((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً))
إنَّ مواصلةَ السير في النهج الإلهي لأمرٌ ثقيلٌ بثقل الرسالة, وحملُها وأداءُ مسؤوليتِها أمرٌ أصعب؛ لذلك لا بد للإنسان من مثال كامل يقتدي به, ويترسم خطاه، ويجعله أُسوةً يقتدي به، ولهذا الأمر جعل الله التأسي برسوله الكريم تكليفاً من عنده، فإنَّ رسول الله (ص) هو الشخصية الكاملة من جميع وجوهها، حتى أنَّ الأعداء لم يجدوا ثغرة يجعلونها وسيلة للطعن أبداً، فكان مثالاً في كل شيء ظاهراً وباطناً، فحسن ظاهره ينبئك عن صفاء باطنه، وحلمه ينبئ عن علمه, وصدقه وأمانته يجلب القلوب إليه, وحسن خلقه يفرض شخصيته على أعدائه, وبحلاوة منطقه يسحر العقول والنفوس, خصوصاً عندما كان يتلو آيات الله تعالى في حالات التحدي من قبل أعدائه والذين كانوا يساومونه على التنازل عن رسالته, ورغم ذلك كانوا يتأثرون بها إلا أنَّهم أخذتهم العزة بالإثم حتى قال مبعوثهم: (قد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس والجن، إنَّ له لحلاوة, وإنَّ عليه لطلاوة, وإنَّ أعلاه لمثمر, وإنَّ أسفله لمغدق, وإنَّه ليعلو ولا يُعلى)
ولذلك جعل الله طاعته (ص) كطاعته تعالى، بل عين طاعته، وجعل التأسي به تكليفاً مستمراً إلى يوم القيامة، يقول العلامة الطباطبائي: (والتعبير بقوله: ((لقد كان لكم)) الدال على الاستقـرار والاستـمرار في المـاضي إشـارة إلى كونه تكليفاً ثابتاً مستمراً)
معنى الأسوة لغة: (الأسوة والإِسْوَة كالْقِدْوَةِ والْقُدْوَةِ، وهي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره إن حَسَناً وإن قبيحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً)
وحقيقة الأسوة: هي الإتباع العملي، والسير على نهج المُتَّبَع, بحيث يضع المتأسي أقدامَه حيثما وضع القدوةُ أقدامَه, ولا يحيد عنه قيد أنملة.
والتأسي مبدأ قرآني صريح في نصوص الذكر الحكيم, ومعناه أن تترسم خطوات الكاملين من البشر, وتتخذ تلك الخطوات منهجَ عملٍ, ودروساً عاليةً في صحةِ المنهجِ، وجديةِ الحركةِ, ودقةِ السيرِ, ثم تصور مواقفهم ومحاكاتها بدقة ووعي, وإدراك يصبها في قالب يناسب البيئة والمجتمع المعاش, وجعل تلك المواقف كمصابيح منيرة في طريق تحقيق الأهداف المرسومة, ولعلَّ من هذا المنطلق جاء النص القرآني مؤكداً على أهمية التأسي بالرسل، والأنبياء، وخلفائهم، وأتباعهم الصادقين كإبراهيم وموسى وعيسى (ع)... يقول تعالى: ((قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير))
((لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتولَّ فإن الله هو الغني الحميد))
ولو تأملنا قليلاً في قوله تعالى: ((لكم فيهم أسوة حسنة)) لأدركنا عظم هذا الأمر، وضرورة وعيه, والتحرك الواعي فيه... فما أجملها وأروعها من عبارة تهز المشاعر الكريمة, وتثير العواطف النبيلة في روح الإنسان، حين تربط الإنسان بأعظم شخصية طبعت بطابع الحسن, وصبت في قالب الجمال بكل أبعاده، حتى وسمت بالخلق العظيم الذي يعتبر بحق أعظم شهادة منحتها السماء لإنسان جعله الله أكمل البشرية على الإطلاق, بل قمة كمالها ورأس هذا الكمال عظمة الخلق، فبالتأسي يشعر الإنسان بأنَّه حلقةٌ من الرتل الرسالي المرتبط بوحي السماء فيمنحه الله: الصبر, والعزم, والاستقامة، والمواصلة في طريق ذات الشوكة على خطى نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ومحمد... صلوات الله عليهم وسلامه, يقول أمير المؤمنين (ع): (فتأسى متأسٍّ بنبيه, واقتص أثره, وولج مولجه, وإلا فلا يأمن الهلكة، فإنَّ الله جعل محمداً (ص) عَلَماً للساعة, ومبشراً بالجنة, ومنذراً بالعقوبة. خرج من الدنيا خميصاً, وورد الآخرة سليماً. لم يضع حجراً على حجر، حتى مضى لسبيله, وأجاب داعي ربه، فما أعظم مِنَّة الله عندنا حين أنعم علينا به سَلَفاً نتبعه, وقائداً نطأ عَقِبَهُ)
