القرآن المهجور الظواهر والأسباب-3

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • العلوية ام موسى الاعرجي
    • Dec 2014
    • 1699

    القرآن المهجور الظواهر والأسباب-3

    السبب الثالث: الهيبة الخاطئة:
    لقد لعبت الهيبةُ الخاطئة إلى القرآن الكريم دوراً كبيراً في إعاقة الفكر القرآني، وشلّت حركة الإبداع في التفسير، وحرمت الكثير من المفسرين والمؤمنين نعمة التدبر في آياته، والتفكر في قصصه. ولهذا فإنّ الهيبة الخاطئة كانت على صعيدين:
    الصعيد الأول: المفسَّرون.
    الصعيد الثاني: المسلمون.
    وقد اعتبر الإمام الخميني ـ قدّس سرّه ـ أنّ من الحجب الكبيرة التي منعت من الاستفادة من القرآن الكريم، هو "الاعتقاد بأنّهُ ليس لأحدٍ حقَّ الاستفادة من القرآن الشريف إلاّ بما كتبهُ المفسّرونَ أو فهموه". علماً أنَّ المفسرين كانوا هم بدورهم يتملكهم الخوف والهيبة من أن ينطلقوا في التدبّر بالآيات المباركة فاقتصروا في أكثر الأحيان على التفسير اللغوي للكلمات وعلى التفسير بالمأثور. ويُرجع الإمام هذا التحجر والجحود في فهم الآيات المباركة إلى الفهم الخاطئ للأحاديث الناهية عن التفسير بالرأي، كحديث (من فسّر القرآن برأيهِ فليتبوأ مقعَدهُ من النار)وحديث (من فسّرَ القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ)!
    ويرد الإمام على هؤلاء الخائفين ثلاث نقاط أساسيّة:
    1ـ إنَّ تدبّر القرآن وأخذ الدروس والعبر والاستفادات ليس لهُ علاقة بالتفسير، فضلاً عن أن يكون من التفسير بالرأي المذموم، حيث يقول: "وقد اشتبه على الناس التفكّر والتدبّر في الآيات الشريفة بالرأي الممنوع، وبواسطة هذا الرأي الفاسد، والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع فنون الاستفادة، واتخذوه مهجوراً بالكليّة، في حالِ إنّ الاستفادات الأخلاقيّة والإيمانيّة والعرفانية لا ربط لها بالتفسير، فكيفَ بالتفسير بالرأي؟!"
    2ـ إنّ التفسير بالرأي لا علاقةَ لهُ بآيات المعارف والعلوم العقليّة التي توافق الموازين البرهانيّة، وبالآيات الأخلاقية التي فيها للعقل دخلٌ "لأنّ التفاسير التي من هذا القبيل مطابقةٌ للبرهان المتين أو الاعتبارات الواضحة".
    3ـ "من المحتمل، بل من المظنون أنّ التفسير بالرأي راجعٌ إلى آيات الأحكام التي تقصر عنها أيدي الآراء والعقول، ولا بُدُّ أن تُؤخذَ بصرف التعبّد والانقياد، ورواية (إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول)تشهد بانَّ المقصود من دين الله الأحكام التعبديّة للدين"[1].
    وحتى نتخلص من هذا الاعتقاد الخاطئ الذي شخّصَهُ الإمام فلا بُدَّ من إعمال العقل والتدبّر في الآيات المباركة بعيداً عن آراء المفسرين، ولا بأس بعد ذلك بالإطلاع على آرائهم أو الاستعانة ببعض ما ذكروه من بيان للآيات المباركة.
