غصن ندي من تلك الشجرة المباركة الطيبة.. التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
فرع طيب من أصل طيب.. طابوا وطهروا من كل دنس ورجس وعيب - وحاشاهم العيب - فهم أصل الطيب في هذا الوجود الرحيب..
فرع رسالي من فروع المحمدية الخاتمة.. والتي شاءت الأقدار أن يكونوا اثني عشر فرعاً مباركاً.. بتقدير وتعيين من خلق الأكوان، مغير الألوان مبدل الأحوال، الله ذي الجلال.
لأن الإمامة واجب من الرسالة.. باعتبار أن هذه الوصية واجبة عقلاً ونقلاً وذلك لأن فيها المصلحة كل المصلحة.. وتركها يعني المفسدة كل المفسدة للدين والدنيا..
في ذلك البيت الذي ملؤه العزة والإباء.. والشوق للأبناء.. في بيت
بن موسى الرضا (
) الذي انتظر هذا المولود المبارك طوال خمس وخمسين سنة من عمره الشريف، كانت ولادة هذا النجم اللامع.. إمام الشباب.. في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) المنورة عاصمة الإسلام الأولى.. برق نور محياه الساطع..


وكانت ولادته (
) في يوم الجمعة العاشر من شهر أمير المؤمنين (
) رجب المرجب من العام 195هـ. فتلقى
(
) وليده المبارك وهو يعلم ما شأنه ومكانته عند الله.. وعنده، فهو الخليفة والوصي وإمام الأمة من بعده.




فتلقاه بيديه المباركتين فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وأعاذه بالمعوذتين من الشيطان اللعين الرجيم.. وعظمه بالصمدية الشريفة.. وراح ينظر إليه بحب وودّ وأخلاق الأنبياء.. وكأنه يقرأ الغيب ويقول: ماذا سيحل بك يا بني؟! وما أعظم مهمتك؟!
فقد كان الإمام محمد الجواد (
) نحيل الجسم، قوي العصب.. وأثر الوراثة من أمه (خيزران) التي هي من أهل وادي النيل (بمصر) واضح عليه.. لأنه كان أسمر شديد السمرة.. آدم. إلا أنه (
) كان طلق المحيا.. باسم الثغر، نور النبوة والولاية يلمع بين عينيه، وسيماء الرسالة تنبئ عنه أنه من أولاد الأنبياء..


فما من أحد رآه إلا أجله وعظمه، كائناً من كان، لأن هيبته من الله عز وجل وليس من موقع سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك.. فإن العزيز من اعتز بالله فأعزه الله والجليل من كان جلاله من ذي الجلال والإكرام والفضل والأنعام تبارك الله.
وهكذا راح ينمو الإمام محمد الجواد (
) وتحوطه رعايتان.

رعاية ربانية وفيوض رحمانية. لأن الله سيوكل إليه دوراً عما قريباً وما زال حدث السن طري الزند.. وأي دور أعظم من قيادة الأمة الإسلامية كلها إلى النور فيكون إماماً مفترض الطاعة.
ورعاية بشرية إمامية أبوية. وهي رعاية الوالد العظيم
بن موسى الرضا (
) وأكرم به وأنعم. من أب ومعلم لهذا الفتى المبارك.


وفي ظل تلك الرعاية المكثفة درج
(
) فملائكة الرحمن تحفظه من كل سوء وترعاه من كل نائبة. وأبوه
(
) يعلمه كل فضيلة، ويلقنه كل علم يحتاجه. أو تحتاجه الأمة الإسلامية. ويؤدبه بآداب جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه. وذلك لأنه من الأئمة المعصومين (عليهم السلام).




وقد كان بعض ضعاف الإيمان طعنوا بإمامة
(
) لأنه لم يُرزق بولد حتى سن متأخرة من عمره الشريف المبارك، فكانوا يقولون: كيف يكون علي بن موسى إماماً ولم يعقب، وقد روينا أن عدة الأئمة اثنا عشر، وهذا هو الثامن منهم فأين من سيحمل الإمامة من بعده؟! ومن هنا نشأت فرقة (الواقفة) التي وقفت على إمامة
(
) ولم تؤمن بإمامة وصيه الرضا (صلوات الله عليه).




والواقع أن ذلك كان اختباراً إلهياً للناس، حتى يميز الله تعالى المؤمن من المنافق. لقد كان
(
) يؤكد أنه سيرزق بولد اسمه محمد وأن الله تعالى سيقرّ عينه به وإن طال الزمان، إلا أن المرتابين لم يصدقوا. وسرعان ما حبطت أعمالهم بعدما ولد هذا القمر المنير في حضرة أبيه وكان قد تجاوز عمره خمسين سنة. فبهت الذين كفروا!


وولد
(
) - وهو إمام الشباب لأنه تسنم مقاليد الإمامة وهو في الثامنة من عمره الشريف - في مرحلة غاية في التوتر والحساسية والقلق من حيث الزمان ومن حيث المكان ومن حيث الشرائط.


ففي بداية حياته الشريفة كان القتال العائلي
ي حيث قتل عبد الله المأمون أخاه الأمين واستولى على السلطة والحكم في الدولة الإسلامية. وأريقت دماء، وكانت بلابل ومشاكل كادت أن تطيح بالدولة
ية من أساسها. وبذلك نقلت عاصمة الدولة إلى خارج المنطقة العربية. ولأول مرة بحيث نقلت من بغداد إلى (مرو) في بلاد خراسان - إيران حالياً - إلا أنها أعيدت إلى بغداد بعد استقرار الحكم للمأمون
ي.



فبعد العاصفة لابد من الهدوء النسبي. وبعد القتال لابد من لملمة الجراح ودفن القتلى. والذي يقتل أخاه من أجل الحكم فإنه على استعداد على أن لا يبقي ولا يذر فالملك عقيم كما زعموا.
والقتال بين الأقارب صعب، وبين الأخوة مستعصب. لأن الجراح تكون في النفس والقلب بين القاتل والمقتول. وقيل إن هذا ما سبب نقمة العائلة
ية على عبد الله المأمون، حيث قتل أخاه الأمين وقطع رأسه وعلقه على باب القصر وأمر المارين بالتفل عليه وشتمه بقوله: (لعنك الله ووالديك) فقال المأمون: كفانا ذلك، أنزلوه.

وكأنه استفاق من غفلته بهذه اللعنة وتذكر أن هذا المعلق هو أخوه.
ومنهم من أرجع سبب تقريب
الرضا والإمام محمد الجواد (عليهما السلام) وهما عمدة البيت العلوي من قبل المأمون
ي هو نكاية ب
يين.



فقالوا إنه راح يقرب العلويين ليكونوا له عوناً وسنداً ويداً عوضاً من أولئك الخونة - بنظره - لأنهم وقفوا إلى جانب الأمين قبل ذلك.
إلا أنه عند التحقيق لم يكن كذلك فإن المأمون
ي كان ذكياً ومثقفاً بالنسبة إلى سائر
يين وكان أعلمهم بالأمور وبكيفية السيطرة على الحكم، وقد عرف أن الناس قد استاءوا من سلطان
يين ومن كثرة ظلمهم ومالوا إلى بني علي (عليهم السلام) وعرفوا بعض منزلتهم، فأراد المأمون أن يمتص هذه الظاهرة لصالحه فاستدعى الإمام (
) حتى يكون تحت نظره المباشر، ويصور للناس بأنه محب للإمام (
). ومن هنا رفض الإمام حتى أجبر على القبول، فوضع عبد الله المأمون ولاية العهد في عنق
الرضا (
).







وعندما استتب له الوضع وهدأت النفوس وقوي سلطانه من جديد. احتال على قتل ولي عهده
(
) فدس إليه السم حتى قضى نحبه مسوماً شهيداً غريباً.


ومن أهم ما عمله
(
) أنه لم يعط أي تأييد للحكومة
ية ولا منحها أية شرعية في ذلك، فلم ينصب أحداً ولم يعزل، ولم. ولم.



وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى
(
) أيضاً.


فالمأمون
ي من خبثه ودهائه ومعرفته بمقام الإمام (
) وعظمته وشرفه ومكانته عند الناس، استدعاه من المدينة المنورة إلى عاصمته بغداد ليكون قريباً من الحاكم وتحت نظره المباشر.


إلا أن المأمون
ي شغف - مكراً وخدعاً - ب
(
)، لما رأى من فضله ونبله وعلمه مع صغر سنه. وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساويه فيه أحد من أهل ذلك الزمان. فقربه وزوّجه بابنته المدللة (أم الفضل زينب) وكان له من المعارضة
ية بهذا الشأن قصص، لأنهم ما كانوا يعرفون سوء قصد المأمون في ذلك.