وبهذا ندرك السر في سرد قصص الأنبياء والرسل في القرآن الكريم، فلم يكن سرداً تاريخياً لبيان عظمة هؤلاء الرجال الكاملين, ولم يكن لغرض الفن القصصي لإبراز البلاغة القرآنية, ولا لغرض التسلي كقصص الأبطال الأسطوريين, وإنَّما مما لا شك فيه أنَّ الهدفَ هو تربيةُ أمة التوحيد, ووضعُها في مدرج التكامل, وإشعالُ الضوء الأخـضـر لـهـا, وتعـبيدُ الطريق أمامها ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون))
ومن هنا نجد التأكيد، والحث المتواصل من قبل أهل بيت العصمة (ع) على التأسي بالأنبياء والرسل وبالخصوص سيد الأنبياء (ص), يقول أمير المؤمنين (ع): (ولقد كان في رسول الله (ص) كافٍ لك في الأسوة... فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر (ص), فإنَّ فيه أسوةً لمن تأسى, وعزاء لمن تعزى، وأحبُّ العباد إلى الله تعالى المتأسي بنبيه, والمقتص لأثره)
ومن كلامه (ع) نفهم أنَّ التأسي عملٌ عبادي مقدس (أحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه)، ففي كل جانب من جوانب حياته يجد الدعاة لهم أسوة حسنة لا سيما في مواقع الشدة، والدليل على ذلك ما وقع في معركة أحد حين انهزم المسلمون، وجرح رسول الله (ص)، يقول أبو عبد الله (ع): (انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (ص)، فغـضـب غضباً شديداً, قال: وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق, قال: فنظر فإذا علي (ع) إلى جنبه، فقال له: الْحَقْ ببني أبيك مع من انهزم عن رسول الله, فقال: يا رسول الله، لي بك أسوةٌ، قال: فاكفني هؤلاء، فحمل فضرب أول من لقى منهم, فقال جبرئيل (ع): إنَّ هذه لهي المؤاساة يا محمد، فقال: إنَّه مني وأنا منه, فقال جبرئيل (ع): وأنا منكما يا محمد)
والأمر المهم في سيرة رسول الله (ص) الذي يجب أن نَعِيَهُ؛ لكي نتأسى به هو أن نعرف كيف خطط رسول الله (ص) لنشر رسالته؟ وكيف نَفَّذَ خطته؟ وكيف واجه تحديات أعدائه؟ هذا أهم ما نحتاجه اليوم من التأسي في رسول الله (ص) - وإن كان الكلُ مهماً وضرورياً- ونحن نواجه أشرس تحَدٍّ عرفته الرسالة على طول خط التأريخ, والأهم أن نعرف أنَّ الأمر بالتأسي نزل في حالة هجوم شرس على الإسلام, وهو لم يزل طرياً في النفوس، فلا بد من التأسي برسول الله (ص) بشتى جوانب حياته: نشأته، وأخلاقه, وحياته الشخصية، والبيئية, وصبره, وكفاحه, وسلمه, وحربه, وتعامله مع أصدقائه وأصحابه, وأهل بيته, وأعدائه، وموقفه من الدنيا وزخارفها, وكيف تعامل مع كل صنف من أصناف الناس, ونقتصر هنا على ذكر الجوانب العملية التي برزت في تبليغه للرسالة المقدسة على شكل نقاط نشير إليها إشارة سريعة، وهي:
1- اتخذ الأسلوب السري في التبليغ والهداية في بداية الأمر, وأمر أصحابه أن تكون دعوتهم إلى الإسلام سراً, واستمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات، وحتى عبادته وصلاته كان يؤديها بعيداً عن أعين الناس, يقول ابن الأثير: (وكان النبي (ص) إذا أراد الصلاة انطلق هو وعلي إلى بعض الشعاب بمكة فيصليان ويعودان)
(وقد كان هذا الأسلوب في تلك الفترة ضرورياً من أجل الحفاظ على مستقبل الدعوة، حتى لا تتعرض لعمل مسلح يقضي عليها في مهدها, حيث لا بد من إيجاد ثلة من المؤمنين, ومن مختلف القبائل يحملون هذه العقيدة، ويدافعون عنها, حتى لا يبقى مجال لتصفيتهم السريعة والحاسمة من قبل أعدائهم الأشرار. كما أنَّه (ص) أراد أن لا تهدر الطاقات, وتذهب الجهود سدىً, وينتهي الأمر إلى تمزق، وتوزع في الثلة المؤمنة, ثم إلى ضياع مدمر. وأيضاً فقد كانت هذه الفترة بمثابة إعداد نفسي, وتربية عقيدية وروحية لتلك الصفوة المؤمنة بربها, وبرسالة نبيه الأكرم (ص), تمكنهم من الصمود في وجه التحديات التي تنتظرهم)
فالسرية إذن منهج عملي مرت به الرسالة؛ لغرض تكامل أتباعها كماً وكيفاً؛ ولذا اتخذ (ص) دار الأرقم مقراً, ومركزاً لحركته، ونشاطه، وتربية أصحابه للمرحلة المقبلة.