    يقول الأستاذ الشهيد حسن البنا في كتابه "رسالتان في التفسير وسورة الفاتحة": "سألني أحد الأخوان عن أفضل التفاسير وأقرب طرق الفهم لكتاب الله تبارك وتعالى؟ فكانَ جوابي على سؤاله هذا هذهِ الكلمة "قلبك"، فقلبُ المؤمن لا شك هُوَ أفضلُ التفاسير لكتاب الله تباركَ وتعالى، وأقرب طرائق الفهم أن يقرأ القاريئ بتدبرٍ وخشوع، وان يستلهمَ الله الرشدّ والسداد، ويجمع شواردَ فكره حين التلاوة، وان يلمَّ مَعَ ذلك بالسيرة النبويّة المطهرة، ويعني بنوع خاص بأسباب النزول وارتباطها بمواضعها من هذهِ السيرة، فسيجد في ذلك اكبر العون على الفهم الصحيح السليم، وإذا قرأ في كتب التفسير بعد ذلك، فللوقوف على معنى لفظٍ دقَّ عليه، أو تركيب خفيَ أمامّهُ معناه، أو استزادةٍ من ثقافةٍ تعينُهُ على الفهم الصحيح لكتاب الله. فهي مساعدات على الفهم، والفهمُ بعدّ ذلك إشراقٌ ينقدحُ ضوؤه في صميم القلب"[2].
    ومن وصايا الشيخ محمد عبده ـ رحمهُ الله ـ لبعض تلامذته:
    ".. وحاذر النظرَ إلى وجود التفاسير إلاّ لفهم لفظٍ غابَ عنكَ مرادُ العرب منه أو ارتباطِ مفردٍ بآخر خفي عليكَ متصله، ثُمَّ أذهب إلى ما يشخصكَ القرآن إليه، واحمل نفسكَ على ما يحمله عليه".
    ويحكي لنا الشهيد سيد قطب معاناته المرّة من التفاسير فيقول: "لقد قرأتُ القرآن وأنا طفل صغير، لا ترقى مداركي إلى آفاق معانيه، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه. ولكنني كنتُ أجدُ في نفسي منهُ شيئاً.
    لقد كانَ خيالي الساذج الصغير، يجسّمُ لي بعض الصور من خلال تعبير القرآن، وأنها لصور ساذجة، ولكنّها كانت تشوق نفسي وتلذ حسّي، فأظلُّ فترةً غير قصيرة أتملاها، وأنا بها فرح، ولها نشيط... تلك أيّام، ولقد مَضَت بذكرياتها الحلوة وبخيالاتها الساذجة، ثمّ تلتها أيام، ودخلتُ المعاهد العلميّة، فقرأتُ تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعتُ تفسيره من الأساتذة، ولكنني لم أجد فيما أقرأُ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل، الذي كُنتُ أجدهُ في الطفولة والصبا. وا أسفاه! لقد طمست كل معالم الجمال فيه، وخلا من اللذّةِ والتشويق. تُرى هما قرآنان! قرآن الطفولة العذب الميسّر المشوّق، وقرآن الشباب العسر المعقّد الممزّق؟ أم إنّها جنايةُ الطريقةِ المتعبة في التفسير؟!
    وعدتُ إلى القرآن أقرؤه في المصحف لا في كتب التفسير، وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب، واجد صوري المشوقة اللذيذة أنها ليست في سذاجتها التي كانت هناك، لقد تغير فهمي لها، فعدت الآن أجد مراميها وأغراضها، وأعرفُ أنّها مثلٌ يضرب، لا حادثٌ يقع. ولكن سحرها ما يزال. وجاذبيتها ما تزال"! ويختم سيد قطب قصتهُ المريرة بقوله: "الحمدُ لله. لقد وجدتُ القرآن!"[3].
    وللإمام الخميني معاناةٌ مريرةٌ أيضاً مَعَ كتب التفسير.. وقد عبّر عنها بقوله: "وبعقيدتي أنا الكتاب، لم يُكتب إلى الآن التفسير لكتاب الله". وإنّما قال الإمام ذلك لأنّهُ لم يجد تفسيراً يبيّن أبعاد الآيات القرآنية التربويّة، والأغراض التي جاءَ القرآن من أجلها في بناء الإنسان والمجتمع، ويرى أنّ الجوانب والأبعاد التي ركّزَ عليها أغلبيةُ المفسرين إنّما هي جوانب جزئية وعرضيّة وغير داخلة في أهداف ومقاصد وغايات القرآن. أنّ الاستغراق بالأمور الأدبيةّ والنحويّة والصرفية والنكات البيانيّة والبديعيّة ووجوه الإعجاز واختلاف القراءات، والمكي والمدني، كلها أمور عرضية خارجة عن الأهداف الأساسية للقرآن الكريم، بل ويعتبر الإمام أن الاشتغال بها يخلق حالة سليبة "بحيث تكون هذه الأمور نفسها موجبة للاحتجاب عن القرآن والغفلة عن الذكر الإلهي"[4].
