" دور الحمل في الوقاية من السرطان"
الدكتور حسن يوسف حطيط *
لطالما تساءل الإنسان, منذ القدم, عن السر الكامن وراء عملية الحمل و الحكمة من أطوارها المتعددة و مراحلها المختلفة و المصحوبة بالتغيرات الجسدية و النفسية المتنوعة و الصعوبات و الإشكالات المحتملة والآثار الناتجة عنها. و لقد ظل الإنسان يبحث عن الأسباب و الظواهر والكيفية التي تجري بها هذه العملية و الأشكال المتبعة في فسيولوجيتها المعقدة, حيث تتفاعل و تتداخل معظم أجهزة الجسم و وظائفها المتعددة, بأساليب بالغة الدقة و التناسق و الإنسجام و أنماط متناهية الإبداع و الإعجاز, لتحقق الهدف المنشود و الأخير: ألولادة الطبيعية بالصورة السليمة و على الوجه الصحيح و في الطريق الأمثل.
و انسجاما مع البحث الدؤوب من قبل الأوساط العلمية و الطبية لإكتشاف المعالم المتشابكة والآثارالمتعددة للحمل و مراحله و أطواره المختلفة, ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات و أبحاث تناولت موضوع العلاقة بين الحمل و الوقاية من السرطان عند النساء و خاصة سرطان المبيض و سرطان الثدي و سرطان بطانة الرحم و التي تمثل أهم أنواع السرطان الخاصة بالنساء و أعلاها نسبة فيها و أكثرها فتكا. و أظهرت النتائج معلومات دامغة و براهين ساطعة أثارت دهشة الباحثين في هذا المجال حيث تبين و بشكل قاطع أن الحمل و لأسباب مختلفة و بطرق متنوعة, يقي من أخبث أنواع السرطان عند النساء و يساهم بشكل فعال في تقليص خطر الإصابة بها.
ألحمل و الوقاية من السرطان: دراسات و إحصائيات و نتائج مدهشة.
أجمعت الدراسات على أن أهم عوامل الوقاية من أخطر و أكثر أنواع السرطان عند النساء في العالم, و هي سرطان المبيض و سرطان الثدي و سرطان بطانة الرحم, تكمن في بلوغ الأكتمال الفسيولوجي الطبيعي المتمثل في التفاعلات الهرمونية للحمل و التعرض لآثارها الخصبة و نتائجها الإيجابية المتعددة الأوجه و المتشابكة ببعضها البعض. و لقد ثبت مؤخرا أن أحد أهم هذه التفاعلات الطبيعية و أكثرها جلاء هو ازدياد نسبة و كمية إفرازات هرمون "البروجسترون" الذي يساعد و بشكل فعال على تقليص الإصابة بسرطان المبيض و الثدي و بطانة الرحم عبر أساليب و طرق مختلفة أهمها "تقض" و "إلغاء" مفاعيل إزدياد و تراكم إفرازات هرمون "الإستروجين"الذي يلقي بظله المريب خلف معظم أنواع السرطان عند النساء و العديد من الأمراض و الإشكالات المتنوعة. كما أظهرت الدراسات شروطا و ظروفا و سنن محتملة لإكتمال هذه العملية و بلوغ هدفها المنشود أهمها على الإطلاق عدم تأخير الحمل إلى سن متأخرة و عدم التعرض, خلال الحمل, لمسببات السرطان عند النساء كالتدخين و الكحول و الإفراط الغذائي و التي يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عكسية مأساوية تصيب المرأة الحامل و جنينها على السواء. و في هذا الصدد, برهنت الأبحاث و الإحصائيات الأخيرة أن المرأة الحامل التي تتعرض لتأثيرات التدخين و الكحول و الإفراط الغذائي(بالأطعمة المشبعة بالدهون) تعرض جنينها الأنثى, بالأخص, للإصابة, مستقبلا, بسرطان الثدي, بشكل شبه مؤكد و محدد.
ألحمل و الوقاية من سرطان المبيض..... علاقة مباشرة و تصاعدية:
يعتبر سرطان المبيض, حاليا, أكثر أنواع السرطان عند النساء خبثا و أقلها إحتمالا للشفاء و بالتالي أصعبها علاجا, و يكمن ذلك في عدم ظهور أعراض المرض إلا بعد تمكن الورم من السيطرة على المنطقة المصابة و "اجتياح" المناطق المحيطة و من ثم "الزحف" السريع إلى مناطق أبعد فأبعد, حتى يستحيل التمكن من إستئصاله و الإحاطة به للقضاء عليه.
يصيب هذا النوع من السرطان النساء في أعمار متقدمة, و على الأخص, النساء اللواتي تجاوزن سن اليأس و لم يولد لهن ولد أو لم يرضعن في حياتهن لمدة سنة أو أكثر. و لهذا يتكاثر هذا النوع بالتحديد و بشكل جلي في المجتمعات الغربية حيث تزداد بشكل مطرد نسب العانسات أو الممتنعات عن الحمل الطبيعي(والتي ستزداد أعدادهن خاصة بعد ظهور بدعة الأرحام المستأجرة و ظاهرة أطفال الأنابيب و صرعة المستقبل الداهمة المعروفة بأطفال الإستنساخ) أو اللواتي يتأخر زواجهن أو حملهن إلى أعمار متقدمة.
أما المذهل في هذه العلاقة المباشرة بين الحمل و الوقاية من سرطان المبيض فهو وجود ترابط تصاعدي إضافي حيث أن نسبة حدوث هذا الورم الخبيث تتدنى و تتقلص مع كل حمل إضافي يحدث بعد الحمل الأول.
فالنساء اللواتي يلدن ولدا واحدا تتناقص نسبة الإصابة بينهن 45% ثم تتدنى النسبة مع كل ولد إضافي بمقدار 15%.
ألحمل والوقاية من سرطان الثدي.....علاقة مباشرة, و لكن بشروط !:
يعتبر سرطان الثدي, و على نطاق واسع, أكثر الأورام الخبيثة نسبة و تكاثرا و فتكا عند النساء بشكل عام, فهو صاحب المركز الأول في سلم الأورام الخبيثة في أهم مناطق العالم و أكثرها تقدما كالولابات المتحدة الأميركية و شمال أوروبا.
تتميز العلاقة بين الحمل و سرطان الثدي بوجود مستويات وشروط عدة أهمها:
1- تدني الإصابة بالورم الخبيث, إذا كان الحمل في سن غير متأخرة(ما قبل الثلاثين).
2- تناقص نسبة الإصابة مع كل حمل جديد.
3- هبوط نسبة الإصابة إلى أدنى المستويات في مجموعات النساء اللواتي يحملن قبل سن الثلاثين و ينجبن عدة أولاد.
4- ألحمل المبكر يكسب النسيج الثديي مناعة قوية ضد تشكل الأورام و يمنحه "نضجا" خلويا دائما يحفظه على مر السنين من الإصابة بالسرطان, بشرط أن لا يكون هنالك عوامل وراثية مصاحبة أو تغيرات جينية طارئة.
5- ألمرأة الحامل التي تسيء إلى حملها بتناول الكحول أو بالتدخين أو بالإفراط الغذائي(ذي الأطعمة المشبعة بالدهون) تزيد من إحتمال إصابة جنينها الأنثى بسرطان الثدي في المستقبل.
6- يتميز الحمل الطبيعي بظهور إفراز متزايد لهرمون "الإستريول"الذي يتكون في الجنين و ينتقل إلى الحامل ليسبب فيما يسبب وقاية مذهلة من نشوء تغيرات سرطانية في خلايا نسيجها الثديي.
7- تحمي الرضاعة الطبيعية الثدي من خطر السرطان و خاصة إذا كانت المدة أكثر من ستة أشهر و حتى لو كان هناك عامل وراثي قوي في العائلة.
ألحمل و الوقاية من سرطان بطانة الرحم.......علاقة قوية و مترابطة إلى أقصى حد:
يطلق في الغرب على هذا النوع من السرطان النسائي لقب "سرطان الراهبات" لتكاثره في مجموعات النسوة اللواتي يمتنعن عن الزواج لسبب أو لآخر, بالمقارنة مع سرطان عنق الرحم الذي يطلق عليه لقب "سرطان بائعات الهوى" لإصابته النساء" المتعددات الشركاء" و اللواتي يتعرضن للإلتهابات الفيروسية المتناقلة جنسيا.
يصيب هذا النوع من السرطان النساء المتقدمات في السن و اللواتي لم يتزوجن أو لم يلدن أو تعرضن لعوامل إضافية أخرى كالسمنة المفرطة أو داء السكري أو تناول هرمون الإستروجين(من دون الهرمون "المعاكس" أو المضاد: البروجسترون).
ألحمل: معجزة الخلق و منحة الخالق
أجرى الله تعالى الأمور بأسبابها و أخضع الأشياء لقوانين و سنن و شرائع و مبادىء و جعل حكمته و لطفه و رحمته فيها لتظهر في مكنوناتها و نتائجها و آثارها فيهتدي المهتدون و يعتبر أولو الألباب و العالمون. و كان الحمل كغيره من الظواهر الخلقية الفطرية الأصيلة, أحد مصاديق هذه الحكمة الربانية المتناهية اللطف و الإعجاز و أحد براهين الرحمة الإلهية المستديمة و التي تنطق بمكنوناتها و أسرارها كلما تقدم علم ما أو ظهر أثر ما أو استجد حدث ما. و لطالما تساءل الإنسان عن سر الحمل و ماهية أسبابه و الحكمة من زمنه المحدد و كيفيته المحددة و نمطيته المحددة, و لطالما فكر و تفكر في إيجاد بدائل محتملة و أساليب مغايرة تسهل له التوالد و التكاثر على ذوقه و كيفم يحب و عندما يحب بعيدا عما يعتقده هو من تعب و ألم و مشقة, متغافلا عما أودعه الخالق في كل شيء خلقه من منح و هبات و هدايا تنفتح نعما دائمة لتخلص الإنسان من أخطار ظاهرة و باطنة و مصاعب معروفة و غير معروفة, حسب تقدم الإدراك الإنساني و تطور فهمه لأسرار الأشياء و الظواهر على مر العصور و الأزمنة.
* إستشاري أمراض الأنسجة و الخلايا و رئيس شعبة في هيئة الصحة, حكومة دبي.