(وقد حرص الأنبياء (ص) توسلاً لبلوغ أهدافهم على إحاطة كثير من مخططاتهم وتحركاتهم بالكتمان, وغالباً ما أدى إخلال أتباعهم بحفظ الأسرار إلى إعاقة مسيرتهم, بل واستشهادهم (ع), (والله ما قتلوهم بأسيافهم, ولكن أذاعوا سرَّهم، وأفشوا عليهم، فقُتلوا)، وبقى نبينا الأعظم (ص) يمارس دعوته طيلة السنوات الثلاث الأولى في إطار السرية الكاملة, كما اضطر الأئمة (ع) أمام حملات التضييق والحصار إلى اعتماد السرية أيضاً في كل نشاط يمكن أن يثير حفيظة السلطات وأوصوا مؤيديهم بذلك)
ولذلك نجد في كتب الحديث أبواباً مطولة في ذلك ففي كتاب الكافي الذي يعتبر من مصادر الشيعة المهمة يورد ثقة الإسلام الكليني رحمه الله باباً بعنوان (الكتمان) يتضمن ستة عشر حديثاً، منها قول أبي عبد الله (ع): (أمر الناس بخصلتين، فضيعوهما، فصاروا منهما على غير شيء: الصبر والكتمان)
ولا شك أنَّ الكتمان الذي أمر به الأئمة (ع) هو كتمان الخطط والأهداف التي يراد تحقيقها, وليست السرية سرية الأفكار، والعقائد، والطقوس الدينية، والدليل على ذلك أنَّ الأئمة (ع) كانوا يعظون الناس, ويروجون الفكر الإسلامي علانية, بل كانوا يعظون حتى طغاة عصورهم, إذن السرية ليست سريةَ الأفكار والمفاهيم والعقائد, وإنَّما سرية الأهداف والمخططات, والسيرة العملية خير دليل على ذلك، يقول الإمام الصادق (ع) في معرض بيانه لحقيقة الكتمان: >فصبرنا لأمر الله, ونحن قوّام الله على خلقه, وخزّانه على دينه، نخزنه، ونستره، ونكتم به من عدونا كما كتم رسول الله (ص) حتى أذن له في الهجرة, وجهاد المشركين، فنحن على منهاج رسول الله (ص) حتى يأذن الله بإظهار دينه بالسيف، ويدعو الناس إليه، وليضربهم عليه عوداً كما ضربهم رسول الله (ص) بدءاً)
وعن أبي جعفر (ع) قال: (في التوراة مكتوب - فيما ناجى الله عز وجلّ به موسى بن عمران (ع)- : يا موسى، اكتم مكتوم سري في سريرتك، وأظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي، ولا تستسبَّ لي عندهم بإظهار مكتوم سري فتشرك عدوك وعدوي في سبي)
وعن أبي عبيدة الحذاء أنَّه قال: (سمعت أبا جعفر (ع) يقول: والله إنَّ أحب أصحابي إليَّ أورعهم، وأفقههم، وأكتمهم لحديثنا, وإنَّ أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم لَلَّذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا, ويروى عنا، فلم يقبلْه اشمأز منه, وجحده، وكفَّر من دان به، وهو لا يدري لعلَّ الحديث من عندنا خرج، وإلينا أُسند, فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا)
والكتمان يقتضي الحكمة والفراسة؛ ليعرف الإنسان المؤمن كيف ينشر رسالة الله تعالى بين خلقه، فلا يكون مهذاراً مع كل أحد, وإنَّما يضع الكلام المناسب في الشخص المناسب الذي يطمئن إليه, ويحرز قبوله, ولذلك يقول أمير المؤمنين (ع): (الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار له عجز) ومن أشعاره (ع):
لا تودع السر إلا عند ذي كرم * والسر عند كرام الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق * قد ضاع مفتاحه والباب مختوم
والأحاديث في ذلك كثيرة نكتفي بما ذكرناه؛ ففيه دلالة كافية.
2- في المرحلة الأولى من حياة الدعوة عمل (ع) على بناء نواة صالحة للدعوة، وخلق قاعدة متماسكة من الثلة التي رباها, وهذه الثلة أصبحت قادرة على تحمل أعباء الرسالة قبل إعلان الدعوة، وهذا ما تم بالفعل, فقد خرَّج رسول الله (ص) في هذه الفترة القصيرة ثلة مباركة من أصحابه كان لها الدورُ الفعالُ في انتشار الدعوة في أغلب أنحاء الجزيرة العربية, والتي امتدت إلى الحبشة.
3- من اجل استقامة المسيرة واستمراريتها أخذ (ص) يركز الإيمان بالله في نفوس أصحابه، ويربيهم على الكدح إلى الله عن طريق الإعداد الروحي والعملي؛ لتنطلق الشخصية الرسالية من منطلق القوة لا الضعف؛ ولذا لم ينقل التاريخ أنَّ رسول الله (ص) أوعد أصحابه بأمر من أمور الدنيا, وإنَّما أوعدهم بنصر الله وبالجنة؛ ولذا عندما قال له الأنصار حين بايعوه في العقبة الثانية: (ما لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: الجنة، قالوا: ابسطْ يدك، فبايعوه).
4- التخطيط لنشر الدعوة: من المعالم البارزة في سيرة رسول الله (ص) التخطيط لأيِّ عمل يقوم به, ويخطئ من يظن أنَّ رسول الله (ص) واصل عمله في جميع مراحل حياته بدون أن يخطط لتبليغ رسالته, وتربية أصحابه, ومقاومة أعدائه، فالتخطيط من أوليات أيِّ عمل، ولو كان بسيطاً، فكيف لمشروع يروم قائده أن يغزو العالم, ويفتح مجاهل الأرض, ويوصل الرسالة إليها، أيكون هذا المشروع الضخم بلا تخطيط؟! وحياة رسول الله (ص) وسيرته على طول تأريخها خير دليل على ذلك, ومن تلك المعالم:
أ- التدرج في التبليغ: يكاد يجمع المؤرخون أنَّ رسول الله (ص) لم يعلن الدعوة منذ أول البعثة, وإنَّما قسم عملية التبليغ إلى أربع مراحل:
(المرحلة الأولى: الدعوة سراً، واستمرت ثلاث سنوات.
المرحلة الثانية: الدعوة جهراً، وباللسان فقط، واستمرت إلى الهجرة.
