المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحلة تاريخية إلى واضع علم النحو


:: بحر ::
24-03-2010, 10:14 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية واختلط العرب بالعجم، أخذت السليقة العربية تفسد تدريجياً وشاع اللحن فيها. وهنا ظهرت الحاجة إلى وضع قواعد تعصم اللسان من الخطأ. فمن هو أول واضع لقواعد النحو العربي؟

هناك رواية تاريخية إلى أن أول من اهتم بوضع النحو هو الإمام علي بن أبي طالب. وقد شاعت هذه الرواية وانتشرت بين الناس حتى أصبحت في نظر الكثيرين من الحقائق التاريخية التي لايجوز الشك فيها. ويبدو أن لشيوع هذه الرواية بين الناس سببين: فهي من جهة تؤدي إلى إعلاء مكانة النحو بين العلوم، وهي من الجهة الأخرى تؤدي إلى إعلاء مكانة الإمام علي بين الأئمة.

وهذه ظاهرة نلاحظها في غير النحو من العلوم والشؤون الدينية والدنيوية. فقد نسب الرواة إلى علي بن أبي طالب وضع علم الكلام والفقه والتصوف والفتوة والرياضة. ولم يترددوا أن ينسبوا إليه كذلك علم الفلك والطب وطبقات الأرض. وسمعت ذات يوم أحد الخطباء يقول: ” عجباً من غباوة أهل الكوفة، حيث كانوا يسمعون علياً يناشدهم: سلوني قبل أن تفقدوني. ثم لايسألونه عن أسرار الذرة لكي يسبقوا الأمم باكتشافها.”

وفي نظري أن علي بن أبي طالب أجل من أن يحتاج إلى مثل هذه الأمور لإعلاء مكانته عند الناس. فلقد كان زعيم ثورة اجتماعية ودينية كبرى. ونحن نسيء إلى مكانة الرجل الرجل حين ننسب إليه أموراً لا صلة لها بالأهداف التي كان يسعى إليها وليست بذات جدوى في ثورته الكبرى.

يقول الأستاذ عبد الكريم الدجيلي: ” أن علي بن أبي طالب لم يأت البصرة مؤلفاً ومحاضراً وإنما جاء محارباً ومخاصماً. كما أن جحد وإنكار الروايات التي تقول بأن علياً هو واضع النحو لايضيره ولاينقص من قيمته…”

الواضع الحقيقي:
المظنون أن أبا الأسود الدؤلي هو الذي اشتغل بوضع النحو. وقد فعل ذلك بعد مقتل علي بن أبي طالب، أثناء ولاية زياد على البصرة. وكان زياد هو الذي كلفه بوضع النحو وأعانه عليه. ومن الممكن القول بأن أبا الأسود لم يحب أن تروج عنه إشاعة أمر زياد له بوضع النحو، فنسب الأمر إلى علي. وليس هذا بمستغرب من أبي الأسود أو أي إنسان آخر يريد أن يبرر عملاً كلفه به أحد الطغاة.

والمعروف عن أبي الأسود أنه كان في أول أمره من أصحاب علي والمتشيعين له. ولما قتل علي واستتب الأمر لمعاوية وفد أبو الأسود على معاوية فأكرمه معاوية وأعظم جائزته ثم ولاه قضاء البصرة. وخدم أبو الأسود في حكومة معاوية وزياد ردحاً طويلاً من الزمن. وفي الوقت الذي كان زياد فيه يطارد الشيعة ويقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم على جذوع النخل، كان أبو الأسود ذا حظوة لدى زياد، يعمل بأمره ويشرف على تربية أولاده.

لماذا وضع النحو:
يذكر المؤرخون روايات متعددة في السبب الذي دفع أبا الأسود إلى وضع النحو. وقد جمع الأستاذ عبد الكريم الدجيلي هذه الروايات في كتابه ” ديوان أبي الأسود الدؤلي” . وإلى القارئ تلخيصاً لهذه الروايات:

1- أن عمر بن الخطاب سمع قارئاً يقرأ القرآن ويلحن فيه لحناً يؤدي إلى الكفر. فامتعض عمر من ذلك وأمر أبا الأسود بوضع النحو.
2- أن امرأة دخلت على معاوية في زمن عثمان فلحنت في كلامها. فاستقبح معاوية ذلك. وبلغ الأمر علي بن أبي طالب فرسم لأبي الأسود بعض مبادئ النحو.