وبقي الإمام محمد الجواد (
) في بغداد مدة غير قليلة. إلا أنه (
) لم يكن يرضيه التنعّم في القصور
ية تاركاً أمور شيعته خاصة. والأمة الإسلامية عامة الدينية والدنيوية وراء ظهره. فإنه (
) ما كان ليقيم في بغداد لولا الضغوط الشديدة عليه. وهذا واضح من رواية أحدهم حين يقول:




دخلت عليه (
) في بغداد ففكرت فيما هو به من نِعَم. وقلت في نفسي: إن هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً. فأطرق رأسه ثم رفعه وقد اصفر لونه فقال:

يا حسين خبز الشعير وملح جريش في حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب إلي مما تراني فيه.
وما أن لاحت الفرصة للإمام الجواد (
) حتى يستأذن عبد الله المأمون بالعودة إلى مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوافقه على ذلك وودعه وداعاً حاراً مع ابنته أم الفضل (زينب).

ومر الإمام (
) بالكوفة وغيرها واستقبل في كل بلدة يمر بها أجمل استقبال. وهكذا إلى أن وصل إلى حرم جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقام فيها عاملاً عالماً، مجاهداً، معززاً، مكرماً.

وتوفي المأمون بشهر رجب سنة 218 للهجرة بقرية طرسوس على الحدود الفاصلة بين الدولة الإسلامية والدولة الرومانية. ودفن هناك بعد أن أوصى إلى أخيه (المعتصم) بتصدي الحكومة، وأخذ المعتصم يوطد حكمه. ويرتب أمور دولته بما يضمن قوتها. وكان الهاجس الوحيد المرعب هو الإمام محمد بن علي (عليهما السلام) فهو الخطر الحقيقي له ولدولته.
فهو صهر الحاكم الراحل. وسيد أهل البيت العلوي. وإمام الشيعة وقد أصبحوا قوة جبارة معلنة الولاء للإمام (
) على رؤوس الأشهاد. إذاً قد يشكل خطراً على المستقبل بل وربما على الحاضر أيضاً.

فأحضره مرة أخرى من المدينة المنورة إلى عاصمته بغداد ليكون تحت أنظار الحاكم
ي مباشرة. ومراقبته الشخصية له ولتحركاته كافة.

وكان ذلك في 28 محرم عام 220هـ وبقي فيها إلى أن دس المعتصم السم إليه فوافاه الأجل الذي لا راد له، شهيداً مسموماً.
وسبب ذلك هو حقد المعتصم
ي تجاه الإمام (
) كما عمل المعتصم بنصيحة قاضي قضاته (ابن أبي داود) حيث نصحه بأن يتخلص من
(
) لأنه أفحمه وأفحم جميع الفقهاء - المثقفين - في قضية سرقة. وحكم القطع، في قصة مفصلة رواها العياشي وغيره.




فأمر المعتصم
ي أحد وزرائه أن يدعو الإمام إلى منزله ويدس إليه السم. وكذلك فعل وبئس ما فعل عليه اللعنة.

ولما أكمل
(
) أحس بالسم يسري في جسده النحيل. فاستدعى راحلته وخرج من المنزل اللعين وهو يقول إشفاقاً عليه:


خروجي من منزلك خير لك.
وانتقل إلى الرفيق الأعلي من تلك الليلة راضياً مرضياً، مسموماً مظلوماً مقتولاً شهيداً. وكان ذلك في تاريخ 5 أو 29 ذي الحجة عام 220 للهجرة، راضياً مرضياً طاهراً مطهراً. وجهز ودفن إلى جوار جده الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) في ضاحية بغداد المسماة بالكاظمية. روحي لها الفداء من أرض ما أطهرها. والسلام على من دفن فيها.
.. إمام حق هذا جزاؤك بعد كل ما قدمت، إنك لم ترُمْ لهم إلا الخير، ولم يبغوا لك إلا الشر، فسقياً لك ورعياً، وتعساً لهم وويلاً.
غدرٌ والله. ومكرٌ والله أن يطعموك السم وأنت في ربيع أيامك ولكن لك في الأولين من آبائك أسوة حسنة. ولهم في الأولين من آبائهم أسوة سيئة.. فعليك السلام. وعليهم اللعنة والعذاب.
منقول