المرحلة الثالثة: الدعوة جهراً، مع قتال المعتدين والبادئين بالقتال أو الشر، واستمرت هذه المرحلة إلى عام صلح الحديبية.
المرحلة الرابعة: الدعوة جهراً مع قتال كل من وقف في سبيل الدعوة أو امتنع عن الدخول في الإسلام - بعد فترة الدعوة والإعلام - من المشركين أو الملاحدة أو الوثنيين)
فهل هذا التدريج كان عفوياً؟ لا أظن عاقلاً يقبل ذلك, وليس من الصحيح أن ينسب ذلك إلى رسول الله (ص).
ب- ما وقع في بيعة العقبة الثانية من خلال اللقاء بالوفد القادم من يثرب, وأخذ العهد عليهم، فبعد أن بايعوه قال لهم: (أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم)، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وهذا يدل على أنَّه (ص) كان يخطط لمستقبل الدعوة من أول الأمر إلى آخره...
ج- ما ورد في الروايات عنه (ص) وعن أهل بيته (ع) من التدبر والتأمل لكل أمر يريد المؤمن أن يقوم به، منها قوله (ص) لرجل طلب الوصية منه، فقال: (إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك خيراً ورشداً فاتبعه, وإن يك غياً فاجتنبه)
5- الإصرار على مواصلة الدرب: من المعالم المهمة في شخصية رسول الله (ص) هي الإصرار رغم كل الإغرائات التي قدمتها قريش له, إضافة للضغوط والتعذيب المتواصل له ولأصحابه حتى قال (ص): (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)
ومن صور الإصرار عندما عرضت عليه قريش الملك، والمال، والنساء, ووسطوا له عمه أبا طالب, فقال (ص): (لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)
6- منذ أن أعلن الدعوة ورفضتها قريش أخذ في كل عام يأتي إلى الموسم, ويزور الحجاج إلى منازلهم, ويدعوهم إلى الله, ويقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب. وتذل لكم العجم... وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنَّه صابئ كذاب، فيردون على رسول الله (ص) أقبح الرد, ويؤذونه، ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك, ويكلمونه، ويجادلونه، ويكلمهم ويدعوهم إلى الله، ويقول: اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا...)
وبالرغم من ذلك لم يثنِه هذا التثبيط والمواجهة الحادة, يقول ابن الأثير: (ولم يزل رسول الله (ص) يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف، ويدعوه إلى الله, وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب، فإذا فرغ رسول الله (ص) من كلامه, يقول لهم أبو لهب: يا بني فلان، إنَّما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم, وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا له)
7- أمر أصحابه بالهجرة؛ ليوسع من رقعة الدعوة أولاً، وليخلصهم من العذاب ثانياً... وكانت قد حدثت عدة هجرات إلى الحبشة والطائف والمدينة. ويدلنا ذلك على أنَّ رسول الله (ص) أراد من عرض نفسه على القبائل وعلى الحجاج, ومن الهجرة عدة أمور:
أ- حاول أن يوصل صوت الدعوة إلى كل مكان وجماعة بشكل مباشر بشخصه المبارك.
ب- التعرف على القبائل ورؤسائهم؛ ليأخذ فكرة واضحة عنهم، وليفتش عن مناخ مناسب للدعوة.
ج- حاول أن يُعرِّفَ نفسه وشخصيته الحقيقية لقبائل العرب.
د- ليفتش عن قاعدة جديدة صالحة لنشر الإسلام؛ لأنَّ مكة لم تعد صالحة لنشر الدعوة والانطلاق بها إلى عالم أوسع.
8- ومن المعالم البارزة في سيرة الرسول الأكرم (ص) أنَّه كان يعيش حتمية النصر لا محال, ويطفح الأمل في قلبه ومن لسانه, ويوعد بالنصر، وإسقاط قوى الطاغوت في أصعب المواقف والظروف، ومن تلك المشاهد التي يعد بها بإسقاط طاغوتي الشرق والغرب وهو مطارد وحيد لا ناصر له إلا الله, حينما قال (ص) لسراقة الذي أعطته قريش مائة ناقة حمراء إن رد عليها محمداً: (كيف بك يا سراقة إذا سُوِّرت بسوارَيْ كسرى؟ قال: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم)
وفي رواية: (كيف بك يا سراقة إذا ألبست بعدي سوارَي كسرى؟) فلما فتحت فارس دعاه عمر، وألبسه سوارَي كسرى.
وفي حالة اشتداد التعذيب عليه وعلى أصحابه يأتيه خباب، وهو (ص) متوسد بردة في ظل الكعبة بعد أن لقي من الكافرين شدة شديدة, فقال: (يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه, فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه, ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجلّ، والذئب على غنمه) هكذا كان (ص) يعيش روح التفاؤل والأمل برحمة الله ونصره على كل حال، وكلما ازدادت المحن عليه وعلى أصحابه كان يزداد إصراراً وأملاً بالنصر.