3- أن أبا الأسود دخل على علي بن أبي طالب فوجده مطرقاً مفكراً. فسأله أبو الأسود عن سبب تفكيره، فقال علي: “سمعت ببلدكم لحناً فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية…”

4- أن علياً قال لأبي الأسود: ” رأيت فساداً في كلام بعض أهلي فأحببت أن أرسم رسماء يعرف فيه الصواب من الخطأ. ” فأخذ أبو الأسود النحو من علي…

5- أن علياً قال لأبي الأسود: ” إني تأملت في كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم) فأردت أن أضع شيئاً يرجعون إليه…”

6- أن علياً سمع اعرابياً يقرأ القرآن ويلحن في بعض آياته، فدفعه ذلك إلى وضع النحو…

7- أن رجلاً فارسياً دخل الإسلام ثم لحن في كلامه فضحك عليه بعض من حضر. وكان أبو الأسود حاضراً فقال: ” هؤلاء الموالي رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا أخوة فلو علمناهم الكلام.”

8- إن أبا الأسود قال لابن عباس:” إني أرى السنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع شيئاً لهم يقومون به ألسنتهم.” فأيده ابن عباس.

9- أن أبا الأسود سمع ابنته تلحن في بعض كلامها فلم يفهم مقصدها بوضوح. ودعاه ذلك إلى وضع كتاب النحو.

10- أن أبا الأسود قال لزياد: ” أصلح الله الأمير، إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون أو يقومون به كلامهم. فرفض زياد. ثم رضى بعد ذلك حين سمع رجلاً يشكو إليه في قضية ميراث ويلحن في كلامه.

11- أن زياداً قال لأبي الأسود: ” إن بني يلحنون في القرآن فلو رسمت لهم رسماً…. ” فوضع أبو الأسود العربية.

12- أن زياداً بعث إلى أبي الأسود فقال له: ” يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت لهم شيئاً يقومون به كلامهم. فأبى أبود الأسود. ولكن زياداً أمر رجلاً أن يذهب فيقعد في طريق أبي الأسود ويتعمد قراءة القرآن ملحوناً. فلما سمع أبو الأسود ذلك استعظمه ورجع إلى زياد يقول له: ” ياهذا قد أجبتك إلى ماسألت.” ….

نقد هذه الروايات:
يخيل لي أن معظم الروايات، إن لم يكن كلها، قد نبعت من منبع واحد هو أبو الأسود الدؤلي. والظاهر أن الناس كانوا يسألون أبا الأسود عن سبب اشتغاله في وضع النحو، فكان يجيبهم بما يحلو له، أو يحلو لهم، ولعله كان ينظر إلى السائل فإذا وجده شيعياً قال له بأن علياً هو الذي أمره بوضع النحو، وإذا وجده غير شيعي نسب الأمر إلى عمر أو معاوية أو زياد أو ابن عباس، حسبما يقتضيه المقام. أما إذا وجد السائل خارجياً فقد يجيبه بأنه وضع النحو من تلقاء نفسه وذلك لكي يخلص القرآن من القراءة الملحونة. والله من وراء القصد على أي حال!

ومما يلفت النظر في هذه الروايات أن نجد فيها أبا الأسود يندفع في وضع النحو من غير تردد حينما يأمره علي بن أبي طالب، ثم نجده يتردد حينما يأمره زياد. وإني أكاد استشف من وراء ذلك سراً خفياً، هو أن زياداً كان المحرض الأول لأبي الأسود على وضع النحو، ولكن أبا الأسود كان يخجل من ذكر ذلك، فيحاول تغطيته على وجه من الوجوه.