    وينقل عن أحد المراجع الكبار السابقين، وأظنه كاشف الغطاء أنه قال: "القرآن بكرٌ لم يُفسّر!، وخيرُ ما فُسَّرّ بهِ مجمع البيان".
    ولم تكن هذهِ الهيبة الخاطئة التي حرمتنا من عطاء القرآن قروناً عديدة، لم تكن بجديدة، وإنّما كانت قديمة بقدم التفسير والمفسرين. يقول ابن عطيّة: "وكانَ جلّةٌ من السلف الصالح كسعيد بن المسيّب وعامر الشعبي وغيرهما يُعظّمونَ تفسير القرآن، ويتوقفون عنهُ تورّعاً واحتياطا لأنفسهم مَعَ إدراكهم وتقدمهم".
    ويقول أبو بكر الانباري: "وقد كانَ الأئمة من السلف الماضي يتورّعونَ عن تفسير المشكل من القرآن، فبعضٌ يقدّر أن الذي يفسَّرهُ لا يوافق مراد الله عز وجلّ فيحجم عن القول، وبعضٌ يشفق من أن يجعل في التفسير إماماً يبني على مذهبه ويقتفي طريقه. فلعلَ متأخّراً يفسّرُ حرفاً برأيه ويخطئ فيه ويقول إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف".
    ويذكر سيّد قطب في ظلاله: إنَّ الخليفة "عمر بن الخطاب" قد قرأ سورة "عبس وتولى" حتى جاءَ إلى قوله تعالى: (وفاكهةً وأبّا) فقال: "قد عرفت الفاكهة. فما الأب؟ ثمَّ استدركَ قائلاً: لعمركَ يا ابن الخطاب إنَّ هذا لَهُوَ التكلّف! وما عليك ألاّ تعرف لفظاً في كتاب الله تعالى؟!" وفي رواية انّهُ قال: كُلّ هذا قد عرفناه فما الأب؟ "هذا لعمر الله التكلّف! وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب" ثمَّ قال: "اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه".
    ومن العجب أن سيد قطب يعتبر هذا الموقف من المواقف الإيجابية الكبيرة حيث يقول: "فهذه كلمات تنبعث عن الأدب أمام كلمات الله العظيمة. أدب العبد أمام كلمات الرب. التي قد يكون بقاؤها مغلفة هدفاً في ذاته، يؤدي غرضها بذاته"!!
    هذهِ الهيبة الخاطئة كانت السبب وراء ما يسمّى بـ(التفسير بالمأثور) الذي يكون دور المفسّر ناقلاً لآراء الصحابة والتابعين أو ما ينقلهُ الصحابة مرفوعاً إلى النبي (ص). ولهذا فإنَّ المفسّر يلعب دور الناقل فحسب، وبذلك أغلق باب التدبر والتفكّر وإعمال العقل، مما جعل التفسير محدوداً بعددٍ من الروايات، ولبعض الآيات!.
    إنَّ طريقة التفسير بالمأثور هي بأصلها طريقة "محدودة لا تفي بالحاجات غير المحدودة، لأنّ ستة آلاف وعدّة مئات من الآيات التي تقرأها في القرآن الكريم تقابلها مئات الأُلوف من الأسئلة العلمية وغير العلميّة، فمن أينَ نجد الإجابة على هذهِ الأسئلة؟ وكيفَ التخلص منها؟ هل نرجع فيها إلى الروايات والأحاديث؟ إنَّ ما يمكن تسميته بالحديث النبوي في التفسير المروي من طريق السنّة لا يزيد على مائتين وخمسين حديثاً، مَعَ العلم أنَّ كثيراً من هذهِ الأحاديث ضعيفة الأسانيد. نعم، الأحاديث المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام من طريق الشيعة تبلغ عدّة آلاف حديث، وفيها مقدار كثير من الأحاديث التي يمكن الاعتماد عليها، إلاّ أنّها مَعَ هذا لا تكفي للإجابة على الأسئلة غير المحدودة التي نواجهها تجاه الآيات القرآنيّة الكريمة.