(فمهما طال النصر على أجيال الرسالة, وضاقت الأرض بهم، فإنَّ النتيجة الحاسمة في المنطق الرباني الذي لا يكذب، ولا يخطأ هي للذين آمنوا وعملوا الصالحات, وللإيمان والعمل الصالح)
فما أحرانا أن نعيش اليوم هذه الروحية, ونحن نعيش أشرس مواجهة مع القوى الكافرة التي تريد أن تطفئ نور الله في الأرض: ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون))
((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون))
إنَّ مواصلةَ السير في النهج الإلهي لأمرٌ ثقيلٌ بثقل الرسالة, وحملُها وأداءُ مسؤوليتِها أمرٌ أصعب؛ لذلك لا بد للإنسان من مثال كامل يقتدي به, ويترسم خطاه، ويجعله أُسوةً يقتدي به، ولهذا الأمر جعل الله التأسي برسوله الكريم تكليفاً من عنده، فإنَّ رسول الله (ص) هو الشخصية الكاملة من جميع وجوهها، حتى أنَّ الأعداء لم يجدوا ثغرة يجعلونها وسيلة للطعن أبداً، فكان مثالاً في كل شيء ظاهراً وباطناً، فحسن ظاهره ينبئك عن صفاء باطنه، وحلمه ينبئ عن علمه, وصدقه وأمانته يجلب القلوب إليه, وحسن خلقه يفرض شخصيته على أعدائه, وبحلاوة منطقه يسحر العقول والنفوس, خصوصاً عندما كان يتلو آيات الله تعالى في حالات التحدي من قبل أعدائه والذين كانوا يساومونه على التنازل عن رسالته, ورغم ذلك كانوا يتأثرون بها إلا أنَّهم أخذتهم العزة بالإثم حتى قال مبعوثهم: (قد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس والجن، إنَّ له لحلاوة, وإنَّ عليه لطلاوة, وإنَّ أعلاه لمثمر, وإنَّ أسفله لمغدق, وإنَّه ليعلو ولا يُعلى)
ولذلك جعل الله طاعته (ص) كطاعته تعالى، بل عين طاعته، وجعل التأسي به تكليفاً مستمراً إلى يوم القيامة، يقول العلامة الطباطبائي: (والتعبير بقوله: ((لقد كان لكم)) الدال على الاستقـرار والاستـمرار في المـاضي إشـارة إلى كونه تكليفاً ثابتاً مستمراً)
معنى الأسوة لغة: (الأسوة والإِسْوَة كالْقِدْوَةِ والْقُدْوَةِ، وهي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره إن حَسَناً وإن قبيحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً)
وحقيقة الأسوة: هي الإتباع العملي، والسير على نهج المُتَّبَع, بحيث يضع المتأسي أقدامَه حيثما وضع القدوةُ أقدامَه, ولا يحيد عنه قيد أنملة.
والتأسي مبدأ قرآني صريح في نصوص الذكر الحكيم, ومعناه أن تترسم خطوات الكاملين من البشر, وتتخذ تلك الخطوات منهجَ عملٍ, ودروساً عاليةً في صحةِ المنهجِ، وجديةِ الحركةِ, ودقةِ السيرِ, ثم تصور مواقفهم ومحاكاتها بدقة ووعي, وإدراك يصبها في قالب يناسب البيئة والمجتمع المعاش, وجعل تلك المواقف كمصابيح منيرة في طريق تحقيق الأهداف المرسومة, ولعلَّ من هذا المنطلق جاء النص القرآني مؤكداً على أهمية التأسي بالرسل، والأنبياء، وخلفائهم، وأتباعهم الصادقين كإبراهيم وموسى وعيسى (ع)... يقول تعالى: ((قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير))
((لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتولَّ فإن الله هو الغني الحميد))
ولو تأملنا قليلاً في قوله تعالى: ((لكم فيهم أسوة حسنة)) لأدركنا عظم هذا الأمر، وضرورة وعيه, والتحرك الواعي فيه... فما أجملها وأروعها من عبارة تهز المشاعر الكريمة, وتثير العواطف النبيلة في روح الإنسان، حين تربط الإنسان بأعظم شخصية طبعت بطابع الحسن, وصبت في قالب الجمال بكل أبعاده، حتى وسمت بالخلق العظيم الذي يعتبر بحق أعظم شهادة منحتها السماء لإنسان جعله الله أكمل البشرية على الإطلاق, بل قمة كمالها ورأس هذا الكمال عظمة الخلق، فبالتأسي يشعر الإنسان بأنَّه حلقةٌ من الرتل الرسالي المرتبط بوحي السماء فيمنحه الله: الصبر, والعزم, والاستقامة، والمواصلة في طريق ذات الشوكة على خطى نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ومحمد... صلوات الله عليهم وسلامه, يقول أمير المؤمنين (ع): (فتأسى متأسٍّ بنبيه, واقتص أثره, وولج مولجه, وإلا فلا يأمن الهلكة، فإنَّ الله جعل محمداً (ص) عَلَماً للساعة, ومبشراً بالجنة, ومنذراً بالعقوبة. خرج من الدنيا خميصاً, وورد الآخرة سليماً. لم يضع حجراً على حجر، حتى مضى لسبيله, وأجاب داعي ربه، فما أعظم مِنَّة الله عندنا حين أنعم علينا به سَلَفاً نتبعه, وقائداً نطأ عَقِبَهُ)