زياد بن أبيه :
وقد يسأل هنا سائل فيقول : ماهي مصلحة زياد في وضع النحو؟ ولماذا كان زياد معنياً به دون خلق الله؟

يستطيع القارئ أن يجد جواب ذلك إذا درس سيرة زياد. فالمعروف عن هذا الرجل أن أمه كانت بغياً وأن العرب تعيره بها. وقد منعه ذلك من الزواج من امرأة عربية تناسب مقامه. فاضطر إلى الزواج من جارية مجوسية من الأساورة اسمها مرجانة. وقد رزق منها أولاداً كان أكبرهم عبيد الله الذي كان يكنى أحياناً بابن مرجانة.

ويقال أن زياداً ابتلى من جراء ذلك بمشكلة أقضت مضجعه. ذلك أن أولاده نشأوا مع أمهم بين الأساورة يلحنون لحناً مستهجناً. ومما يجدر ذكره أن العرب كانوا في ذلك الزمن يعدون اللحن عيباً في الشريف ودليلاًَ على دناءة نسبه.

ومما يحكى في هذا الصدد أن زياداً أرسل مع ولده عبيد الله إلى معاوية، فلما رآه معاوية كتب إلى زياد يقول له: ” إن ابنك كما وصفت ولكن قوم لسانه.”

وليس من الصعب علينا أن نتصور مبلغ الألم الذي شعر به زياد عند قراءة كتاب معاوية. فزياد قد التحق بنسب أبي سفيان وصار أخاً لمعاوية، ولابد له من أن يتألم حين يرى أولاده غير قادرين على اللحاق به في نسبه الجديد. انه يريد أن يصبح من أشراف العرب، بينما كان أولاده يلحنون في كلامهم كما يفعل الموالي.

مالعلاج ؟
أشارت إحدى الروايات إشارة مختصرة إلى أن زياداً اشتكى إلى أبي الأسود ما وجد في كلام أولاده من لحن، وطلب إليه أن يضع لهم رسماً يستعينون به على تصحيح لغتهم. والغريب أن المؤرخين يمرون بهذه الرواية مر الكرام ولا يولونها أية عناية. والذي أراه أن هذه الرواية بالرغم من اختصارها وقلة اهتمام المؤرخين بها هي بيت القصيد. ففيها يكمن السبب الرئيسي في وضع النحو العربي.

إن الباحث قد يعجب حين يرى أبا الأسود مشغولاً بوضع مبادئ النحو، في ذلك الزمن المبكر، مع العلم إن هناك علوماً أخرى كانت في حاجة إلى من يضع فيها المبادئ وهي أجدى للناس من علم النحو. لعلني لا أغالي إذا قلت بأنه لولا مرجانة وأولاد مرجانة لما اشتغل المسلمون بوضع علم النحو قبل غيره من العلوم.

كيف وضع النحو؟
اختلف المؤرخون في تعيين الطريقة التي وضع أبو الأسود بها النحو. فالقدماء منهم يعتقدون انه وضع مبادئ النحو على النمط المعروف الآن. يقول ابن سلام في كتابه “طبقات الشعراء” : “ان أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم.”

أما الباحثون المحدثون فيرون أن أبا الأسود لم يفعل سوى تنقيط القرآن لكي يتجنب القارئ اللحن في قراءته. ففي رأي هؤلاء أن العصر الذي عاش فيه أبو الأسود لم يكن عصر تدوين أو تصنيف علمي، ولم يكن في ميسور أبي الأسود أن يضع الأبواب أو القواعد النحوية دفعة واحدة خلافاً لما تقتضيه سنة التطور.

وعندي أن كلا الرأيين صحيح إلى حد ما. وأستطيع أن أقول بأن أبا الأسود بدأ أول الأمر بتحريك كلمات القرآن كما تقتضيه السليقة العربية. ثم جره ذلك إلى البحث في عوامل الإعراب. فقد يسأله الناس لماذا رفع هذه الكلمة ونصب تلك، ولابد له من أن يجيب أو يجادل. وهو بهذا قد يندفع في اكتشاف بعض المبادئ النحوية من حيث يريد أو لايريد.

