعونة، او اسانيد مشوشة، تجد انّ الإمام الصادق (ع) يقول:

«حديثي حديث ابي، وحديث ابي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن ابي طالب، وحديث علي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ».

بيد أنّ ما يثير العجب ان تجد من يعرض عن دوحة النبوّة الى رجال قد كانوا وبالاً على الإسلام وأهله وتلك وصمة عار وتقصير لا عذر فيه خصوصاً في صحيح البخاري.

فالإمام البخاري مثلاً يروي ويحتج بمثل مروان بن الحكم، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم، ويعرض عن الرواية عن الإمام الصادق (ع) .

أمّا الأوّل: فهو الوزغ ابن الوزغ، اللعين ابن اللعين على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّا الثاني: فهو الخارجي المعروف الذي اثنى على ابن ملجم بشعره لا بشعوره، وأمّا

الثالث: فكان ينتقص عليّاً وينال منه، ولست ادري لمَ هذا الامر، انه مجرد تساؤل.
إنّ للإمام الصادق وراء ما نشر عنه من الاحاديث في الاحكام التي تتجاوز عشرات الآلاف، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره، والمتقشفين من الصوفية، ضبط المحّققون كثيراً منها، وهي في حد ذاتها ثروة علمية تركها الإمام (ع) ، وأمّا الرواية عنه في الاحكام فقد روى عنه ابان بن تغلب ثلاثين الف حديث.

حتى أنّ الحسن بن علي الوشاء قال: ادركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول حدّثني جعفر بن محمّد(الرجال للنجاشي 139 برقم 79).

وأمّا ما اثر عنه من المعارف والعقائد فحدّث عنها ولا حرج، ولا يسعنا نقل حتى القليل منها، ومن اراد فليرجع الى مظانّها(الاحتجاج 2 / 69 - 155 والتوحيد للصدوق، وقد بسطها على أبواب مختلفة.).

يقول «سيد أمير علي» بعد النقاش حول الفرق المذهبية والفلسفية في عصر الإمام، يقول:
«ولم تتخذ الآراء الدينية اتّجاهاً فلسفياً إلاّ عند الفاطميين، ذلك انّ انتشار العلم في ذلك الحين اطلق روح البحث والاستقصاء، واصبحت المناقشات الفلسفية عامّة في كلّ مجتمع من المجتمعات، والجدير بالذكر انّ زعامة تلك الحركة الفكرية انّما وجدت في تلك المدرسة التي ازدهرت في المدينة، والتي اسّسها حفيد علي بن ابي طالب المسمّى بالإمام جعفر والملقب بالصادق، وكان رجلاً بحاثة ومفكراً كبيراً جيد الإلمام بعلوم ذلك العصر، ويعتبر أوّل من اسس المدارس الفلسفية الرئيسية في الإسلام.

ولم يكن يحضر محاضراته أولئك الذين اسّسوا فيما بعد المذاهب الفقهية فحسب، بل كان يحضرها الفلاسفة وطلاب الفلسفة من الانحاء القصية، وكان الإمام «الحسن البصري» مؤسس المدرسة الفلسفية في مدينة البصرة، وواصل بن عطاء مؤسس مذهب المعتزلة من تلاميذه، الذين نهلوا من معين علمه الفياض وقد عرف واصل والإمام العلوي بدعوتهما الى حرية ارادة الإنسان...( مختصر تاريخ العرب، تعريب: عفيف البعلبكي ص 193)

وأمّا حِكَمه وقصار كلمه فلاحظ تحف العقول، وأمّا رسائله فكثيرة منها رسالته الى النجاشي والي الاهواز، ومنها: رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال، ومنها: ما أملاه في التوحيد للمفضل بن عمر، الى غير ذلك من الرسائل التي رسمها بخطّه(ولقد جمع أسماء هذه الرسائل السيّد الامين في اعيانه 1 / 668).

ونقتطف من وصاياه وكلماته الغزيرة وصية واحدة وهي وصيته لسفيان الثوري:
الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وترك حديث لم تروه(أي لم تروه عن طريق صحيح، والفعل مبني للمجهول)، أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه.

إنّ على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه(اليعقوبي، التاريخ ج 3 ص 115).

ونختم هذا البحث بما قاله ابو زهرة في هذا المجال:

إنّ للإمام الصادق فضل السبق وله على الاكابر فضل خاص، فقد كان ابو حنيفة يروي عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف اليه دارساً راوياً وكان له فضل الاستاذية على أبي حنيفة فحسبه ذلك فضلاً.
وهو فوق هذا حفيد علي زين العابدين الذي كان سيد اهل المدينة في عصره فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهري، وكثير من التابعين وهو ابن محمد الباقر الذي بقر العلم ووصل الى لبابه فهو ممن جعل الله له الشرف الذاتي والشرف الإضافي بكريم النسب، والقرابة الهاشمية، والعترة المحمدية (محمد أبو زهرة: الإمام الصادق ص 30).

وبما كتبه الأستاذ اسد حيدر إذ قال:
كان يؤمّ مدرسته طلاب العلم ورواة الحديث من الاقطار النائية، لرفع الرقابة وعدم الحذر فأرسلت الكوفة، والبصرة، وواسط، والحجاز الى جعفر بن محمد افلاذ اكبادها، ومن كل قبيلة من بني اسد ومخارق، وطي، وسليم، وغطفان، وغفار، والازد، وخزاعة، وخثعم، ومخزوم، وبني ضبة، ومن قريش، ولا سيّما بني الحارث بن عبد المطلب، وبني الحسن بن الحسن بن علي(اسد حيدر: الإمام الصادق ج 1 ص 38 نقلاً عن كتاب جعفر بن محمد، لسيد الأهل).

ولمّا توفّي الإمام شيّعه عامّة الناس في المدينة، وحُمل الى البقيع ودفن في جوار ابيه وجدّه (ع) عليهما السلام (ع) ، وقد أنشد فيه ابو هريرة العجلي قوله:

أقول وقد راحوا به يحملونه *** على كاهل من حامليه وعاتق
أتدرون ماذا تحملون الى الثرى *** ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهق
غداة حثا الحاثون فوق ضريحه *** تراباً وأولى كان فوق المفارق

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.


يتبــع <<<<


__________________
.







استـمع لآخــر محـاضــرة ألقــاهـا السيـد الصـدر قبل استشهـاده


______________________-___________________0001.wma - 5.5 Mb



بكيـت ,,,, لعل بمـاء عينـي أطفـئ نـار ذنبـي
.


الضلع المكسور
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى الضلع المكسور
البحث عن المشاركات التي كتبها الضلع المكسور

04-14-2007, 08:10 PM #2
الضلع المكسور
عضو فخري


تاريخ التسجيل: Jan 2006
الدولة: الإمارات
العمر: 25
المشاركات: 3,748
معدل تقييم المستوى: 6


--------------------------------------------------------------------------------


الخليفــة السابــع


موسي بن جعفر الكاظـم "ع"


مقدمة

سابع أئمّة أهل البيت الطاهر. ولد بالابواء بين مكة والمدينة يوم الاحد في 7 صفر سنة 128 هجري، واستشهد بالسم في سجن الرشيد عام 183 هجري، ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في ايامنا هذه بالكاظمية.

كان (ع) انموذج عصره، وفريد دهره، جليل القدر، عظيم المنزلة، مهيب الطلعة، كثير التعبّد، يطوي ليله قائماً ونهاره صائماً، عظيم الحلم، شديد التجاوز، حتى سمّي لذلك كاظماً، لاقى من المحن ما تنهد لهولها الجبال فلم تحرّك منه طرفاً، بل كان (ع) صابراً محتسباً كحال آبائه وأجداده (ع) .

يعرف بأسماء عديدة منها: العبد الصالح، والكاظم، والصابر، والأمين.

قال ابن الصباغ: روى عبد الاعلى عن الفيض بن المختار قال: قلت لابي عبد الله جعفر الصادق (ع) : خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ فدخل موسى الكاظم وهو يومئذ غلام، فقال ]أي الصادق - عليه السلام -[ «هذا صاحبكم فتمسّك به» ( الفصول المهمّة 231).

قال الشيخ المفيد: هو الإمام بعد ابيه، والمقدّم على جميع بنيه لاجتماع خصال الفضل فيه، وورود صحيح النصوص وجلي الاقوال عليه من ابيه بأنّه ولي عهده والإمام القائم من بعده(لاحظ للوقوف على تلك النصوص الكافي 1 / 307 - 311، اثبات الهداة 3 / 156 - 170 فقد نقل في الاخير 60 نصّاً على امامته)

وقد تولّى منصب الإمامة بعد ابيه الصادق (ع) في وقت شهدت فيه الدولة العباسية استقرار اركانها وثبات بنيانها، فتنكّرت للشعار الذي كانت تنادي به من الدعوة لآل محمد - عليه وعليهم السلام -، فالتفتت الى الوريث الشرعي لشجرة النبوّة مشهرة سيف العداء له ولشيعته تلافياً من تعاظم نفوذه ان يؤتي على اركان دولتهم وينقضها، فشهد الإمام الكاظم (ع) طيلة سني حياته صنوف التضييق والمزاحمة، الا أن ذلك لم يمنعه (ع) من ان يؤدّي رسالته في حماية الدين وقيادة الامّة، فعرفه المسلمون آية من آيات العلم والشجاعة، ومعيناً لا ينضب من الحلم والكرم والسخاء، ونموذجاً عظيماً لا يدانى في التعبّد والزهد والخوف من الله تعالى.

روايات عن سيرته العطرة

ولقد افرد الباحثون والمحّققون تآليف كثيرة في سيرة هذا الإمام العظيم، كفتنا عن التعرّض لها هنا في هذه العجالة، إلاّ أنّنا سنحاول في هذه الصفحات التعرّض لجوانب مختارة من تلك السيرة العطرة:

1 - روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال: حجّ هارون الرشيد فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زائراً، وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر، فلمّا انتهى الى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله يا بن عمّي - افتخاراً على من حوله -، فدنا موسي بن جعفر فقال: «السلام عليك يا أبة» فتغيّر وجه الرشيد وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقّاً(وفيات الأعيان 5 / 309).

ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار: أنّ هارون كان يقول لموسى بن جعفر: يا ابا الحسن خذ فدك (قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، افاءها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم صلحاً سنة سبع من الهجرة، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى ابنته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (ع) وكانت ملكاً لها في حياته تستفاد من خيراتها، إلاّ أنّ أبا بكر حرمها منها فاغتاظت منه الزهراء وحاججته في ذلك الامر لكنّه أبى، وبقيت فدك هكذا حتى ردّها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الى ابناء فاطمة (ع) ثمّ نزعها منهم يزيد بن عبد الملك، فلم تزل في ايدي الامويين حتى ولي العباسيون فدفعها ابو العباس السفاح الى الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب، ثمّ أخذها المنصور، ثمّ أعادها ولده المهدي، ثمّ أخذها موسى الهادي، الى ان ولي المأمون فاعادها إليهم) حتى أردها عليك، فيأبى ، حتى ألحّ عليه فقال: « لا آخذها إلاّ بحدودها» قال: وما حدودها؟ قال: «يا امير المؤمنين إن حددتها لم تردها»، قال: بحق جدك إلاّ فعلت، قال: «أمّا الحد الأوّل فعدن» فتغيّر وجه الرشيد وقال: هيه، قال: «والحد الثاني سمرقند» فأربد وجهه، قال:« والحد الثالث افريقيا» فاسودّ وجهه وقال: هيه، قال: «والرابع سيف البحر مماّ يلي الخزر وارمينية»، قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء فتحوّل في مجلسي، قال موسى - عليه السلام -: «قد أعلمتك أنّي إن حددّتها لم تردّها».
فعند ذلك عزم على قتله(ربيع الأبرار 1 / 315).