وبهذا ندرك السر في سرد قصص الأنبياء والرسل في القرآن الكريم، فلم يكن سرداً تاريخياً لبيان عظمة هؤلاء الرجال الكاملين, ولم يكن لغرض الفن القصصي لإبراز البلاغة القرآنية, ولا لغرض التسلي كقصص الأبطال الأسطوريين, وإنَّما مما لا شك فيه أنَّ الهدفَ هو تربيةُ أمة التوحيد, ووضعُها في مدرج التكامل, وإشعالُ الضوء الأخـضـر لـهـا, وتعـبيدُ الطريق أمامها ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون))
ومن هنا نجد التأكيد، والحث المتواصل من قبل أهل بيت العصمة (ع) على التأسي بالأنبياء والرسل وبالخصوص سيد الأنبياء (ص), يقول أمير المؤمنين (ع): (ولقد كان في رسول الله (ص) كافٍ لك في الأسوة... فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر (ص), فإنَّ فيه أسوةً لمن تأسى, وعزاء لمن تعزى، وأحبُّ العباد إلى الله تعالى المتأسي بنبيه, والمقتص لأثره)
ومن كلامه (ع) نفهم أنَّ التأسي عملٌ عبادي مقدس (أحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه)، ففي كل جانب من جوانب حياته يجد الدعاة لهم أسوة حسنة لا سيما في مواقع الشدة، والدليل على ذلك ما وقع في معركة أحد حين انهزم المسلمون، وجرح رسول الله (ص)، يقول أبو عبد الله (ع): (انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (ص)، فغـضـب غضباً شديداً, قال: وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق, قال: فنظر فإذا علي (ع) إلى جنبه، فقال له: الْحَقْ ببني أبيك مع من انهزم عن رسول الله, فقال: يا رسول الله، لي بك أسوةٌ، قال: فاكفني هؤلاء، فحمل فضرب أول من لقى منهم, فقال جبرئيل (ع): إنَّ هذه لهي المؤاساة يا محمد، فقال: إنَّه مني وأنا منه, فقال جبرئيل (ع): وأنا منكما يا محمد)
والأمر المهم في سيرة رسول الله (ص) الذي يجب أن نَعِيَهُ؛ لكي نتأسى به هو أن نعرف كيف خطط رسول الله (ص) لنشر رسالته؟ وكيف نَفَّذَ خطته؟ وكيف واجه تحديات أعدائه؟ هذا أهم ما نحتاجه اليوم من التأسي في رسول الله (ص) - وإن كان الكلُ مهماً وضرورياً- ونحن نواجه أشرس تحَدٍّ عرفته الرسالة على طول خط التأريخ, والأهم أن نعرف أنَّ الأمر بالتأسي نزل في حالة هجوم شرس على الإسلام, وهو لم يزل طرياً في النفوس، فلا بد من التأسي برسول الله (ص) بشتى جوانب حياته: نشأته، وأخلاقه, وحياته الشخصية، والبيئية, وصبره, وكفاحه, وسلمه, وحربه, وتعامله مع أصدقائه وأصحابه, وأهل بيته, وأعدائه، وموقفه من الدنيا وزخارفها, وكيف تعامل مع كل صنف من أصناف الناس, ونقتصر هنا على ذكر الجوانب العملية التي برزت في تبليغه للرسالة المقدسة على شكل نقاط نشير إليها إشارة سريعة، وهي:
1- اتخذ الأسلوب السري في التبليغ والهداية في بداية الأمر, وأمر أصحابه أن تكون دعوتهم إلى الإسلام سراً, واستمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات، وحتى عبادته وصلاته كان يؤديها بعيداً عن أعين الناس, يقول ابن الأثير: (وكان النبي (ص) إذا أراد الصلاة انطلق هو وعلي إلى بعض الشعاب بمكة فيصليان ويعودان)
(وقد كان هذا الأسلوب في تلك الفترة ضرورياً من أجل الحفاظ على مستقبل الدعوة، حتى لا تتعرض لعمل مسلح يقضي عليها في مهدها, حيث لا بد من إيجاد ثلة من المؤمنين, ومن مختلف القبائل يحملون هذه العقيدة، ويدافعون عنها, حتى لا يبقى مجال لتصفيتهم السريعة والحاسمة من قبل أعدائهم الأشرار. كما أنَّه (ص) أراد أن لا تهدر الطاقات, وتذهب الجهود سدىً, وينتهي الأمر إلى تمزق، وتوزع في الثلة المؤمنة, ثم إلى ضياع مدمر. وأيضاً فقد كانت هذه الفترة بمثابة إعداد نفسي, وتربية عقيدية وروحية لتلك الصفوة المؤمنة بربها, وبرسالة نبيه الأكرم (ص), تمكنهم من الصمود في وجه التحديات التي تنتظرهم)
فالسرية إذن منهج عملي مرت به الرسالة؛ لغرض تكامل أتباعها كماً وكيفاً؛ ولذا اتخذ (ص) دار الأرقم مقراً, ومركزاً لحركته، ونشاطه، وتربية أصحابه للمرحلة المقبلة.