تنقيط القرآن:
مما تجدر الإشارة إليه أن القرآن كان يكتب من غير تنقيط أو تحريك. ولهذا كان الناس يلحنون في قراءته أحياناً. وقد استعظم زياد ذلك لاسيما وهو يرى أولاده من أكثر الناس لحناً. فطلب من أبي الأسود أن يتلافى ذلك على وجه من الوجوه.

يروى أن أبا الأسود طلب من زياد أن يبعث له بثلاثين رجلاً يحذقون القراءة والكتابة. فاختار منهم أبو الأسود رجلاً واحداً لعله كان أحذقهم وأذكاهم. وأتى له أبو الأسود بمداد أحمر ثم قال له : ” إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت.”

بهذه الطريقة ظهر للوجود أول مصحف معرب أو منقوط، والمظنون أن أبا الأسود استعمل هذا المصحف في تعليم أولاد زياد وفي تدريبهم على النطق الصحيح. فكان يضع المصحف بين أيديهم ليقرأوا فيه، وهو يحاول أن يصلح أخطاءهم ويرشدهم إلى الطريقة التي يتجنبون اللحن بها.

ويصح القول أن أولاد زياد تعلموا الإعراب على يد أبي الأسود، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من اللحن تخلصاُ تاماً. فقد بقيت في ألسنتهم لكنة فارسية كتلك التي تبقى في بعض الأعاجم المستعربين. يقال أن عبيد الله ظل إلى آخر أيامه لا يحسن نطق بعض الحروف العربية، فكان يقول للحرورى مثلاً “هرورى” ، وصار من جراء ذلك أضحوكة الناس. والظاهر أن المعلم لم يتمكن أن يصلح منه ما أفسدته الأم الحنون!

بعد أبي الأسود:
مهما كان الحال، فمن الممكن أن نقول بأن طريقة أبي الأسود في تنقيط القرآن نالت إعجاب المسلمين في عصره وانتشر استعمالها بينهم. ولعلهم صاروا يهرعون بمصاحفهم إليه أو إلى غيره ممن يعهدون فيه القراءة الصحيحة ليتعلموا منه التنقيط أو يسألوه عما غمض عليهم منه.

وفي زمان الحجاج ظهر رجل يعد من تلاميذ أبي الأسود هو نصر بن عاصم. وقد خطى هذا الرجل بتنقيط القرآن خطوة جديدة. ويقال أن الحجاج ندبه لها كما ندب زياد أبا الأسود للتنقيط في أول الأمر.

وخطوة نصر بن عاصم تدور حول الحروف المعجمة. فقد كان الناس في زمانه لا يفرقون بين الباء والتاء والثاء والياء وغيرها من الحروف المتشابهة. ولهذا كثر الخلط والتصحيف في لفظ الكلمات. وجاء نصر فأخذ يضع نقاطاً سوداء على الحروف أفراداً وأزواجاً.

وبهذا صار لدينا نوعان من التنقيط، أحدهما أحمر وهو الذي ابتكره أبو الأسود من أجل الإعراب، والآخر أسود وهو الذي ابتكره نصر من أجل الاعجام. ومضى على الناس مدة وهم يستعملون هذا التنقيط المزدوج في القرآن. وثار من جراء ذلك جدال بين الفقهاء حول استعمال المداد الأحمر في القرآن. فمنهم من أباحه ومنهم من كرهه ومنهم من حرمه.

وبعد هذا ظهر الخليل بن أحمد الفراهيدي فابتكر الحركات المعروفة بشكلها الأخير. واستعاض الناس بها عن النقاط الحمراء.

حلقات التنقيط:
يحدثنا التاريخ عن ظهور حلقات في المساجد في تلك الفترة تعني بتنقيط القرآن. فكان الأستاذ يجلس على كرسي، والناس جالسون حوله وقد فتحوا مصاحفهم بين أيديهم لينقطوها حسب مايسمعون من فم الأستاذ.