3 - كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثمّ يعقّب حتى تطلع الشمس ويخرّ لله ساجداً، لا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتى يقرب زوال الشمس.
وكان يدعو كثيراً فيقول:
«اللّهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب»، ويكرّر ذلك.

وكان من دعائه (ع) «عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك».
وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع.
وكان أوصل الناس لأهله ورحمه.
وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو(المفيد: الارشاد 296).

4 - في تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة: قال ابو حنيفة: حججت في ايام ابي عبد الله الصادق (ع) فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه، إذ خرج صبي فقلت: يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم؟ قال: « على رسلك»، ثمّ جلس مستنداً الى الحائط، ثمّ قال: «توقّ شطوط الأنهار، ومساقط الثمار، وأفنية المساجد، وقارعة الطريق، وتوار خلف جدار، وشل ثوبك، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، وضع حيث شئت» فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له: ما اسمك؟ فقال: « أنا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب» فقلت له: يا غلام ممّن المعصية؟ فقال:

«إنّ السيّئات لا تخلو من احدى ثلاث: إمّا أن تكون من الله وليست من العبد فلا ينبغي للربّ أن يعذّب العبد على مالا يرتكب، وإمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإمّا أن تكون من العبد - وهي منه - فإن عفا فبكرمه وجوده وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته».
قال أبو حنيفة: فانصرفت ولم ألق أبا عبد الله واستغنيت بما سمعت.

وروى ابن شهر آشوب في المناقب نحوه إلاّ أنّه قال: «يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار»، وقال: فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث: فقلت: ذرّية بعضها من بعض(تحف العقول 303، المناقب لابن شهر آشوب 4 / 314).

5 - روى أبو الفرج الاصفهاني: حدثنا يحيى بن الحسن قال: كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير. وكانت صراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار، فكانت صرار موسى مثلا.

وقال: إنّ رجلاً من ال عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب إذا رأى موسي بن جعفر، ويؤذيه إذا لقيه، فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال: «لا»، ثمّ مضى راكباً حتى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره، فصاح: لا تدس زرعنا.
فلم يصغ إليه وأقبل حتى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه، وقال له: «كم غرمت على زرعك هذا»؟ قال: مائة درهم، قال: «كم ترجو أن تربح»؟ قال: لا أدري، قال: «إنّما سألتك كم ترجو»، قال: مائة أخرى. قال: فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له، فقام فقبّل رأسه، فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وكان بعد ذلك كلّما دخل موسى خرج وسلّم عليه ويقوم له، فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله: «أيّما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت»( مقاتل الطالبيين 499 - 500، تاريخ بغداد 28).

6 - حكي أنّ الرشيد سأله يوماً: كيف قلتم نحن ذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم بنو علي وإنّما ينسب الرجل الى جدّه لأبيه دون جدّه لامّه؟ فقال الكاظم (ع) :«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسم الله الرَّحمن الرَّحيم: {ومِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيمانَ وَأيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهرون وَكَذلكَ نَجزِي المُحِسنِينَ * وَزَكَريّا وَيَحيى وَعِيسى وإلياسَ...} وليس لعيسى أب إنّما أُلحق بذريّة الأنبياء من قبل أُمّه، وكذلك أُلحقنا بذريّة النبي من قبل أُمّنا فاطمة الزهراء، وزيادة أُخرى يا امير المؤمنين: قال الله عزّ وجلّ: { فَمَن حاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلم فَقُل تَعالَوا نَدعُ أَبْنَاءَنَا وأبناءَكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسنَا وأنفُسَكُم ثُمَّ نَبَتهِل...} ولم يدع صلى الله عليه وآله وسلم عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء»( الفصول المهمّة 238، والآيتان من سورتي الأنعام 84، وآل عمران 61).

7 - أمّا علمه والحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب، وكان يعرف بين الرواة بالعلم. وقد روى الناس عنه فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله( المفيد: الارشاد 298، ولاحظ جوانب من حكمه ووصاياه في الكافي 1 / 13 - 20، وتحف العقول 283).

وقد اتفقت كلمة المؤرّخين على أنّ هارون الرشيد قام باعتقال الإمام الكاظم (ع) وإيداعه السجن لسنين طويلة مع تأكيده على سجّانيه بالتشديد والتضييق عليه.
قال ابن كثير: فلما طال سجن الإمام الكاظم (ع) كتب الى الرشيد: أمّا بعد يا أمير المؤمنين إنّه لم ينقض عنّي يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك الى يوم يخسر فيه المبطلون(البداية والنهاية 10 / 183).

ولم يزل ذلك الامر بالإمام - عليه السلام -، يُنقل من سجن إلى سجن حتى انتهى به الأمر إلى سجن السندي بن شاهك( قال أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين 502: لمّا اعتقل الرشيد الإمام الكاظم (ع) أمر بارساله الى البصرة ليسجن عند عيسى بن جعفر المنصور، وكان على البصرة حينئذ، فحبس عنده سنة، ثمّ كتب إلى الرشيد: أن خذه منّي وسلّمه إلى من شئت، وإلاّ خلّيت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجّة فما أقدر على ذلك، حتى أنّي لأتسمّع عليه إذا دعا لعلّه يدعو عليَّ أو عليك، فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه، يسأل الله الرحمة والمغفرة.
فوجّه الرشيد من تسلّمه، وحبسه عند الفضل بن الربيع في بغداد، فبقي عنده مدة طويلة، ثمّ كتب اليه ليسلّمه إلى الفضل بن يحيى ، فتسلّمه منه، وطلب منه أن يعمد إلى قتل الإمام كما طلب من عيسى بن جعفر فلم يفعل، بل عمد إلى إكرام الإمام (ع) والاحتفاء به ولما بلغ الرشيد ذلك أمر به أن يجلد مائة سوط، ثمّ أخذ الإمام منه وسلّمه إلى السندي بن شاهك لعنه الله، وكانت نهاية حياة الإمام الطاهرة على يده الفاجرة )، وكان فاجراً فاسقاً، لا يتورّع عن أي شيء تملّقاً ومداهنة للسلطان، فغالى في سجن الإمام (ع) وزاد في تقييده حتى جاء أمر الرشيد بدسّ السم للكاظم - عليه السلام -، فأسرع السندي إلى انفاذ هذا الأمر العظيم واستشهد الإمام (ع) بعد طول سجن ومعاناة في عام 183 هجري.

ولما كان الرشيد يخشى ردّة فعل المسلمين عند انتشار خبر استشهاد الإمام - عليه السلام -، لذا عمد إلى حيلة ماكرة للتنصّل من تبعة هذا الأمر الجلل، فقد ذكر أبو الفرج الاصفهاني وغيره(مقاتل الطالبيين 504): إنّ الإمام الكاظم لما توفّي مسموماً أُدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي وغيره ليشهدوا على أنّه مات حتف أنفه دون فعل من الرشيد وجلاوزته، ولما شهدوا على ذلك أُخرج بجثمانه الطاهر ووضع على الجسر ببغداد ونودي بوفاته. فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد سجيناً مظلوماً مسموماً، ويوم يبعث حياً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ

الخليفـة الـثامــن



الإمام علي بن موسى الرضـا "ع "




مقدمة

وهو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - القائم بالإمام بعد أبيه موسى بن جعفر - عليهما السلام - لفضله على جماعة أهل بيته وبنيه واخوته في عصره، ولعلمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة، مضافاً الى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته(لاحظ للوقوف على النصوص، الكافي 1 / 311 - 319 والارشاد 304 - 305، واثبات الهداة 3 / 228 روي فيه 68 نصاً على إمامته).

ولد في المدينة سنة 148 هجري، واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر 203 هجري، وله يومئذ 55 سنة، وكانت مدة إمامته بعد أبيه 20 سنة(الارشاد 304).

قال الواقدي: علي بن موسى، سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقة يفتي بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة(ابن الجوزي: تذكرة الخواص 315).

قال الشيخ كمال الدين بن طلحة: ومن أمعن نظره وفكره، وجده في الحقيقة وارثهما ( المراد علي بن ابي طالب وعلي بن الحسين (ع) نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفعت مكانته، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته، وفوّض اليه امر خلافته، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته، وكانت مناقبه عليّة، وصفاته ثنيّة، ونفسه الشريفة زكيّة هاشميّة، وارومته النبوية كريمة(الفصول المهمة 343 نقلاً عن مطالب السؤول).

وقد عاش الإمام الرضا (ع) في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية ، وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم، وازداد التشكيك في الاصول والعقائد من قبل الملاحدة واحبار اليهود، وبطارقة النصارى، ومجسّمة اهل الحديث.
وفي تلك الأزمنة أُتيحت له (ع) فرصة المناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم، فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء(لقد جمع الشيخ الطبرسي قسماً من هذه الاحتجاجات في كتابه «الاحتجاج» 2 / 170 - 237 ).

ولأجل ايقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي:

دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا (ع) فقال: روينا أنّ الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين، فقسم لموسى (ع) الكلام ولمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية.
فقال أبو الحسن - عليه السلام - : «فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين الجنّ والإنس: إنّه {لا تدركه الأبصار}، و{لا يحيطون به علماً}، و{ليس كمثله شيء}، أليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم»؟ قال: بلى.

قال:« فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول: {لا تركه الأبصار}، و{لا يحيطون به علماً}، و{ليس كمثله شيء}، ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر».

فقال أبو قرة: فإنّه يقول: {ولَقَد رَآهُ نزلةً أُخرى}.
فقال أبو الحسن - عليه السلام - : «إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: {ما كذب الفؤادُ ما رأى} يقول: ما كذب فؤاد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال: {لَقَد رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبرى} فآيات الله غير الله، وقال: {لا يُحيطون بِهِ عِلما} فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة».
فقال أبو قرة: فتكذّب بالرواية؟

فقال أبو الحسن: «إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه : إنّه لا يحاط به علماً، ولا تركه الأبصار، وليس كمثله شيء»( الاحتجاج للطبرسي 2 / 184).

ولما انتشر علم الإمام وفضله، أخذت الأفئدة والقلوب تشدّ اليه، وفي الأمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل، فكثر التفاف المسلمين حول الإمام الرضا (ع) وازدادت أعدادهم، ممّا دفع بالخلافة العباسية الى محاولة سحب البساط من تحت أرجل الإمام (ع) وأعوانه قبل أن تستفحل الامور ويصعب السيطرة على الموقف بعدها، فلجا المأمون إلى مناورة ذكية ماكرة استطاع من خلالها قلب تيار الأحداث لصالحه، حيث استقدم الإمام الرضا (ع) وجملة من وجوه الطالبيين الى مقر الحكومة آنذاك في مرو من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، معززين مكرّمين حتى أنزلوهم الى جوار مقر الخلافة ريثما يلتقي المأمون بالإمام علي بن موسي (ع) .