(وقد حرص الأنبياء (ص) توسلاً لبلوغ أهدافهم على إحاطة كثير من مخططاتهم وتحركاتهم بالكتمان, وغالباً ما أدى إخلال أتباعهم بحفظ الأسرار إلى إعاقة مسيرتهم, بل واستشهادهم (ع), (والله ما قتلوهم بأسيافهم, ولكن أذاعوا سرَّهم، وأفشوا عليهم، فقُتلوا)، وبقى نبينا الأعظم (ص) يمارس دعوته طيلة السنوات الثلاث الأولى في إطار السرية الكاملة, كما اضطر الأئمة (ع) أمام حملات التضييق والحصار إلى اعتماد السرية أيضاً في كل نشاط يمكن أن يثير حفيظة السلطات وأوصوا مؤيديهم بذلك)
ولذلك نجد في كتب الحديث أبواباً مطولة في ذلك ففي كتاب الكافي الذي يعتبر من مصادر الشيعة المهمة يورد ثقة الإسلام الكليني رحمه الله باباً بعنوان (الكتمان) يتضمن ستة عشر حديثاً، منها قول أبي عبد الله (ع): (أمر الناس بخصلتين، فضيعوهما، فصاروا منهما على غير شيء: الصبر والكتمان)
ولا شك أنَّ الكتمان الذي أمر به الأئمة (ع) هو كتمان الخطط والأهداف التي يراد تحقيقها, وليست السرية سرية الأفكار، والعقائد، والطقوس الدينية، والدليل على ذلك أنَّ الأئمة (ع) كانوا يعظون الناس, ويروجون الفكر الإسلامي علانية, بل كانوا يعظون حتى طغاة عصورهم, إذن السرية ليست سريةَ الأفكار والمفاهيم والعقائد, وإنَّما سرية الأهداف والمخططات, والسيرة العملية خير دليل على ذلك، يقول الإمام الصادق (ع) في معرض بيانه لحقيقة الكتمان: >فصبرنا لأمر الله, ونحن قوّام الله على خلقه, وخزّانه على دينه، نخزنه، ونستره، ونكتم به من عدونا كما كتم رسول الله (ص) حتى أذن له في الهجرة, وجهاد المشركين، فنحن على منهاج رسول الله (ص) حتى يأذن الله بإظهار دينه بالسيف، ويدعو الناس إليه، وليضربهم عليه عوداً كما ضربهم رسول الله (ص) بدءاً)
وعن أبي جعفر (ع) قال: (في التوراة مكتوب - فيما ناجى الله عز وجلّ به موسى بن عمران (ع)- : يا موسى، اكتم مكتوم سري في سريرتك، وأظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي، ولا تستسبَّ لي عندهم بإظهار مكتوم سري فتشرك عدوك وعدوي في سبي)
وعن أبي عبيدة الحذاء أنَّه قال: (سمعت أبا جعفر (ع) يقول: والله إنَّ أحب أصحابي إليَّ أورعهم، وأفقههم، وأكتمهم لحديثنا, وإنَّ أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم لَلَّذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا, ويروى عنا، فلم يقبلْه اشمأز منه, وجحده، وكفَّر من دان به، وهو لا يدري لعلَّ الحديث من عندنا خرج، وإلينا أُسند, فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا)
والكتمان يقتضي الحكمة والفراسة؛ ليعرف الإنسان المؤمن كيف ينشر رسالة الله تعالى بين خلقه، فلا يكون مهذاراً مع كل أحد, وإنَّما يضع الكلام المناسب في الشخص المناسب الذي يطمئن إليه, ويحرز قبوله, ولذلك يقول أمير المؤمنين (ع): (الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار له عجز) ومن أشعاره (ع):
لا تودع السر إلا عند ذي كرم * والسر عند كرام الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق * قد ضاع مفتاحه والباب مختوم
والأحاديث في ذلك كثيرة نكتفي بما ذكرناه؛ ففيه دلالة كافية.
2- في المرحلة الأولى من حياة الدعوة عمل (ع) على بناء نواة صالحة للدعوة، وخلق قاعدة متماسكة من الثلة التي رباها, وهذه الثلة أصبحت قادرة على تحمل أعباء الرسالة قبل إعلان الدعوة، وهذا ما تم بالفعل, فقد خرَّج رسول الله (ص) في هذه الفترة القصيرة ثلة مباركة من أصحابه كان لها الدورُ الفعالُ في انتشار الدعوة في أغلب أنحاء الجزيرة العربية, والتي امتدت إلى الحبشة.
3- من اجل استقامة المسيرة واستمراريتها أخذ (ص) يركز الإيمان بالله في نفوس أصحابه، ويربيهم على الكدح إلى الله عن طريق الإعداد الروحي والعملي؛ لتنطلق الشخصية الرسالية من منطلق القوة لا الضعف؛ ولذا لم ينقل التاريخ أنَّ رسول الله (ص) أوعد أصحابه بأمر من أمور الدنيا, وإنَّما أوعدهم بنصر الله وبالجنة؛ ولذا عندما قال له الأنصار حين بايعوه في العقبة الثانية: (ما لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: الجنة، قالوا: ابسطْ يدك، فبايعوه).
4- التخطيط لنشر الدعوة: من المعالم البارزة في سيرة رسول الله (ص) التخطيط لأيِّ عمل يقوم به, ويخطئ من يظن أنَّ رسول الله (ص) واصل عمله في جميع مراحل حياته بدون أن يخطط لتبليغ رسالته, وتربية أصحابه, ومقاومة أعدائه، فالتخطيط من أوليات أيِّ عمل، ولو كان بسيطاً، فكيف لمشروع يروم قائده أن يغزو العالم, ويفتح مجاهل الأرض, ويوصل الرسالة إليها، أيكون هذا المشروع الضخم بلا تخطيط؟! وحياة رسول الله (ص) وسيرته على طول تأريخها خير دليل على ذلك, ومن تلك المعالم:
أ- التدرج في التبليغ: يكاد يجمع المؤرخون أنَّ رسول الله (ص) لم يعلن الدعوة منذ أول البعثة, وإنَّما قسم عملية التبليغ إلى أربع مراحل:
(المرحلة الأولى: الدعوة سراً، واستمرت ثلاث سنوات.
المرحلة الثانية: الدعوة جهراً، وباللسان فقط، واستمرت إلى الهجرة.