    هذا، بالإضافة إلى أنَّ هناك آيات لم يرد فيها حديث أصلاً لا من طريق السنّة ولا من طريق الشيعة، فكيفَ نصنَعُ بها؟
    ففي هذه المشاكل: إما أن نرجع إلى الآيات المناسبة لما نروم تفسيره، وهذا ما تمنع عنه هذه الطريقة الحديثية وأما أن نمتنع عن البحث في الآية بتاتاً ونغض الطرف عن حاجاتنا العلمية التي تدعونا إلى البحث.
    إذاً ماذا نصنع مَعَ ما تدلُّ عليه الآيات الكريمة التالية الحاثة على البحث والتدبّر والتبيين؟ قال تعالى: (ونزّلنا عليكَ الكتاب تبياناً لكلَّ شيء) (النحل:89) وقال: (أفلا يتدبرونَ القرآن)(النساء:82)، وقال: (كتابٌ أنزلناهُ إليكَ مباركٌ ليدّبروا آياته وليتذكّر أولوا الألباب) (ص:39).
    وقال: (أفلم يدّبروا القول أم جاءهم ما لم يأتِ آباءَهُمُ الأولين) (المؤمنون:68)[5].
    فلا بُدَّ إذاً من اتباع منهج التدبر والتفكّر في الآيات المباركة وتفسير القرآن بالقرآن، لأنّه "نزل ليصدق بعضُهُ بعضاً" و"ينطقُ بعضهُ ببعض ويشهد بعضُهُ على بعض"، مَعَ الاستفادة من الأحاديث المروية في التفسير. ومن هذا يتّضح أنّ هذهِ الطريقة في التفسير لا ينطبقُ عليها الحديث النبوي المشهور (من فَسّرَ القرآن برأيهِ فليتبوأ مقعدهُ من النار) لأنها طريقة تتبع المنهج العلمي الصحيح في التفسير. وكذلك لا ينطبق عليها الحديث (من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ) لأن "الخطأ" المقصود في الحديث هو الخطأ في طريقة التفسير المعتمدة على مجرّد الرأي من دون إتباعٍ للضوابط التفسيريّة الصحيحة، والحديث إنّما يشير إلى خطورة هذا النوع من التفسير، ولهذا فهو وإن أصابَ. في بعض الأحيان إلاّ أنّهُ أسلوبٌ خاطئ ومنحرف وكثيراً ما يبتعد عن الصحة، قليلاً ما يقتربُ منها.

    السبب الرابع: الاقتصار على التفسير التجزيئي:
    ساد الاتجاه التجزيئي في التفسير طيلة قرون، منذ عصر الصحابة والتابعين إلى أن انتهى إلى الصورة التي قدّمَ فيها ابن ماجه والطبري وغيرهما ممن كتبَ في التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وكانت تمثّل أوسع صورةٍ للمنهج التجزيئي في التفسير. والاتجاه التجزيئي هو المنهج الذي يتناول المفسّر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف.
    وقد تدرّجَ التفسير التجزيئي تأريخيّاً إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقةِ التجزيئية وحتى تكامل على الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير بمختلف مذاهبه، وتعدد مدارسه، وتباين اهتماماته واتجاهاته.
    والهدفُ في كل خطوة من خطوات التفسير التجزئيية هُوَ فهم مدلول الآية المباركة التي يواجهها المفسّر بكُلّ الوسائل الممكنة، ولهذا فَهو "هدفٌ تجزيئي"، لأنّهُ يقف دائماً عندَ حدود فهم هذا الجزء أو ذاك، من النص القرآني، ولا يتجاوز ذلك غالباً، ولذلك فإنّ حصيلةَ تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كلّه تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرةٍ تجزيئيّة، وسوفَ نحصل على عددٍ كبير من المعارف والمدلولات القرآنية ولكن في حالةٍ تناثر وتراكم عددي من دون أن نكشف التركيب العضوي لهذهِ المجاميع من الأفكار، ودونَ أن نحدد في نهاية المطاف نظريّة قرآنية لكلّ مجالٍ من مجالات الحياة، فهناك تراكم عددي للمعلومات، إلاّ أنّ مجموع ما بينَ هذهِ المعلومات، الروابط والعلاقات.. التي تحولها إلى مركبات نظرية ومجاميع فكريّة بالإمكان أن نحضر على أساسها نظرية القرآن لمختلف المجالات والمواضيع، أمّا هذا فليسَ مستهدفاً بالذات في منهج التفسير التجزيئي وإن كانَ قد يحصل أحياناً، ولكن ليس هُوَ المستهدف بالذات في هذا المنهج التجزيئي.