وما كان من المأمون إلاّ أن بعث إلى الإمام الرضا (ع) قبل اجتماعه به: إنّي أريد أن أخلع نفسي من الخلافة وأقلّدك إيّاها فما رأيك؟ فأنكر الرضا (ع) هذا الامر وقال له: «أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به احد» فرد عليه الرسالة: فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي، فأبى عليه الرضا اباءً شديداً.

فاستدعاه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين - ليس في المجلس غيرهم - وقال له: إنّي رأيت أن اقلّدك أمر المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك.
فقال له الرضا - عليه السلام - : «الله الله يا أمير المؤمنين إنّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه».

قال له: فإنّي موليك العهد من بعدي.
فقال له: «اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين».
فقال له المأمون - كلاماً فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه - : إنّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أمير المؤمنين (ع) وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما اريد منك فإنّي لا اجد محيصاً عنه.
فقال له الرضا (ع) : «فإنّي أجيبك الى ما تريد من ولاية العهد على أنّني لا آمر، ولا أنهى، ولا أفتي، ولا أقضي، ولا أولي، ولا أعزل، ولا أغير شيئاً ممّا هو قائم» فأجابه المأمون الى ذلك كلّه(الارشاد للمفيد 310).

أقول: ليس بخاف على ذي لب مغزى اصرار المأمون على تولية الإمام الرضا (ع) لمنصب ولاية العهد، وتبدو هذه الصورة واضحة عند استقراء الاحداث التي سبقت او رافقت هذه المؤامرة المحكمة.

فعندما قدّم هارون الرشيد ولده الامين رغم اقراره ومعرفته بقوة شخصية المأمون وذكائه قياساً بأخيه المدلل الذي لا يشفع له إلاّ مكانة أمّه زبيدة الحاكمة في قصر الرشيد، كان يعني ذلك ايذاناً بقيام الفتنة التي حصلت من بعد وراح ضحيتها عشرات الالوف وعلى رأسهم الأمين الذي وقف العباسيون إلى صفّه وقاتلوا معه، ولما انتقلت السلطة بأكملها الى المأمون المستقر في خراسان والمدعوم بأهلها آنذاك، فقد واجه خطر نقمة اكثر العباسيين وعدائهم له وتحيّنهم الفرص السانحة للانقضاض عليه وعلى حكمه.

وفي الجانب الآخر كان الشيعة في كلّ مكان يرفضون ويناصبون الخلافة العباسية العداء نتيجة سوء صنيعهم وظلمهم للعلويين ولآل البيت خاصة، والذين يشكل شيعة خراسان جانباً مهماً منهم.

وكان في أوّل سنة لخلافة المأمون أن خرج السري بن منصور الشيباني المعروف بأبي السرايا في الكوفة منادياً بالدعوة لمحمد بن ابراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن علي (ع) حيث بايعه عامة الناس على ذلك.

وفي المدينة خرج محمد بن سليمان بن داود بن الحسن، وفي البصرة علي بن محمد بن جعفر بن علي بن الحسين وزيد بن موسى بن جعفر الملقب بزيد الغار، وفي اليمن ابراهيم بن موسى، ومن ثمّ فقد ظهر في المدينة أيضاً الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين المعروف بالافطس.

وهكذا فقد اندلعت في انحاء الدولة الكثير من الثورات تناصرها الآلاف من الناس الذين ذاقوا الامرّين من حكم الطواغيت والظلمة.

وهكذا فقد ادرك المأمون مدى تأزّم الموقف وتخلخل وضع الحكومة آنذاك، فلم يجد بداً من تظاهره امام الرأي العام الشيعي - الذي كان من أقوى التيارات المؤهلة للاطاحة بالخلافة العباسية دون أي شك - بتنازله عن الخلافة - التي قتل اخاه من اجلها - الى الإمام الرضا (ع) إمام الشيعة وقائدهم.

وهكذا فبعد قبول علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - بولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء، فخفقت الألوية على رأسه، وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل بن علي الخزاعي، فلمّا دخل عليه قال: قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك، فأمره بالجلوس حتى خفّ مجلسه ثمّ قال له: «هاتها» فأنشد قصيدته المعروفة:

مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى *** وبالركن والتعريف والجمراتِ
ديار علي والحسين وجعفر *** وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ
ديار عفاها كلّ جون مبادر *** ولم تعف للأيام والسنواتِ

إلى أن قال:

قبور بكوفان وأُخرى بطيبة *** وأُخرى بفخ نالها صلواتي
وقر ببغداد لنفس زكية *** تضمّنها الرحمن بالغرفاتِ
فأمّا المصمات التي لست بالغاً *** مبالغها مني بكنه صفاتِ
إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً *** يفرِّج منها الهم والكربات

إلى أن قال:

ألم تر أنّي مذ ثلاثين حجة *** أروح وأغدو دائم الحسرات؟
أرى فيئهم في غيرهم متقسما *** وأيديهم من فيئهم صفرات
إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم *** أكفّاً من الأوتار منقبضات

حتى أتى على آخرها، فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا (ع) فدخل الى حجرته وأنفذ اليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر اليه، فردّها دعبل وقال: والله ما لهذا جئت، وإنّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر الى وجهك الميمون، وإنّي لفي غنى، فإن رأيت أن تعطني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب إليّ. فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرّة(الفصول المهمّة 246، الارشاد 316، الأغاني 18 / 58، زهر الآداب 1 / 86، معاهد التنصيص 1 / 205، الاتحاف 165، تاريخ دمشق 5 / 234 وللقصّة صلة ومن أراد فليراجع الى المصادر المذكورة.
).

كان الإمام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشر صيته في بقاع الارض، وعظم تعلّق المسلمين به، ممّا أثار مخاوف المأمون وتوجّسه من ان ينفلت زمام الامر من يديه على عكس ما كان يتمناه، وما كان يبتغيه من ولاية العهد هذه، وقوّى ذلك الظن أنّ المأمون بعث اليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا (ع) :
«إنّك قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الامر، فاعفني في الصلاة بالناس». فقال له المأمون: إنّما أريد بذلك ان تطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضلك.
ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك، فلمّا ألحّ عليه المأمون، أرسل اليه الرضا: « إن أعفيتني فهو أحبّ إليّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين - عليه السلام - » فقال المأمون: أُخرج كيف شئت. وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا الى باب الرضا (ع).

قال: فقعد الناس لابي الحسن (ع) في الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، فاغتسل ابو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامةٍ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه، ومسّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه:
«افعلوا مثل ما فعلت» فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة، فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه، فلمّا رآه الجند والقوّاد سقطوا كلّهم عن الدواب الى الارض، ثمّ كبّر وكبّر الناس فخيل إلى الناس أنّ السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوا الإمام الرضا (ع) وسمعوا تكبيره، فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل: إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل فتن به الناس، وخفنا كلّنا على دمائنا، فأنفذ اليه أن يرجع. فأرسل اليه من يطلب منه العودة، فرجع الرضا (ع) واختلف أمر الناس في ذلك اليوم(المفيد: الارشاد 312.
).
وقد أشار الشاعر البحتري الى تلك القصّة بأبيات منها:

ذكروا بطلعتك النبيّ فهللوا *** لما طلعت من الصفوف وكبّروا
حتى انتهيت الى المصلّى لابساً *** نور الهدى يبدو عليك فيظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع *** لله لا يزهى ولا يتكبر(أعيان الشيعة 2 / 21 - 22)

إنّ هذا وأمثاله، وبالاخص خروج أخ المأمون زيد بن موسى بالبصرة على المأمون، لأنّه فوض ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا الذي كان في تصوّره سيؤدي إلى خروج الامر من بيت العباسيين، كل ذلك وغيره دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ اليه السم على النحو المذكور في كتب التاريخ.

ومن لطيف ما نقل عن أبي نواس أنّه كان ينشد الشعر في كلّ جليل وطفيف ولم يمدح الإمام، ولما عوتب على ذلك من قبل بعض أصحابه حيث قال له: ما رأيت اوقح منك، ما تركت خمراً ولا طرداً ولا معنى إلاّ قلت فيه شيئاً، وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً، فقال أبو نواس: والله ما تركت ذلك إلاّ اعظاماً له، وليس قدر مثلي أن يقول في مثله، ثمّ أنشد بعد ساعة هذه الأبيات:

قيل لي أنت أحسن الناس طراً *** في فنون من الكلام النبيه
لك من جَيِّد القريض مديحٌ *** يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلامَ تركت مدح ابن موسى *** والخصال التي تجمّعن فيه
قلت لا أستطيع مدح إمامٍ *** كان جبريلُ خادماً لأبيه

وقال فيه (ع) أيضاً:

مطهّرون نقيات جيوبهم *** تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علوياً حين تنسبه *** فما له في قديم الدهر مفتخر
الله لمّا برا خلقا فأتقنه *** صَفّاكُمُ واصطفاكم أيّها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم *** علم الكتاب وما جاءت به السور
(ابن خلّكان: وفيات الأعيان 3 / 270)

ولما استشهد الإمام (ع) دفن في مدينة طوس في قبر ملاصق لقبر هارون الرشيد، وقبر الإمام الرضا الآن مزار مهيب يتقاطر المسلمون على زيارته والتبرك به.
فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخليفــة التاســع


الإمام محمد بن علي الجـواد "ع"


مقدمة

هو الإمام التاسع من أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -، ولد بالمدينة المنورة في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين بعد المائة، فورث الشرف من آبائه واجداده، واستسقت عروقه من منبع النبوّة، وارتوت شجرته من منهل الرسالة.

قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا (ع) عام 203 هجري، واستشهد ببغداد عام 220 هجري، أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.
أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة(أنظر الكافي 1 / 320 - 323، اثبات الهداة 3 / 321 - 328.).

يلقّب بالجواد والقانع والمرتضى والنجيب والتقي والزكي وغيرها من الألقاب الدالّة على علو شأنه وارتفاع منزلته.

أقول: لمّا توفّي الرضا (ع) كان الإمام الجواد في المدينة وقام بأمر الإمامة بوصية من ابيه وله من العمر تسع او عشر سنين، وكان المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه (ع) خلافاً لاسلافه من العباسيين، حيث إنّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن، وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لاهل البيت وبغضاً للخلفاء، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الاسلوب باسلوب آخر وهو استقدام أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم، وقد استمرت هذه السياسة في حقّهم الى الإمام الحادي عشر كما ستعرف.

وما كان من المأمون عندما استقدم الإمام الى مركز الخلافة، إلاّ أن شغف به لما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل مالم يساوه فيه احد من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته امّ الفضل وحملها معه الى المدينة، وكان حريصاً على اكرامه وتعظيمه واجلال قدره، ونحن نكتفي في المقام بذكر أمرين:

1 - لمّا توفّي الإمام الرضا (ع) وقدم المأمون بغداد اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد، فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم، فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد، وعمره آنذاك تسع سنين، فلمّا اقترب منه الخليفة قال له: يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك؟! فقال له محمّد الجواد مسرعاً: «يا أمير المؤمنين فرّ أصحابي فرقاً والظنّ بك حسن أنّه لا يفرّ منك من لا ذنب له، ولم يكن بالطريق ضيق فأنتحي» فأعجب المأمون كلامه وحسن صورته فقال له: ما اسمك يا غلام؟ قال: «محمّد بن علي الرضا - عليه السلام -» فترحّم على أبيه(الفصول المهمّة 266).

2 - لمّا أراد المأمون تزويج ابنته أمّ الفضل من الإمام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له: نشهدك الله أن تقيم على هذا الامر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فانّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه الله! وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله! فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتى كفى الله المهم من ذلك - إلى أن قالوا-: إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنّه صبي لا معرفة له فأمهله حتى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ما ترى.

قال المأمون: ويحكم إنّي اعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وإلهامه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والادب من الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله. قالوا: رضينا.

فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك.

واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه ، وامر المأمون أن يفرش لابي جعفر دست ففعل ذلك، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر - عليه السلام -.

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسال أبا جعفر؟
فقال: استأذنه في ذلك.
فأقبل عليه يحيى وقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟
فقال: «سل إن شئت».
فقال: ما تقول - جعلت فداك - في مُحرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر - عليه السلام -: « في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادماً؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟».

فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره.
فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ قال لأبي جعفر - عليه السلام -: اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي(الارشاد 319 - 321، وإعلام الورى 352 وللقصّة صلة فراجع).

ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لابي جعفر: إن رأيت - جعلت فداك - أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المُحرم الصيد لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر (ع) : «إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، فإن قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحر في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة».
فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر...( الارشاد 322).

رجوع الجواد إلى المدينة:

ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن أقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة، فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدم الإمام الجواد (ع) إلى بغداد سنة 220(وفي الارشاد 326، وفي اعلام الورى 304: وكان سبب ورود الإمام الى بغداد إشخاص المعتصم له من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة 225 هجري... ثمّ يقول: وكان له يوم قبض 25 سنة.. ولا يخفى أنّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة 225 هجري، يكون له يوم وفاته 30 سنة من العمر لأنّه ولد عام 195 هجري) وبقي فيها (ع) حتى توفّي في آخر ذي القعدة من تلك السنة، وله من العمر 25 سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش.

وقال ابن شهر آشوب: إنّه قبض مسموماً(ابن شهر آشوب: المناقب 4 / 379).

فسلام الله على إمامنا الجواد يوم ولد، ويوم مات أو استشهد بالسم، ويوم يبعث حيّاً.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخليفــة العــاشــر


الإمام علي بن محمد الهادي "ع"



مقدمة

الإمام علي بن محمّد الهادي، هو الإمام العاشر، والنور الزاهر، ولد عام 212 هجري ، وتوفّي بسامراء سنة 254 هجري، وهو من بيت الرسالة والإمامة، ومقر الوصاية والخلافة، وثمرة من شجرة النبوّة.

قام (ع) بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد (ع) ، وقد عاصر خلافة المعتصم والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتز، وله مع هؤلاة قضايا لا يتسع المقام لذكرها.

قال ابن شهر آشوب: كان أطيب الناس مهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت علته هيبة الوقار، وإذا تكلم سماه البهاء(ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب 4 / 401 )

وقال عماد الدين الحنبلي: كان فقيهاً إماماً متعبّداً(شذرات الذهب 2 / 128 في حوادث سنة 254).

وقال المفيد: تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن علي بن محمّد، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالإمامة، والاشارة اليه من أبيه بالخلافة( الارشاد 327)

وقد تضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا، فمن أراد فليرجع الى الكافي واثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك ( الكليني، الكافي 1 / 323 - 325، الشيخ الحر العاملي: اثبات الهداة 30 / 355 - 358).

وقد مارس المتوكّل نفس الاسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثمّ أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الاقامة في مقرّ الخلافة، وجعل العيون والحرّاس عليهم حتى يطّلعوا على دقيق حياتهم وجليلها.

وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين، وأشدّهم عداءً لعليّ، فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة ومكانته هناك، وميل الناس اليه، فخاف منها (روي أنّ بريحة العباسي أحد أنصار المتوكل وأزلامه كتب إليه: إن كان لك بالحرمين حاجة فأخرج منها علي بن محمد فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه وتبعه خلق كثير.)، فدعا يحيى بن هرثمة وقال: اذهب إلى المدينة، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.

قال يحيى: فذهبت إلى المدينة، فلمّا دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، خوفاً على علي الهادي، وقامات الدنيا على ساق، لأنه كان مُحسناً إليهم، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا.

قال يحيى : فجعلت أُسكّنهم وأحلف لهم انّي لم أُؤمر فيه بمكروه، وإنّه لا بأس عليه، ثمّ فتّشت منزله فلم اجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته، فلمّا قدمت به بغداد، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله، والمتوكّل من تعلَم، فإن حرّضته عليه قتله، كان رسول الله خصمك يوم القيامة. فقلت له: والله ما وقعت منه إلا على كلّ أمر جميل.

ثمّ صرت به إلى «سرّ من رأى» فبدأت ب «وصيف» التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك، فلمّا دخلت على المتوكّل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته، وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلاّ المصاحف وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكّل وأحسن جائزته وأجزل برّه، وأنزله معه سامراء(سبط بن الجوزي، تذكرة الخواص 322).

ومع أنّ الإمام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكل، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب، إلاّ أنّه وشي به إلى المتوكّل بأنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم بالوثوب بالدولة، فبعث اليه جماعة من الأتراك، فهاجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى، وهو متوجّه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن، فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشراب فأُدخل عليه والكأس في يده، فلمّا رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال الإمام (ع) : «والله ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني» فأعفاه، فقال له: انشدني شعراً، فقال علي: «أنا قليل الرواية للشعر» فقال: لابد، فأنشده وهو جالس عنده:

«باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأُسكنوا حُفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الأسرّة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعّمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

فبكى المتوكّل حتى بلّت لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون، ورفع إلى علي أربعة آلاف دينار ثمّ ردّه إلى منزله مكرّماً(المسعودي: مروج الذهب 4 /11 ).

آثاره العلمية:

روى الحفّاظ والرواة عن الإمام أحاديث كثيرة في شتى المجالات من العقيدة والشريعة، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم، وبثّها الحرّ العاملي في كتابه الموسوم ب «وسائل الشيعة» على أبواب مختلفة، ومّما نلفت إليه النظر أنّ للإمام (ع) بعض الرسائل، وهي:

1 - رسالته في الرد على الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين، أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني في كتابه الموسوم ب «تحف العقول»( تحف العقول 238 - 352).

2 - أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله، وهذه أيضاً أوردها الحرّاني أيضاً في تحف العقول.

3 - قطعة من احكام الدين، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب.

ولاجل إيقاف القارئ على نمط خاص من تفسير الإمام نأتي بنموذج من هذا التفسير:
قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الايمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: «يضرب حتى يموت» فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب: « بسم الله الرحمن الرحيم {فَلَمَّا رَأوا بأسَنا قَالوا آمَنَّا بِاللهِ وَحدَهُ وَكَفَرنا بِما كُنّا بِهِ مُشركينَ * فَلَم يَكُ يَنفَعُهَم إيمانُهُم لَمَّا رَأوا بأسنا سُنّة اللهِ الَّتي قَد خَلَت في عبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرونَ}»( غافر / 84 - 85.)، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات(ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب 4 / 403 - 405).

وفاته:

توفّي أبو الحسن (ع) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّ من رأى، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده، والحسين، ومحمّداً، وجعفر، وابنته عائشة، وكان مقامه بسرّ من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة(الإرشاد 327).

وقد ذكر المسعودي في اثبات الوصيّة «تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري» فمن أراد فليراجع (إثبات الوصية).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخليفــة الحـادي عــشــر


الإمام الحسن بن علي العسكري "ع"


مقدمة

أبو محمّد، الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد، أحد أئمّة أهل البيت، والإمام الحادي عشر، الملقّب بالعسكري، ولد عام 232 هجري(الكليني: الكافي 1 / 503)، وقال الخطيب في تاريخه(الخطيب: تاريخ بغداد 7 / 366) وابن الجوزي في تذكرته(ابن الجوزي: تذكرة الخواص 322):

أنّه ولد عام 231 هجري، وأُشخص بشخوص والده إلى العراق سنة 236 هجري، وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور، وقام بأمر الإمامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل، وبرز تقدّمه على كافة أهل العصر، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة(المفيد: الارشاد 335)، وقد روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين يربو عددهم على 150 شخصاً(العطاردي: مسند الإمام العسكري وقد جمع فيه كلّ ما روي عنه وأُسند إليه). وتوفّي عام 260 هجري، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء.

وخلّف ابنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت، وشدّة طلب السلطة، واجتهادها في البحث عن امره، ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.

وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر، ويراد بها سرّ من رأى التي بناها المعتصم، وانتقل إليها بعسكره، حيث أشخص المتوكل أباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنُسب هو وولده إليها(ابن خلّكان: وفيات الأعيان 2 / 94).

وقال سبط ابن الجوزي: كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز.

ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزيّ في كتابه المسمّى ب «تحريم الخمر»، ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى آبائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول: «اشهد بالله لقد سمعت محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أشهد بالله لقد سمعت جبرائيل يقول: أشهد بالله لقد سمعت ميكائيل يقول: أشهد بالله لقد سمعت إسرافيل يقول: أشهد بالله على اللوح المحفوظ أنّه قال: سمعت الله يقول: شارب الخمر كعابد الوثن»(تذكرة الخواص 324).

ولقد وقع سبط ابن الجوزي في الاشتباه عندما توهّم أنّ اسناد الإمام - عليه السلام - هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مختص بهذا المورد، ولكن الحقيقة غير ذلك، فإنّ أحاديث أئمّة أهل البيت مروية كلّها عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلاّ ما وصل اليهم عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق آبائهم وأجدادهم، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين، فقد قاسهم بالآخرين مّمن يعتمدون على آرائهم الشخصية، وهو في قياسه خاطئ، فهم منذ نعومة أظفارهم ، إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء، ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم، فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وراثة غيبية لا يعلم كنهها إلاّ الله سبحانه والراسخون في العلم.

وهذا الإمام جعفر الصادق - عليه السلام - يبيّن هذا الأمر بوضوح لا لبس فيه، حيث يقول: «إنّ حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ»(الارشاد 274).

وروى حفص بن البختري، قال: قلت لابي عبد الله الصادق - عليه السلام -: أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك، فقال: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »( وسائل الشيعة ج 18، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي، الحديث 86).

فأئمّة المسلمين على حد قول القائل:
ووال أُناساً نقلهم وحديثهم *** روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ولقد عاتب الإمام الباقر - عليه السلام - سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت، فقال لهما: «شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت».

ورغم أنّ الخلفاء العباسيين قد وضعوا الإمام تحت الاقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيس، ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحاديث جمّة في شتى المجالات، بل يروى أنّ الإمام - عليه السلام - ورغم كلّ ذلك كان على اتّصال مستمر بالشيعة الذين كان عددهم يقدر بعشرات الملايين، وحيث كان لا مرجع لهم سوى الإمام (ع)

كما أنّ الكلام عن أخلاقه وأطواره، ومناقبه وفضائله، وكرمه وسخائه، وهيبته وعظمته، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة، وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماؤنا الأبرار، بيد أنّا نشير هنا إلى لمحة من علومه.

1 - لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً وشمالاً، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولا، ولكن الإمام - عليه السلام - عالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع، فقال: «كذبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا سحر مبين تقوّله.
فقال الله: {الم ذلِكَ الكتابُ} أي: يا محمّد، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطّعة التي منها «ألف» ، «لام»، «ميم» وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن أنّه لا يقدرون عليه بقوله: { قُل لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ وَالجِنِّ عَلى أن يأتُوا بِمِثلِ هذا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثلِهِ ولَو كَانَ بَعضُهُم لِبعضٍ ظَهِيرا}(الإسراء / 88.)»(الصدوق: معاني الأخبار 24، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب).

وقد روي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي - عليه السلام -( الكليني: الكافي ج 1 كتاب العقل والجهل، الحديث 20 / 24 - 25).

2 - كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون: إنّكم تقولون في صلواتكم: {اهدِنا الصِّراط المُستقيم} أو لستم فيه؟ فما معنى هذه الدعوة؟ أو انّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال: «أدِم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا».
ثمّ فسّر الصراط بقوله:
«الصراط المستقيم هو: صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة»(الصدوق: معاني الأخبار 33).

وكان قد استفحل أمر الغلاة في عصر الإمام العسكري ونسبوا إلى الأئمة الهداة أُموراً هم عنها براء، ولاجل ذلك يركّز الإمام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير.

3 - ربّما يغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه: {صِراطَ الَّذِينَ أنعَمتَ عَلَيهِم} ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن، وإن كان كلّ هذا نعمة من الله، ولكنّ المراد من الآية بقرينة قوله: {غَيرِ المغَضُوبِ عَلَيهِم ولا الضَّالِّين} هو نعمة التوفيق والهداية.

ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يفسّر هذا الإنعام بقوله: «قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت علهيم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال الله عزّ وجلّ: {وَمَن يُطِعِ اللهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ وَالصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً} ثمّ قال: ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من الله ظاهرة»( المصدر نفسه: 36).

4 - لقد تفشّت آنذاك فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء قبل أن تخلق، تأثراً بتصورات بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان، فسأله محمّد بن صالح عن قول الله: {يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ ويُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ}( الرعد / 39) فقال: «هل يمحو إلاّ ما كان وهل يثبت إلاّ ما لم يكن»؟ فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي: إنّه لا يعلم الشيء حتى يكون، فنظر إليَّ شزراً، وقال:

«تعالى الله الجبّار العالم بالشيء قبل كونه، الخالق إذ لا مخلوق، والربّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه»( المسعودي: اثبات الوصية 241).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


الخليفة الثانـي عشــر الحجة المنتظـر


الإمام المهدي عجل الله فرجه الشـريف



مقدمة

هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة، الخلف الصالح، ولد (ع) بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين، آتاه الله الحكم صبيّا كما حدث ليحيى، حيث قال سبحانه: {يا يَحيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيناهُ الحُكمَ صَبيّا}( مريم / 12)، وجعله إماماً وهو طفل، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه عن لسانه وهو يخاطب قومه: {إنّي عَبدُ اللهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبيّا}( مريم / 30).

اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم، والجور، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون، فهو بإذن الله ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير الله، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية، ويمحو أسباب العداء والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الأُمّة وافتراق الكلمة، ويحقّق الله سبحانه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله:

1 - {وعَدَ اللهُ الَّذينَ آمنُوا مِنكُم وَعمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأرضِ كما استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَليُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَّنُهم مِن بَعدِ خَوفِهم أمناً يَعبُدُونَنِي لا يُشركُونَ بي شَيئاً وَمَن كَفَرَ بَعَد ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ}( النور / 55).

2 - { وَنُرِيدُ ن نَمُنَّ عَلىَ الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي الأرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارثِينَ}( القصص / 5).

3 - {وَلَقَد كَتَبنا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أنَّ الأرضَ يَرِثُها عِباديَ الصّالِحُونَ}( الأنبياء / 105).

وتشهد الأمّة بعد ظهوره (ع) عصراً ذهبياً لا يبقى فيه على الأرض بيت إلاّ ودخلته كلمة الإسلام، ولا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها بشهادة «لا إله ألاّ الله» بكرة وعشيا.

أقول: لقد تواترت النصوص الصحيحة والأخبار المروية من طريق أهل السنّة والشيعة المؤكّدة على إمامة أهل البيت - عليهم السلام -، والمشيرة صراحة إلى أنّ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل، وأنّ آخر هؤلاء الأئمة هو الذي يملأ الأرض - في عهده - عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وأنّ أحاديث الإمام الثاني عشر الموسوم بالمهدي المنتظر قد رواها جملة من محدثي السنَّة في صحاحهم المختلفة كأمثال الترمذي (المتوفّى عام 297 هجري)، وأبي داود (المتوفى عام 275 هجري)، وابن ماجة (المتوفّى عام 275 هجري) وغيرهم، حيث أسندوا رواياتهم هذه إلى جملة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته، أمثال علي بن أبي طالب (ع)، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأمّ سلمة زوجة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وغيرهم:

1 - روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً»( مسند أحمد 1 / 99، 3 / 17 - 70).

2 - أخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»( جامع الأصول 11 / 48 برقم 7810).

3 - أخرج أبو داود عن أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: « المهدي من عترتي من ولد فاطمة»( جامع الأصول 11 / 48 برقم 7812)
4 - أخرج الترمذي عن ابن مسعود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»( المصدر نفسه برقم 7810).

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه. يقول الدكتور عبد الباقي: إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين، إنّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريباً، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح(الدكتور عبد الباقي: بين يدي الساعة 123).

هذا هو المهدي الذي اتّفق المحدّثون والمتكلّمون عليه، وإنّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الإمام الثاني عشر الذي ولد بسامراء عام 255 هجري واختفى بعد وفاة أبيه عام 260 هجري، وقد تضافرت عليه النصوص من آبائه، على وجه ما ترك شكّاً ولا شبهة (اقرأ هذه النصوص في كتاب «كمال الدين» للشيخ الصدوق 306 - 381 هجري ترى فيه النصوص المتضافرة على أنّ المهدي الموعود هو ولد الإمام أبي محمّد الحسن العسكري وأنّ له غَيبة) ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنّة، وقالوا بأنّه ولد وأنّه محمّد بن الحسن العسكري.

نعم كثير منهم قالوا: بأنّه سيولد في آخر الزمان، وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، فمن رجع إلى روايات أئمّة أهل البيت في كتبهم يظهر له الحق، وأنّ المولود للإمام العسكري هو المهدي الموعود.
ومّمن وافق من علماء أهل السنّة بأنّ وليد بيت الحسن العسكري هو المهدي الموعود:

1 - كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي الشافعي في كتابه «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول». وقد أثنى عليه من ترجم له مثل اليافعي في «مرآة الجنان» في حوادث سنة 650 هجري.

قال - بعد سرد اسمه ونسبه -: « المهدي الحجّة، الخلف الصالح المنتظر، فأمّا مولده فبسر من رأى ، وأمّا نسبه أباً فأبوه الحسن الخالص» ثمّ أورد عدّة أخبار واردة في المهدي من طريق أبي داود، والترمذي ومسلم، والبخاري وغيرهم ، ثمّ ذكر بعض الاعتراضات بالنسبة إلى أحواله (ع) من حيث الغيبة وطول العمر وغير ذلك، وأجاب عنها جميعاً، ثمّ قال رادّاً على تأويل البعض لهذِه الروايات بأنّها لا تدلّ على أنّه محمّد بن الحسن العسكري قائلاً: بأنّ الرسول لما وصفه وذكر اسمه ونسبه وجدنا تلك الصفات والعلامات موجودة في محمّد بن الحسن العسكري علمنا إنّه هو المهدي.

2 - أبو عبد الله محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابيه :« البيان في أخبار صاحب الزمان» و«كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب».
3 - نور الدين علي بن محمّد الصباغ المالكي في كتابه: «الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة».

4 - الفقيه الواعظ شمس الدين المعروف بسبط ابن الجوزي في «تذكرة الخواص».
إلى غير ذلك من علماء وحفاظ ذكر أسماءهم وكلماتهم السيد الأمين في أعيان الشيعة وأنهاها إلى ثلاثة عشر، ثمّ قال: والقائلون بوجود المهدي من علماء أهل السنّة كثيرون، وفيما ذكرناه منهم كفاية، ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى كتابنا «البرهان على وجود صاحب الزمان» ورسالة « كشف الأستار» للشيخ حسين النوري(أعيان الشيعة 2 / 64 - 75).

وقد كان الاعتقاد بظهور المهدي في عصر الأئمّة الهداة أمراً مسلّماً، حتى أنّ دعبل الخزاعي ذكره في قصيدته التي أنشدها لعلي بن موسى الرضا (ع) فقال:

خروج إمام لا محالة قائم *** يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل *** ويجزي على النعماء والنقمات

ولمّا وصل دعبل إلى هذين البيتين بكى الرضا (ع) بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه، فقال له: « يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم»؟ فقلت: لا يا مولاي، إلاّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد، ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً.

فقال: «يا دعبل، الإمام بعدي محمّد ابني (الجواد) وبعد محمّد ابنه علي (الهادي)، وبعد علي ابنه الحسن (العسكري)، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم، المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً، وأمّا متى؟ فإخبار عن الوقت، فقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي (ع): إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلاّ هو، ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلاّ بغتة(الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة 2 / 372).

ثمّ إنّ للمهدي - عجّل الله تعالى فرجه - غيبتين صغرى وكبرى، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت، أمّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء وعدم نصب غيرهم، وقد مات السفير الأخير علي بن محمّد السمري عام 329 هجري، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في أُمور شتّى.
وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الأُولى إلى أن يقوم بإذن الله تعالى.

وأمّا من رأى الحجّة في زمان أبيه وفي الغيبة الصغرى وحتى في الكبرى، فحدّث عنه ولا حرج، وقد أُلّفت في ذلك كتب أحسنها وأجملها: «كمال الدين» للصدوق، و«الغيبة» للشيخ الطوسي.

فنذكر هنا بعض من رآه في صباه:

في من رأى المهدي في بيت الإمام العسكري:

إنّ هناك لفيفاً من أصحاب الإمام العسكري رأوا الإمام المهدي في أيام صباه، ووالده بعد حي. وها نحن نذكر من الكثير شيئاً قليلاً حتى لا يرتاب المنصف في ولادته:

1 - روى يعقوب بن منقوش قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي - عليهما السلام - وهو جالس على دكّان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: من صاحب هذا الأمر؟ فقال: ارفع الستر. فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي له عشرة أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن الكفّين، معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ ابي محمد ثمّ قال لي: هذا صاحبكم(الصدوق: كمال الدين 2: 407 الباب 38 الحديث 2 ).

2- روى إبراهيم بن محمد بن فارس النيسابوري قال: لما همّ الوالي عمر بن عوف بقتلي غلب عليَّ خوف عظيم، فودعت أهلي وتوجهت إلى دار أبي محمّد لأودّعه، وكنت أردت الهرب، فلمّا دخلت عليه رأيت غلاماً جالساً في جنبه وكان وجهه مضيئاً كالقمر ليلة البدر، فتحيرت من نوره وضيائه وكاد ينسيني ما كنت فيه، فقال: يا إبراهيم لا تهرب فإنّ الله سيكفيك شره، فازداد تحيّري، فقلت لأبي محمّد: يا سيدي يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا وقد أخبرني بما كان في ضميري؟ فقال: هو ابني وخليفتي من بعدي(الحر العاملي: اثبات الهداة 3: 700، الباب 33، الحديث 136).

3 - روى أحمد بن إسحاق قال: قلت لابي محمد الحسن العسكري: يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (ع) مسرعاً فدخل البيت ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله عزّ وجلّ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيّه، الذي يملاً الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(الصدوق: كمال الدين 2: 384 الباب 38 الحديث1).

4 - روى أبو الحسين الحسن بن وجناء قال: حدثني أبي عن جده أنّه كان في دار الحسن بن علي -عليهما السلام - فكبستنا الخيل وفيها جعفر بن علي الكذّاب واشتغلوا بالنهب والغارة وكانت همّتي في مولاي القائم (ع)، قال: فإذا أنا به (ع) قد أقبل وخرج عليهم من الباب وأنا أنظر إليه وهو (ع) ابن ست سنين فلم يره أحد حتى غاب( المصدر نفسه: 2: 473 الباب 43 الحديث 25).

5 - روى عبد الله بن جعفر الحميري قال: سألت أبا عمر عثمان بن سعيد العمري (احد وكلاء الإمام أيام غيبته) فقلت له: هل أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد (ع)؟ فقال: أي والله، ورقبته مثل ذا - أومأ بيده - فقلت له: فبقيت واحدة؟ فقال لي: هات قلت: الاسم؟ قال: محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك...( الكليني 1: 329 الحديث 1).

6 - روت حكيمة بنت الإمام محمد الجواد قالت: بعث إليَّ أبو محمّد الحسن بن علي - عليهما السلام - فقال: يا عمة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجّته في أرضه. ثمّ إنّ حكيمة عمة الإمام العسكري تتحدث عن ولادة الإمام المهدي وتقول: فضممته إليِّ فإذا أنا به نظيف متنظف، فصاح بي ابو محمد (ع) : هلمّ إليّ ابني يا عمة، فجئت إليه...( الصدوق: كمال الدين 2: 424 الباب 42 الحديث 1).

7 - روى كامل بن إبراهيم فقال: دخلت على سيدي أبي محمد (ع) إذ نظرت إليه على ثياب بيض ناعمة فقلت في نفسي: وليّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب، ويأمرنا بمواساة اخواننا وينهانا عن لبس مثله، فقال الإمام: يا كامل وحسر عن ذراعيه، فإذا مسح أسود خشن، فقال: هذا لله وهذا لكم، فجاءت الريح، فكشف طرفه، فإذا أنا بفتى كأنّه فلقة قمر من أبناء أربع سنين او مثلها، فقال لي: يا كامل بن إبراهيم. فاقشعررت من ذلك، وأُلهمت أن قلت: لبيك يا سيدي. فقال: جئت إلى وليّ الله وحجّته تريد أن تسأل: لا يدخل الجنة إلاّ من عرف معرفتك، وعرف مقالتك... إلى أن قال: فنظر إليَّ أبو محمّد وتبسّم وقال: يا كامل بن ابراهيم، ما جلوسك وقد أبانك المهدي والحجّة من بعدي بما كان في نفسك وجئت تسألني عنه. قال: فنهضت وقد أخذت الجواب الذي أسررته في نفسي من الإمام المهدي ولم ألقه بعد ذلك(الشيخ الطوسي: الغيبة: 148، كشف الغمة 3: 289 عن الخرائج، وغيرهما من المصادر ).

هذه نماذج في من رأى الإمام المهدي بعد ولادته، وقبل غيبته ذكرناها ولو أردنا الاستقصاء لطال بنا المقام في المقال.

أسئلة مهمّة حول المهدي - عجّل الله تعالى فرجه -:
إنّ القول بأنّ الإمام المهدي لا يزال حياً يرزق منذ ولادته عام 255 هجرية إلى الآن، وأنّه غائب سوف يظهر بأمر من الله سبحانه، أثار أسئلة حول حياته وإمامته، نذكر رؤوسها:

1 - كيف يكون إماماً وهو غائب، وما الفائدة المرتقبة منه في غيبته؟
2 - لماذا غاب؟
3 - كيف يمكن أن يعيش إنسان هذه المدة الطويلة؟
4 - ما هي أشراط وعلائم ظهوره؟

هذه أسئلة أُثيرت حول الإمام المهدي منذ أن غاب، وكلّما طالت غيبته اشتدّ التركيز عليها، وقد قام المحققون من علماء الإمامية بالإجابة عليها في مؤلّفات مستقلة لا مجال لنقل معشار ما جاء فيها، غير أنّ الإحالة لما كانت عن المحذور غير خالية، نبحث عنها على وجه الإجمال، ونحيل من أراد التبسّط الى المصادر المؤلّفة في هذا المجال.

السؤال الأول: كيف يكون إماماً وهو غائب؟ وما فائدته؟

إنّ القيادة والهداية والقيام بوظائف الإمامة، هو الغاية من تنصيب الإمام، أو اختياره، وهو يتوقف على كونه ظاهراً بين أبناء الأمّة، مشاهداً لهم، فكيف يكون إماماً قائداً، وهو غائب عنهم؟!
والجواب: على وجهين نقضاً وحلاً.

أمّا النقض: فإنّ التركيز على هذا السؤال يعرب عن عدم التعرّف على أولياء الله، وأنّهم بين ظاهرٍ قائم بالأمور ومُختَفٍ قائم بها من دون أن يعرفه الناس.
إنّ كتاب الله العزيز يعرّفنا على وجود نوعين من الأئمّة والأولياء والقادة للأمّة، وليّ غائب مستور، لا يعرفه حتى نبي زمانه، كما يخبر سبحانه عن مصاحب موسى (ع) بقوله: {فَوَجَدا عَبداً مِن عِبادِنا آتَيناهُ رَحمَةً مِن عِندِنا وَعَلَّمناهُ مِن لَدُنّا عِلماً * قالَ لَهُ موسى هَل أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمتَ رُشداً} الآيات( الكهف / 65 - 82). ووليّ ظاهر باسط اليد، تعرفه الأمّة وتقتدي به.

فالقرآن اذن يدلّ على أنّ الولي ربّما يكون غائباً، ولكنّه مع ذلك لا يعيش في غفلة عن أُمّته، بل يتصرّف في مصالحها ويرعى شؤونها، من دون أن يعرفه ابناء الأمّة.
فعلى ضوء الكتاب الكريم، يصحّ لنا أن نقول بأنّ الولي إمّا ولي حاضر مشاهد، أو غائب محجوب.

وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب في كلامه لكميل بن زياد النخعيّ، يقول كميل: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فأخرجني إلى الجبّان، فلمّا أصحر، تنفَّس الصعداء، وكان مما قاله « اللهّم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّةٍ، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حُجج الله وبيِّناته»( نهج البلاغة بتعليقات عبده، ج 4، ص 37 قصار الحكم، الرقم 147).

وليست غيبة الإمام المهدي، بدعاً في تاريخ الأولياء، فهذا موسى بن عمران، قد غاب عن قومه قرابة أربعين يوماً، وكان نبيّاً وليّاً، يقول سبحانه: {وواعَدنا موسى ثلاثينَ لَيلةً وأتممناها بِعَشرٍ فَتمَّ ميقاتُ ربِّهِ أربعينَ لَيلةً * وقالَ مُوسى لأخيهِ هارونَ اخلُفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيلَ المفسدين} ( الأعراف / 142).

وهذا يونس كان من أنبياء الله سبحانه، ومع ذلك فقد غاب في الظلمات كما يقول سبحانه: {وذا النُّون إِذ ذَهَبَ مُغاضِباً فظَنَّ أن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ فَنادى في الظُّلُماتِ أن لا إِله إلاّ أنت سُبحانكَ إِنّي كُنتُ من الظَّالمين * فاستجبنا له ونَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وكذلك نُنجي المُؤمنين}( الأنبياء / 87 - 88).

أولم يكن موسى ويونس نبيَّين من أنبياء الله سبحانه؟ وما فائدة نبي يغيب عن الأبصار، ويعيش بعيداً عن قومه؟

فالجواب في هذا المقام، هو الجواب في الإمام المهدي (ع)، وسيوافيك ما يفيدك من الانتفاع بوجود الإمام الغائب في زمان غيبته في جواب السؤال التالي.
وأمّا الحلّ: فمن وجوه:

الأول : إنّ عدم علمنا بفائدة وجوده في زمن غيبته، لا يدلّ على عدم كونه مفيداً في زمن غيبته، فالسائل جَعَلَ عدم العلم، طريقاً إلى العلم بالعدم!! وكم لهذا السؤال من نظائر في التشريع الإسلامي، فيقيم البسطاء عدم العلم بالفائدة، مقام العلم بعدمها، وهذا من أعظم الجهل في تحليل المسائل العلمية، ولا شك أنّ عقول البشر لا تصل إلى كثير من الأمور المهمّة في عالم التكوين والتشريع، بل لا تفهم مصلحة كثير من سننه،، وإن كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث، بعيداً عن اللغو.
وعلى ذلك فيجب علينا التسليم أمام التشريع اذا وصل الينا بصورة صحيحة كما عرفت من تواتر الروايات على غَيبته.

الثاني: إنّ الغَيبَة لا تلازم عدم التصرف في الأمور، وعدم الإستفادة من وجوده، فهذا مصاحب موسى كان ولياً، لجأ إليه أكبر أنبياء الله في عصره، فقد خرق السفينة التي يمتلكها المستضعفون ليصونها عن غصب الملك، ولم يَعلَم أصحاب السفينة بتصرّفه، وإلاّ لصدُّوه عن الخرق، جهلاً منهم بغاية عمله. كما أنّه بنى الجدار، ليصون كنز اليتيمين، فأي مانع حينئذ من أن يكون للإمام الغائب في كلّ يوم وليلة تصرّف من هذا النمط من التصرّفات. ويؤيد ذلك ما دلّت عليه الروايات من أنّه يحضر الموسم في أشهر الحج، ويحجّ ويصاحب الناس، ويحضر المجالس، كما دلّت على أنّه يغيث المضطرين، ويعود المرضى، وربّما يتكفّل - بنفسه الشريفة - قضاء حوائجهم، وإن كان الناس لا يعرفونه.

الثالث: المُسَلّم هو عدم إمكان وصول عموم الناس إليه في غَيبته، وأمّا عدم وصول الخواص اليه، فليس بأمر مسلّم، بل الذي دلّت عليه الروايات خلافه، فالصلحاء من الأمّة الذين يُستَدَرُّ بهم الغمام، لهم التشرّف بلقائه، والاستفادة من نور وجوده، وبالتالي تستفيد الأمّة بواسطتهم.

الرابع: لا يجب على الإمام أن يتولّى التصرّف في الأمور الظاهرية بنفسه، بل له تولية غيره على التصرف في الامور كما فعل الإمام المهدي - أرواحنا له الفداء - في غَيبته. ففي الغيبة الصغرى، كان له وكلاء أربعة، يقومون بحوائج الناس، وكانت الصلة بينه وبين الناس مستمرّة بهم. وفي الغيبة الكبرى نصب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالأحكام، للقضاء واجراء سياسات، وإقامة الحدود، وجعلهم حجة على الناس، فهم يقومون في عصر الغيبة بصيانة الشرع عن التحريف، وبيان الأحكام، ودفع الشبهات، وبكل ما يتوقّف عليه نظم أمور الناس(المراد من الغيبة الصغرى، غيبته - صلوات الله عليه - منذ وفاة والده عام 260 هجري الى عام 329 هجري، وقد كانت الصلة بينه وبين الناس مستمرة بواسطة وكلائه الأربعة: الشيخ ابي عمرو عثمان بن سعيد العمري، وولده الشيخ ابي جعفر محمّد بن عثمان، والشيخ ابي القاسم الحسين بن روح من بني نوبخت، والشيخ ابي الحسن علي بن محمد السَّمري.
والمراد من الغيبة الكبرى: غيبته من تلك السنة الى زماننا هذا، انقطعت فيها النيابة الخاصّة عن طريق أشخاص معينين، وحلّ محلّها النيابة العامّة بواسطة الفقهاء والعلماء العدول، كما جاء في توقيعه الشريف: «وأمّا الحوادث العامّة، فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم» (كمال الدين، الباب 45، ص 484)

وإلى هذه الأجوبة أشار الإمام المهدي (ع) في آخر توقيع له إلى بعض نوّابه، بقول: «وأمّا وجهُ الإنتفاع بي في غَيبتي، فكالإنتفاع بالشَّمسِ إذا غيّبَها عن الأبصار السحاب»( الصدوق: كمال الدين، الباب 45، ص 485 الحديث 4. وقد ذكر العلاّمة المجلسي في وجه تشبيهه بالشمس اذا سترها السحاب، وجوهاً، راجعها في بحار الأنوار ج 52 الباب 20 ص 93 - 94).

السؤال الثاني: لماذا غاب المهدي (ع) ؟

إنّ ظهور الإمام بين الناس، يترتّب عليه من الفائدة ما لا يترتب عليه في زمن الغيبة، فلماذا غاب عن الناس، حتى حرموا من الإستفادة من وجوده، وما هي المصلحة التي أخفته عن أعين الناس؟

الجواب: إنّ هذا السؤال يجاب عليه بالنقض والحل:

أمّا النقض: فبما ذكرناه في الإجابة عن السؤال الأوّل، فانّ قصور عقولنا عن إدراك أسباب غيبته، لا يجرّنا الى إنكار المتضافرات من الروايات، فالاعتراف بقصور أفهامنا أولى من ردّ الروايات المتواترة، بل هو المتعيّن.

وأمّا الحلّ: فإنّ أسباب غيبته، واضحة لمن أمعن فيما ورد حولها من الروايات، فإنّ الإمام المهدي (ع) هو آخر الأئمّة الاثني عشر الذين وعد بهم الرسول، وأناط عزّة الإسلام بهم، ومن المعلوم أنّ الحكومات الإسلامية لم تُقدَّرهُم، بل كانت لهم بالمرصاد، تلقيهم في السجون، وتريق دماءهم الطاهرة، بالسيف او السمّ، فلو كان ظاهراً، لاقدموا على قتله، إطفاءً لنوره، فلأجل ذلك اقتضت المصلحة ان يكون مستوراً عن أعين الناس، يراهم ويرونه ولكن لايعرفونه، إلى أن تقتضي مشيئة الله سبحانه ظهوره، بعد حصول استعدادٍ خاص في العالم لقبوله، والإنضواء تحت لواء طاعته، حتى يحقّق الله تعالى به ما وعد به الأمم جمعاء من توريث الأرض للمستضعفين.

وقد ورد في بعض الروايات إشارة الى هذه النكتة، روى زرارة قال: سمعت أبا جعفر (الباقر (ع)) يقول: إنّ للقائم غَيبة قبل أن يقوم، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف. قال زارة: يعني القتل.

وفي رواية أخرى: يخاف على نفسه الذبح(لاحظ كمال الدين، الباب 44 ص 281 الحديث 8 و9 و10).

وسيوافيك ما يفيدك عند الكلام عن علائم ظهوره.

السؤال الثالث: الإمام المهدي وطول عمره:

إنّ من الأسئلة المطروحة حول الإمام المهدي، طول عمره في فترة غَيبته، فإنّه ولد عام 255 هجري، فيكون عمره إلى الأعصار الحاضرة أكثر من ألف ومائة وخمسين عاماً، فهل يمكن في منطق العلم أن يعيش إنساناً هذا العمر الطويل؟
والجواب: من وجهين، نقضاً وحلاً.

أمّا النقض: فقد دلّ الذكر الحكيم على أنّ شيخ الأنبياء عاش قرابة ألف سنة، قال تعالى: {فَلَبِثَ فيهم أَلفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمسينَ عاماً}( العنكبوت / 14).
وقد تضمّنت التوراة أسماء جماعة كثيرة من المعمّرين، وذكرت أحوالهم في سِفر التكوين(التوراة، سفر التكوين، الإصحاح الخامس، الجملة 5، وذكر هناك أعمار آدم، وشيث ونوح، وغيرهم).

وقد قام المسلمون بتأليف كتب حول المعمّرين، ككتاب «المعمّرين» لأبي حاتم السجستاني، كما ذكر الصدوق أسماء عدُّة منهم في كتاب «كمال الدين»( كمال الدين، ص 555. )

والعلاّمة الكراجكي في رسالته الخاصّة، باسم {البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان»( الكراجكي: البرهان على طول عمر صاحب الزمان، ملحق ب «كنز الفوائد»، له أيضاً، الجزء الثاني. لاحظ في ذكر المعمرين ص 114 - 155، ط دار الأضواء، بيروت 1405 هجري.
)، والعلاّمة المجلسي في البحار(بحار الأنوار ج 51، الباب 14، ص 225 - 293)، وغيرهم.

وأمّا الحلّ: فأنّ السؤال عن إمكان طول العمر، يعرب عن عدم التعرّف على سعة قدرة الله سبحانه: {وما قدَروا اللهَ حَقَّ قَدرِهِ}( الأنعام / 91)، فإنّه إذا كانت حياته وغيبته وسائر شؤونه، برعاية الله سبحانه، فأي مشكلة في أن يمدّ الله سبحانه في عمره ما شاء، ويدفع عنه عوادي المرض ويرزقه عيش الهناء.

وبعبارة أُخرى: إنّ الحياة الطويلة إمّا ممكنة في حد ذاتها أو ممتنعة، والثاني لم يقل به احد، فتعيّن الأوّل، فلا مانع من أن يقوم سبحانه بمدّ عمر وليّه، لتحقيق غرض من أغراض التشريع.

أضف إلى ذلك ما ثبت في علم الحياة، من إمكان طول عمر الإنسان إذا كان مراعياً لقواعد حفظ الصحة، وأنّ موت الإنسان في فترة متدنية، ليس لقصور الإقتضاء، بل لعوارض تمنع عن استمرار الحياة، ولو أمكن تحصين الإنسان منها بالأدوية والمعالجات الخاصة لطال عمره ما شاء.

وهناك كلمات ضافية من مَهَرة علم الطب في إمكان إطالة العمر، وتمديد حياة البشر، نشرت في الكتب والمجلات العلمية المختلفة(لاحظ مجلة المقتطف، الجزء الثالث من السنة التاسعة والخمسين).

وبالجملة، اتّفقت كلمة الأطباء على أنّ رعاية أُصول حفظ الصحّة، توجب طول العمر، فكلّما كثرت العناية برعاية تلك الأصول، طال العمر، ولاجل ذلك نرى أنّ الوفيات في هذا الزمان، في بعض الممالك، أقلّ من السابق، والمعمّرين فيها أكثر من ذي قبل، وما هو إلاّ لرعاية أُصول الصحّة، ومن هنا أُسّست شركات تضمن حياة الإنسان إلى أمد معلوم تحت مقرّرات خاصة وحدود معيّنة، جارية على قوانين حفظ الصحّة، فلو فرض في حياة شخص إجتماع موجبات الصحّة من كلّ وجه، طال عمره إلى ما شاء الله.

وإذا قرأت ما تُدَوِّنه أقلام الأطباء في هذا المجال، يتّضح لك معنى قوله سبحانه: {فَلَو لا أنّه كانَ مِنَ المُسَبِّحينَ * لَلَبِثَ في بَطنِهِ إِلى يَومِ يُبعَثونَ}( الصافات / 143 و144).

فإذا كان عيش الإنسان في بطون الحيتان، في أعماق المحيطات، ممكناً إلى يوم البعث، فكيف لا يعيش إنسان، على اليابسة، في أجواء طبيعية، تحت رعاية الله وعنايته، إلى ما شاء الله؟

السؤال الرابع: علائم ظهوره (ع) ما هي؟

إذا كان للإمام الغائب، ظهور بعد غيبة طويلة، فلابدّ من أن يكون لظهوره علائم وأشراط تخبر عن ظهوره، فما هي هذه العلائم؟

الجواب:
إنّ ما جاء في كتب الأحاديث من الحوادث والفتن الواقعة في آخر الزمان على قسمين:

قسم هو من أشراط الساعة وعلامات دنو القيامة.
وقسم هو ما يقع قبل ظهور المهدي المنتظر.

وربّما وقع الخلط بينهما في الكتب، ونحن نذكر القسم الثاني منهما، وهو عبارة عن أُمور عدّة منها:
1 - النداء في السماء.
2 - الخسوف والكسوف في غير مواقعهما.
3 - الشقاق والنفاق في المجتمع.
4 - ذيوع الجور والظلم والهرج والمرح في الأمّة.
5 - ابتلاء الإنسان بالموت الأحمر والأبيض.
6 - قتل النفس الزكية.
7 - خروج الدجّال.
8 - خروج السفياني.

وغير ذلك مما جاء في الأحاديث الإسلامية( لاحظ للوقوف على هذه العلائم، بحار الأنوار ج 52، الباب 25، ص 181 - 308. كتاب المهدي، للسيد صدر الدين الصدر ( م 1373 هجري). ومنتخب الأثر، ص 424 - 462).

هذه هي علامات ظهوره، ولكن هناك أُموراً تمهّد لظهوره، وتسهّل تحقيق أهدافه نشير إلى أبرزها:

1 - الاستعداد العالمي: والمراد منه أنّ المجتمع الإنساني - وبسبب شيوع الفساد - يصل إلى حدّ، يقنط معه من تحقّق الإصلاح بيد البشر، وعن طريق المنظمات العالمية التي تحمل عناوين مختلفة، وأنّ ضغط الظلم والجور على الإنسان يحمله على أن يُذعن ويُقرّ بأنّ الإصلاح لا يتحّقق إلاّ بظهور إعجاز إلهي، وحضور قوّة غيبية، تدمّر كلّ تلك التكتلات البشرية الفاسدة، التي قَيَّدَت بأسلاكها أعناق البشر.