ويخيل أن الناس لم يكونوا يفعلون ذلك من غير جدل أو تساؤل. فقد يرفع أحد الجالسين أصبعه بين حين وآخر معترضاً على تنقيط بعض الكلمات والآيات:
“لماذا تنقط الكلمة على هذا المنوال ولا تنقط على منوال آخر” . وهنا لابد أن ينشب الجدل بين الحاضرين. وليس من الصعب علينا أن نتصور علم النحو ينمو من جراء ذلك.

من طبيعة العقل البشري أنه يزداد تعمقاً كلما ازداد جدلاً. ويخيل لي أن القواعد النحوية صارت تتكشف في حلقات التنقيط مرة بعد مرة. فكل جدل ينشب قد يؤدي إلى اكتشاف قاعدة جديدة، وينقسم الحاضرون حولها بين مؤيد ومعارض.

قنبلة سيبويه:
على حين غرة ظهر سيبويه بكتابه الشهير في النحو. وكان كتاباً كبيراً فيه من التدقيق والتبويب ما أثار دهشة الناس.
والباحثون اليوم في حيرة من أمرهم في شأن هذا الكتاب. إنهم يعتبرونه شذوذاً في سنة التطور. وهم لا يستطيعون أن يعللوا كيف ظهر مثل هذا الكتاب المسهب دون أن يسبقه أي تمهيد له مكتوب.

يقول الأستاذ أحمد أمين: ” وتاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض، فإنا نرى فجأة كتاباً ضخماً ناضجاً هو كتاب سيبويه، ولا نرى ما يصح أن يكون نواة تبين ماهو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء، وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي غليلاًُ.”

وفي رأيي أن كتاب سيبويه على عظمته لم يكن طفرة عجيبة تخالف سنة التطور كما يقول أحمد أمين. انه في الواقع خطوة طبيعية سبقتها خطوات. ولو درسنا الجدل الطويل المستمر الذي كان ينشب في حلقات التنقيط على توالي الأيام، لصار من السهل علينا أن نتوقع ظهور خلاصة لذلك الجدل في كتاب على يد سيبويه أو يد غيره.

سيبويه وأرسطو:
إن ظهور كتاب النحو على يد سيبويه يشبه ظهور المنطق على يد أرسطو طاليس. فقد كان الإغريق قبل أرسطو طاليس. فقد كان الإغريق قبل أرسطو يتجادلون في مسائل فكرية آثارها السوفسطانيون. وجر الجدل فيها إلى البحث وراء المقاييس التي تضبط الجدل وتعصم الذهن من الخطأ فيه.

وجاء أرسطو أخير فجمع تلك المقاييس التي كانت معروفة قبله، وسجلها في كتاب تسجيلاً متقناً يثير الإعجاب.

ونحن مع هذا لا نستطيع أن ننكر فضل أرسطو في تسجيل المنطق، كما لا ننكر فضل سيبويه في تسجيل النحو. كلاهما كان مبدعاً عبقرياً. ولكنهما استندا في إبداعهما على من سبقهما، شأنهما في ذلك كشأن أي مخترع عظيم.

إن معرفة البشرية بوجه عام تجري في تطورها على خطوات متتابعة، كل خطوة منها تؤدي إلى مايليها. ومن النادر أن يقفز فرد في انماء المعرفة قفزة مفاجئة ليس لها تمهيد سابق.

أستاذ سيبويه:
لقد كان سيبويه تلميذاً للخليل بن أحمد الفراهيدي، كما كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون. وكان الخليل من فلتات الزمان في عقله المبدع. فهو أول مبتكر للمعاجم العربية، وهو أول مبتكر لعلم العروض في الشعر، وهو الذي اخترع علم الموسيقى العربية وجمع فيه أصناف النغم، ويمكن القول انه الملهم الأول لسيبويه في وضع كتاب النحو.

ومشكلة الخليل أنه كان يدلي بأفكاره الجديدة إلى تلاميذه من غير أن يهتم بتدوينها بنفسه. يقول الزبيدي في وصف الخليل: “فهو الذي بسط النحو ومد أطنابه وسبب علله وفتق معانيه وأوضح الحجاج فيه حتى بلغ أقصى حدوده. ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفاً أو يرسم منه رسماً…. واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده.”

يمكن تشبيه الخليل بالمرحوم ميد الذي كان يلقى أفكاره الفلسفية العظيمة على الطلاب في جامعة شيكاغو، دون أن يسجلها في كتاب. وبعد ما مات لجأ طلابه في دفاترهم فاستخرجوا منها الكتب الكبرى التي تنسب الآن إلى ميد، مع العلم أنه لم يخط منها حرفاً واحداً.

ظاهرة اجتماعية:
مما يلفت النظر في أمر تطور النحو العربي أنه نشأ وترعرع في البصرة قبل غيرها من الأمصار الإسلامية. فقد ظهر في البصرة أبو الأسود الدؤلي، وظهر كذلك الخليل بن أحمد وسيبويه، وظهر فيها غيرهم من أساتذة النحو وأساطينه كثيرون. فما هي علة ذلك؟

إن أول من أعان على وضع بذرة النحو في البصرة، هو زياد بن أبيه كما رأينا، وقد كان والياً على البصرة من قبل معاوية. ولكن هذا وحده لا يكفي لتعليل نمو النحو في البصرة ذلك النمو الكبير. فلابد أن يكون في البصرة عامل اجتماعي يساعد على إنماء شجرة النحو بعد وضع البذرة الأولى فيها.

يخيل لي أن البصرة قد اختصت بميزة اجتماعية ينذر أن نجد لها مثيلاً في الحواضر العربية الأخرى. ويصح القول بأنها الحاضرة العربية الوحيدة التي تقع على حدود مجتمعين مختلفين، هما مجتمع البادية العربية من جهة ومجتمع الحضارة الفارسية من الجهة الأخرى.

لقد كانت البصرة، بعبارة أخرى، تشرف على صحراء العرب من ناحية الغرب، وتتاخم جبال فارس من ناحية الشرق. ولهذا كان مجتمعاً زاخراً بالعرب والفرس في آن واحد. أولئك يصبون فيها تراثهم الديني واللغوي، وهؤلاء يصبون تراثهم المدني والفكري. ولابد أن ينشأ من جراء ذلك جدال ديني وتفاعل اجتماعي على وجه من الوجوه.

وليس من العجب إذن أن ينمو علم النحو في البصرة قبل غيرها من الأمصار الإسلامية. فإن اختلاط الفرس والعرب فيها على ذلك النطاق الواسع لابد أن يؤدي إلى شيوع اللحن في لغة العرب، وهذا بدوره يؤدي إلى البحث في القواعد والمبادئ التي تعصم اللسان من اللحن.

الموالي والنحو:
والملاحظ أن الموالي اشتغلوا في تطوير النحو العربي وفي التأليف فيه أكثر من العرب. وليس هذا بالأمر المستغرب. فلم يكن منتظراً من العربي أن يبحث في النحو أو يصبر على التدقيق فيه. انه ينطق بلغته سليقة. أما المولى فهو يريد أن يبحث ويستقصي في هذه السليقة لكي يستخرج منها القواعد التي تعينه على الاقتداء بها.

يود المولى أن يتقن لغة العرب لعله يفوز بشيء من المكانة بينهم. أنه محتقر وقد تنشأ في أعماق نفسه عقدة النقص. ولهذا فهو يحاول أن يتسامى أحياناً عن طريق التعلم والاستقصاء.

ومن مفارقات الدهر أن نجد الموالي يفسدون لغة العرب في أول الأمر ويدخلون فيها اللحن، ثم يأتون أخيراً فيضعون القواعد في سبيل التوقي من ذلك اللحن الذي أدخلوه. مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال لهم:” لئن أصلحتموه، انكم أول من أفسده.”

رفيق (الوائلي) الروح
24-03-2010, 11:44 PM
سلمت اناملك
موضوع مميز وجميل
أبداع دائم
وتألق متواصل
:65::65::65:

:: بحر ::
27-03-2010, 08:53 PM
أفرحني مروركِ عزيزتي كلَ الفرح

حفظكِ [ الرحمن ] ,,