    ويعزو الشهيد محمد باقر الصدر في أطروحته القيمة (التفسير الموضوعي)، عدم استطاعتنا في جعل القرآن يواكب الأحداث والتطورات التي حدثت خلال قرونٍ من الزمن، يعزو ذلك إلى سيادة الاتجاه التجزيئي على حساب الاتجاه الموضوعي في التفسير، حيثُ "ساعدَ انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المكتمل، وساعدَ على اكتسابه حالةً تشبه الحالات التكراريّة، حتى نكاد نقول أنَّ قروناً من الزمن متراكمة مرّت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي، لم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقيّة جديدة، وظلَّ التفسير ثابتاً لا يتغيّر إلاّ قليلاً خلال تلك القرون على الرغم من ألوان التغيّر التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين".
    ويتساءل الشهيد الصدر قائلاً: "لماذا كانت الطريقةُ التجزيئيّة عاملاً في إعاقة النمو؟ ولماذا تكون الطريقة الموضوعيّة والاتجاه التوحيدي عاملاً في النمو والإبداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد؟.
    ويجيب السيد الشهيد على ذلك من خلال شرح وجهين أساسيين من أوجه الاختلاف بينَ هذينَ الاتجاهين، وهما:
    أولاً: الدور السلبي للمفسّر التجزيئي، بينما يكون دور المفسّر الموضوعي إيجابيّاً.
    فالمفسّر التجزيئي "دورهُ في التفسير على الأغلب سلبي، فهو يبدأ أولاً بتناول النص القرآني المحدد ـ آية مثلاً أو مقطعاً قرآنياً ـ دون أي افتراضاتٍ أو طروحات مسبّقة، ويُحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفُهُ بهِ اللفظ، مَعَ ما يُتاح لهُ من القرائن المتصلّة والمنفصلة.. وكأنّ دور النص فيه دور المتحدّث، ودور المفسّر هو الإصغاء والتفهم. وهذا ما نسميّه بالدور السلبي. المفسّر هنا شغله أن يستمع لكن بذهنٍ مُضيء، بفكرٍ صافٍ، بروحٍ محيطةٍ بآداب اللغة وأساليبها في التعبير، بمثل هذهِ الذهنيّة، وبمثل هذا الفكر يجلس بينَ يدي القرآن ليستمع، فهو ذو دور سلبي، والقرآن ذو دورٍ إيجابي، والقرآن يُعطي حينئذٍ، وبقدر ما يفهم هذا المفسّر من مدلول اللفظ يُسجّل في تفسيره".
    "وخلافاً لذلك المفسّر التوحيدي والموضوعي فإنّهُ لا يبدأ عمله من النص، بل من واقع الحياة، يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية، ويستوعب ما أثارتهُ تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمهُ الفكر الإنساني من حلول، وما طّرقهُ التطبيق التأريخي من أسئلة، ومن نقاط فراغ، ثمّ يأخذ النص القرآني لا ليتخذَ من نَفسِهِ بالنسبةِ إلى النص دورَ المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بينَ يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشريّة، ويبدأ مَعَ النص القرآني حواراً، سؤالٌ وجواب، المفسّر يسأل والقرآن يجيب…".
    "ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطةٍ دائماً بتيار التجربةِ البشرية… وكانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوارٍ مَعَ القرآن واستنطاق له، وليس مجرد استجابةٍ سلبيّة، بل استجابة فعّالةً وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى… ومن هنا يلتحم القرآن مَعَ الواقع، مَعَ الحياة لأنّ التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن لا انّهُ يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن… ومن هنا تبقى للقرآن حينئذٍ قدرتهُ على القيمومة، دائماً، قدرتهُ على العطاء المستجد دائماً، قدرته على الإبداع… ومن هنا كانَ التفسير الموضوعي قادراً على أن يتطوّر، على أن ينمو ويثرى لأنّ التجربةَ البشريّة تثريه".
    ثانياً: التفسير التجزيئي خطوة متأخرة عن التفسير الموضوعي.
    "إنّ التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة، لأنّ التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيليّة للآيات القرآنية، بينما التفسير الموضوعي يطمح إلى أكثر من ذلك يتطلع إلى ما هو أوسع من ذلك يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيليّة، يحاول أن يصل إلى مركب نظري قرآني، وهذا المركب النظري القرآني يحتل في إطاره كُلّ واحدٍ من تلك المدلولات التفصيليّة موقعه المناسب، وهذا ما نسميّه بلغة اليوم بـ(النظرية)، يصل إلى نظريةٍ قرآنيّة عن النبوة، نظريّة قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنيّة عن سنن التأريخ...".
    ويستخلص الشهيد الصدر من هذين الفارقين بينَ الاتجاهين، أنَ الاتجاه الموضوعي في التفسير يكون:
    1ـ أوسعَ أفقاً، وأرحبَ عطاءً باعتبار أنّهُ يتقدّم خطوة على التفسير التجزيئي.
    2ـ قادراً على التجدد باستمرار، على التطور والإبداع باستمرار، باعتبار أنّ التجربة البشريّة تغني هذا التفسير بما تقدمُهُ من موارد.
    وقد نبّه الشهيد الصدر في ختام أطروحته إلى ملاحظةٍ أساسيّة، تكون بمثابة دفع دخل، وهي أنّ أفضليّة التفسير الموضوعي على التفسير التجزيئي "لا تعني استبدال اتجاه باتجاه، وطرح التفسير التجزيئي رأساً، والأخذ بالتفسير الموضوعي، وإنّما إضافة اتجاهٍ إلى اتجاه، لأنّ التفسير الموضوعي ليس إلاّ خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى التفسير لتجزيئي، ولا معنى للاستغناء عن التفسير لتجزيئي باتجاهٍ موضوعي. إذن فالمسألةُ هنا ليست مسألة استبدال، وإنّما هي مسألة ضم الاتجاه الموضوعي إلى الاتجاه التجزيئي في التفسير، يعني افتراض خطوتين، خطوةٌ هي التفسير التجزيئي، وخطوةٌ أُخرى هي التفسير الموضوعي".

    السبب الخامس: غياب القرآن في المراكز العلميّة الإسلامية:
    من الأمور الغريبة جداً والتي لا يمكن أن نوجد لها تفسيراً مقبولاً على الإطلاق، هو شبه غياب، بل وغياب القرآن. في المراكز العلمية الإسلامية وخوصصاً الحوزات العلميّة، علماً أنّ درس القرآن والتفسير كانَ من الدروس الأساسيّة في أوّل نشوء الحوزة قبل ألف عام على يد الشيخ الطوسي صاحب التفسير المعروف (التبيان).
    إننا نجد درس القرآن يكاد يغيب عن الحوزات العلميّة على الرغم من أنّ جميع العلوم الأخرى هي فرع علم التفسير، لأنّهُ هو الأساس والغاية التي من أجلها أنشأت العلوم اللغوية والنحوية والبلاغية والفقهيّة والأصولية، فأصبحت الوسيلة على مدى السنين المتطاولة غاية، والطريقُ هدفاً.
    ولو علم أبو الأسود الدؤلي ما ستؤول إليه الأمور، لما جاءَ إلى الإمام علي (ع) ليضع لهُ قواعد علم النحو، عندما مرّ على شخص يقرأ خطأً قوله تعالى (إنّ الله بريءٌ من المشركين ورسوله) حيث جعل القاري كلمة (الرسول) معطوفة على المشركين!
    ولو درى عبد القاهر الجرجاني بما صرنا إليه في علاقتنا مع القرآن، لما اخترع علم المعاني والبيان، والذي أرادَ من خلاله أن يُثبتَ إعجازَ القرآن.
    إنّ أحد الأسباب الأساسيّة في عدم تطوير الفكر القرآني، وعدم وجود الدراسات القرآنية في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، هو غياب دروس القرآن من جميع مراحل الحوزة العلميّة مما أدّى إلى عدم مواكبة الفكر القرآني تطورات الحياة وتغيراتها، وبقيت التفاسير تؤلف بجهودٍ شخصيّة من قبل أولئك الذينَ شذّوا عن الخط المرسوم للدراسات الحوزيّة! وهذهِ مأساةٌ كبرى ومصيبةٌ حقيقيّة.
    وكم فرحتُ عندما سمعتُ صرخة الأستاذ محمد تقي مصباح في مقدمة كتابه (معارف القرآن) حيث يقول: "ومعَ الأسف الشديد فإنَّ هناكَ تقصيراً مُخجلاً في هذا المجال ـ (تدبّر القرآن) ـ، وحتى أنّ درس القرآن وتفسيره كانَ ضعيفاً بل مُلحقاً بالعدم في الحوزات العلميّة إلى أن قيّضَ الله لهُ المرحوم الأستاذ العلامة الطباطبائي… فمنحهُ التوفيق لإحياء تفسير القرآن في الحوزة العلميّة في مدينة قم، ويُعد هذا الإنجاز من أكبر مفاخره"[6].
    ولكني أقول للأستاذ مصباح إنني لا أشعرُ بهذا الإحياء في واقع الحوزة العلميّة رغم الجهود الكبيرة للعلامة الطباطبائي والتي تذكر فتشكر، فما زال درس القرآن يُعَدُّ من الدروس الفرعيّة والثانوية!.. وما زالت الحوزات تفتقرُ إلى دروس القرآن الكريم، وإذا أرادت إحدى الحوزات أن "تزاحم" نفسها وطلابها، وتتكلّف "ما لا طاقة لها به"! فإنّها تخصصُ درساً واحداً يتيماً في الأسبوع، ويكون هذا الدرس لطلبة المرحلة الأولى ويكون في آخر ساعةٍ من الدوام الرسمي، بعد أن يشبع الطلاب من دروس النحو والصرف والمنطق ويأتون إلى الدرس ـ بعد سبح طويل ـ وقد اخذَ منهم الإرهاق مأخذه.
    ولهذا فإني لم أجعل من ضمن أسباب "الهجر القرآني" التآمر الصليبي الصهيوني من أجلِ إبعاد القرآن ودوره في المجتمع، هؤلاء المستعمرون الذينَ وصلوا إلى قناعةٍ تامةٍ مفادها أن القرآن ما دامَ فاعلاً في المسلمين فلا يمكن استعمارهم، ولا يمكن استغفالهم، ولا يمكن استضعافهم ونهب خيراتهم وثرواتهم، هذا القرآن الذي يصدحُ بالأمر الرباني (واعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون بهِ عدوّ الله وعدوكم) وينشدُ نشيد (ولن يجعل الله للكافرينَ على المؤمنين سبيلاً).
    نعم.. لم أجعل الاستعمار أحد أسباب الهجر القرآني، رغم كونه كذلك، وذلك لأنني أردتُ أن أركزَ على القابليّة للاستعمار التي جعلتنا نبتعدُ بطوع إرادتنا عن كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
    والذي (جَعَلَهُ الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء).
    وهذا رسولُ الله يصرخ فينا: (القرآن مأدبة الله. فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم).
    وأخيراً ندعو كما كانَ يدعو علي (ع)، كلّما ختم القرآن:
    "اللهمَّ اشرح بالقرآن صدري، واستعمل بالقرآن بدني، ونوّر بالقرآن بصري، وأطلق بالقرآن لساني، وأعني عليه ما أعنتني".
    والحمدُ لله ربّ العالمين

    الهوامش:
    [1] الإمام الخميني ـ الآداب المعنوية للصلاة.
    [2] الشهيد حسن البنا ـ رسالتان في التفسير وسورة الفاتحة.
    [3] الشهيد سيد قطب ـ التصوير الفني في القرآن ـ ص 5ـ6.
    [4] الإمام الخميني ـ الآداب المعنوية للصلاة.
    [5] الطباطبائي، القرآن في الإسلام: ص83-84 .
    [6] الشهيد الصدر، المدرسة القرآنية، المحاضرتان الأولى والثانية.
يعمل...
X