2 - تكامل العقول: إنّ الحكومة العالمية للإمام المهدي (ع) لا تتحقّق بالحروب والنيران والتدمير الشامل للأعداء، وإنّما تتحّقق برغبة الناس إليها، وتأييدهم لها، لتكامل عقولهم ومعرفتهم.

يقول الإمام الباقر (ع) في حديث له يرشد فيه إلى أنّه إذا كان ذلك الظرف، تجتمع عقول البشر وتكتمل أحلامهم: « إذا قام قائمنا، وَضَعَ الله يده على رؤوس العباد، فيجمع بها عقولهم، تكتمل به أحلامهم»( منتخب الأثر، ص 483. ).
فقوله (ع): فيجمع بها عقولهم، بمعنى أنّ التكامل الإجتماعي يبلغ بالبشر إلى الحدّ الذي يَقبَلُ فيه تلك الموهبة الإلهية، ولن يترصّد للثورة على الإمام والإنقلاب عليه، وقتله أو سجنه.

3 - تكامل الصناعات: إنّ الحكومة العالمية الموحّدة لا تتحقق إلاّ بتكامل الصناعات البشرية، بحيث يسمع العالم كلّه صوته ونداءه، وتعاليمه وقوانينه في يومٍ واحدٍ، وزمنٍ واحدٍ.

قال الإمام الصادق (ع): «إنّ المؤمنَ في زمان القائم، وهو بالمشرق يرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق»( منتخب الأثر، ص 483).

4 - الجيش الثوري العالمي: إنّ حكومة الإمام المهدي (ع) وإن كانت قائمة على تكامل العقول، ولكن الحكومة لا تستغني عن جيش فدائي ثائر وفعّال، يُمَهِّد الطريق للإمام (ع)، ويواكبه بعد الظهور إلى تحقّق أهدافه وغاياته المتوخّاة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين

فهرس مصادر الكتاب

نبدأ تبركاً بالقرآن الكريم.
- حرف الألف -
1 - الاتحاف بحب الأشراف: الشبراوي: عبد الله بن محمد، المطبعة الأدبية، مصر.
2 - اثبات الهداة: الحر العاملي: محمد بن الحسن (م 1104 هجري) المطبعة العلمية، قم المقدسة.
3 - اثبات الوصية: المسعودي: علي بن الحسين بن علي (م 345 هجري) قم المقدسة - 1404 هجري.
4 - الاحتجاج: أبو منصور: أحمد بن علي الطبرسي ( من أعلام القرن السادس الهجري) مؤسسة الأعلمي، بيروت - 1403 هجري.
5 - الارشاد: المفيد: محمد بن محمد بن النعمان (م 413 هجري) قم المقدسة - 1402 هجري.
6 - الاصابة: ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي (م 852 هجري) دار احيار التراث العربي، بيروت.
7 - اعلام الورى: الطبرسي: الفضل بن الحسن ( 471 - 548 هجري) طبع إيران.
8 - أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين العاملي (م 1371 هجري) دار التعارف، بيروت.
9 - الأغاني: أبو الفرج الاصفهاني: علي بن الحسين(356 هجري) دار احياء التراث العربي،، بيروت.
10 - الإلهيات: محمد مكي العاملي من محاضرات الشيخ جعفر السبحاني، الدار الإسلامية، بيروت - 1410 هجري.
11 - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية: جورج جرداق، دار الروائع، بيروت.
12 - الإمامة والسياسة: ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري ( م 276 هجري) مطبعة مصطفى محمد، مصر.
- حرف الباء -
13 - بحار الأنوار: العلاّمة محمد باقر المجلسي (م 1110 هجري) مؤسسة الوفاء، بيروت - 1403 هجري.
14 - البداية والنهاية: ابن كثير: الحافظ أبو الفداء (م 774 هجري) دار الفكر، بيروت - 1402 هجري.
15 - البرهان على طول عمر الإمام صاحب الزمان: أبو الفتح: محمد بن عثمان الكراجكي (م 449 هجري).
16 - بين يدي الساعة: الدكتور عبد الباقي المعاصر.
- حرف التاء -
17 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي: أحمد بن علي ( م 463 هجري) المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
18 - تاريخ الخلفاء: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ( 849 - 911 هجري) مطبعة المدني، القاهرة - 1383 هجري.
19 - تاريخ الطبري المسمّى (تاريخ الأمم والملوك): محمد بن جرير (م 310 هجري) مؤسسة الأعلمي، بيروت.
20 - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر: علي بن الحسين بن هبة الله (00 5- 573 هجري) دار التعارف، بيروت - 1395.
21 - تحف العقول: الحرّاني: الحسن بن علي (من أعلام القرن الرابع الهجري) مؤسسة الأعلمي، بيروت - 1394 هجري.
22 - تذكرة الخواص: سبط ابن الجوري (581 - 654 هجري) مؤسسة أهل البيت، بيروت - 1401 هجري.
23 - ترجمة الآثار الباقية: أبو ريحان البيروني.
24 - تفسير مفاتيح الغيب: محمد بن عمر الخطيب الرازي ( 544 - 606 هجري) دار احياء التراث العربي، بيروت.
25 - التوحيد: الصدوق: محمد بن بابويه القمي ( 306 - 381 هجري) مكتبة الصدوق، طهران.
- حرف الثاء -
26 - ثمار القلوب: الثعالبي.
- حرف الجيم -
27 - جامع الأصول: ابن الاثير الجزري: المبارك بن محمد (544 - 606 هجري) دار الفكر، بيروت - 1403 هجري.
28 - جنّة المأوى: محمد حسين كاشف الغطاء (م 1373 هجري) مكتبة الحقيقة، تبريز - 1380 هجري.
- حرف الحاء -
29 - حلية الأولياء: أبو نعيم: احمد بن عبد الله الاصبهاني (م 430 هجري) دار الكتاب العربي، بيروت - 1387 هجري.
- حرف الخاء -
30 - الخصال: الشيخ الصدوق: محمد بن بابويه (م 381 هجري) منشورات دار النشر الإسلامي، قم المقدسة - 1403 هجري.
- حرف الراء -
31 - ربيع الأبرار: الزمخشري: محمود بن عمر (467 - 538 هجري) منشورات الشريف الرضي، قم المقدسة - 1410 هجري.
32 - الرجال: النجاشي: أحمد بن علي ( 372 - 450 هجري) بيروت - 1409 هجري.
- حرف الزاي -
33 - زهر الآداب: الحصري.
- حرف السين -
34 - سفينة البحار: الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 هجري) طبعة حجر، النجف الأشرف.
35 - السيرة النبوية: ابن هشام: عبد الملك بن أيوب الحميري (م 213 أو 218 هجري) دار التراث العربي، بيروت.
- حرف الشين -
36 - شذرات الذهب: ابن عماد الحنبلي ( 1032 - 1089 هجري) دار الفكر، بيروت - 1399 هجري.
37 - شرح الشفاء: القاضي عياض.
38 - شرح عينية عبد الباقي أفندي العمري.
39 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (م 655 هجري) دار احياء الكتب العربية، القاهرة - 1378 هجري.
40 - شواهد التنزيل: الحاكم الحسكاني: عبيد الله بن عبد الله، بيروت - 1974 م.
41 - الشيعة والتشيّع: محمد جواد مغنية، مكتبة المدرسة ودار الكتاب العربي، بيروت.
- حرف الصاد -
42 - الصحيفة السجادية الجامعة: الإمام زين العابدين علي بن الحسين - عليهما السلام - تحقيق مؤسسة الإمام المهدي - عجل الله تعالى فرجه الشريف - قم المقدسة - 1411 هجري.
43 - الصواعق المحرقة: أحمد بن حجر الهيتمي (م 974 هجري) مكتبة القاهرة، مصر - 1385 هجري.
- حرف العين -
44 - العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي ( 246 - 328 هجري) دار الكتب العلمية، بيروت - 1404 هجري.
- حرف الغين -
45 - الغدير: العلاّمة عبد الحسين أحمد الأميني(1320 - 1390 هجري) دار الكتاب العربي، بيروت - 1387 هجري.
46 - الغيبة: الطوسي: محمد بن الحسن (م 460 هجري) تحقيق مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة - 1411 هجري.
- حرف الفاء -
47 - الفصول المهمة: ابن الصباغ المالكي (م 855 هجري) المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف - 1381 هجري.
48 - في رحاب أئمّة أهل البيت: السيد محسن الأمين العاملي (م 1371 هجري) دار التعارف، بيروت - 1400 هجري.
- حرف الكاف -
49 - الكافي: محمد بن يعقوب الكليني (م 329 هجري) دار الكتب الإسلامية، طهران - 1397 هجري.
50 - الكامل في التاريخ: ابن الأثير الجزري: محمد بن محمد (م 630 هجري) دار الكتاب العربي، بيروت.
51 - كشف الغمة: الأربلي: علي بن عيسى (م 693 هجري) دار الأضواء، بيروت - 1405 هجري.
52 - كمال الدين: الصدوق: محمد بن بابويه (م 381 هجري) طهران - 1405 هجري.
- حرف اللام -
53 - لسان العرب: العلاّمة ابن منظور: محمد بن مكرم (م 711 هجري) قم المقدسة - 1405 هجري.
54 - اللهوف: السيد ابن طاووس، طبع بغداد.
- حرف الميم -
55 - مجمع البيان: الفضل بن الحسن الطبرسي (471 - 548 هجري) دار المعرفة، بيروت - 1408 هجري.
56 - مروج الذهب: علي بن الحسين المسعودي (م 345 هجري) منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت - 1965 م.
57 - المسند: أحمد بن حنبل (م 241 هجري) دار الفكر، بيروت.
58 - مسند الإمام العسكري: العطاردي.
59 - معاني الأخبار: الصدوق: محمد بن بابويه القمي (م 381 هجري) دار المعرفة، بيروت - 1399 هجري.
60 - معاهد التنصيص: العباسي البغدادي.
61 - مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الاصفهاني ( 284 - 356 هجري) مؤسسة دار الكتاب، قم المقدسة.
62 - مقتل الحسين: الخوارزمي: أبو المؤيد الموفق بن احمد المكي (م 568 هجري) مطبعة الزهراء، النجف الأشرف - 1367 هجري.
63 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب: محمد بن علي السروي المازندراني (488 - 588 هجري) المطبعة العلمية، قم المقدسة.
64 - مناقب أحمد: ابن الجوزي الحنبلي.
65 - منتخب الأثر: لطف الله الصافي الكلبايكاني، مركز نشر كتاب، طهران - 1373 هجري.
66 - المهدي: السيد صدر الدين الصدر (م 1373 هجري) مؤسسة البعثة، طهران - 1403 هجري.
67 - ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي (م 748 هجري) دار المعرفة، بيروت.
- حرف النون -
68 - نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي ( 359 - 406 هجري) بيروت - 1387 هجري.
- حرف الواو -
69 - وسائل الشيعة: الحر العاملي: محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 هجري) دار احياء التراث العربي، بيروت - 1403 هجري.
70 - وفيات الأعيان: ابن خلّكان: احمد بن محمد (608 - 681 هجري) منشورات الشريف الرضي، قم المقدسة - 1364 هجري.


نسألكم الدعاء