المرحلة الثالثة: الدعوة جهراً، مع قتال المعتدين والبادئين بالقتال أو الشر، واستمرت هذه المرحلة إلى عام صلح الحديبية.
المرحلة الرابعة: الدعوة جهراً مع قتال كل من وقف في سبيل الدعوة أو امتنع عن الدخول في الإسلام - بعد فترة الدعوة والإعلام - من المشركين أو الملاحدة أو الوثنيين)
فهل هذا التدريج كان عفوياً؟ لا أظن عاقلاً يقبل ذلك, وليس من الصحيح أن ينسب ذلك إلى رسول الله (ص).
ب- ما وقع في بيعة العقبة الثانية من خلال اللقاء بالوفد القادم من يثرب, وأخذ العهد عليهم، فبعد أن بايعوه قال لهم: (أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم)، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وهذا يدل على أنَّه (ص) كان يخطط لمستقبل الدعوة من أول الأمر إلى آخره...
ج- ما ورد في الروايات عنه (ص) وعن أهل بيته (ع) من التدبر والتأمل لكل أمر يريد المؤمن أن يقوم به، منها قوله (ص) لرجل طلب الوصية منه، فقال: (إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك خيراً ورشداً فاتبعه, وإن يك غياً فاجتنبه)
5- الإصرار على مواصلة الدرب: من المعالم المهمة في شخصية رسول الله (ص) هي الإصرار رغم كل الإغرائات التي قدمتها قريش له, إضافة للضغوط والتعذيب المتواصل له ولأصحابه حتى قال (ص): (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)
ومن صور الإصرار عندما عرضت عليه قريش الملك، والمال، والنساء, ووسطوا له عمه أبا طالب, فقال (ص): (لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)
6- منذ أن أعلن الدعوة ورفضتها قريش أخذ في كل عام يأتي إلى الموسم, ويزور الحجاج إلى منازلهم, ويدعوهم إلى الله, ويقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب. وتذل لكم العجم... وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنَّه صابئ كذاب، فيردون على رسول الله (ص) أقبح الرد, ويؤذونه، ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك, ويكلمونه، ويجادلونه، ويكلمهم ويدعوهم إلى الله، ويقول: اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا...)
وبالرغم من ذلك لم يثنِه هذا التثبيط والمواجهة الحادة, يقول ابن الأثير: (ولم يزل رسول الله (ص) يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف، ويدعوه إلى الله, وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب، فإذا فرغ رسول الله (ص) من كلامه, يقول لهم أبو لهب: يا بني فلان، إنَّما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم, وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا له)
7- أمر أصحابه بالهجرة؛ ليوسع من رقعة الدعوة أولاً، وليخلصهم من العذاب ثانياً... وكانت قد حدثت عدة هجرات إلى الحبشة والطائف والمدينة. ويدلنا ذلك على أنَّ رسول الله (ص) أراد من عرض نفسه على القبائل وعلى الحجاج, ومن الهجرة عدة أمور:
أ- حاول أن يوصل صوت الدعوة إلى كل مكان وجماعة بشكل مباشر بشخصه المبارك.
ب- التعرف على القبائل ورؤسائهم؛ ليأخذ فكرة واضحة عنهم، وليفتش عن مناخ مناسب للدعوة.
ج- حاول أن يُعرِّفَ نفسه وشخصيته الحقيقية لقبائل العرب.
د- ليفتش عن قاعدة جديدة صالحة لنشر الإسلام؛ لأنَّ مكة لم تعد صالحة لنشر الدعوة والانطلاق بها إلى عالم أوسع.
8- ومن المعالم البارزة في سيرة الرسول الأكرم (ص) أنَّه كان يعيش حتمية النصر لا محال, ويطفح الأمل في قلبه ومن لسانه, ويوعد بالنصر، وإسقاط قوى الطاغوت في أصعب المواقف والظروف، ومن تلك المشاهد التي يعد بها بإسقاط طاغوتي الشرق والغرب وهو مطارد وحيد لا ناصر له إلا الله, حينما قال (ص) لسراقة الذي أعطته قريش مائة ناقة حمراء إن رد عليها محمداً: (كيف بك يا سراقة إذا سُوِّرت بسوارَيْ كسرى؟ قال: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم)
وفي رواية: (كيف بك يا سراقة إذا ألبست بعدي سوارَي كسرى؟) فلما فتحت فارس دعاه عمر، وألبسه سوارَي كسرى.
وفي حالة اشتداد التعذيب عليه وعلى أصحابه يأتيه خباب، وهو (ص) متوسد بردة في ظل الكعبة بعد أن لقي من الكافرين شدة شديدة, فقال: (يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه, فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه, ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجلّ، والذئب على غنمه) هكذا كان (ص) يعيش روح التفاؤل والأمل برحمة الله ونصره على كل حال، وكلما ازدادت المحن عليه وعلى أصحابه كان يزداد إصراراً وأملاً بالنصر.
(فمهما طال النصر على أجيال الرسالة, وضاقت الأرض بهم، فإنَّ النتيجة الحاسمة في المنطق الرباني الذي لا يكذب، ولا يخطأ هي للذين آمنوا وعملوا الصالحات, وللإيمان والعمل الصالح)
فما أحرانا أن نعيش اليوم هذه الروحية, ونحن نعيش أشرس مواجهة مع القوى الكافرة التي تريد أن تطفئ نور الله في الأرض: ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون))
((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون))