حاولت المطاردات السياسية ايقاف المسيرة الادبية الكربلائية فكان الشاعر مأخوذا بجريرة المدح والثناء لآل البيت عليهم السلام مما دعا الكميت الاسدي إلى ان يشير في هاشمياته الى تلك المحنة فيقول:
فيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها
ويا حاطبا في غير حبلِك تحطب
الم ترني من حب آل محمدٍ
أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأنيَ جانٍ محدث وكأنما
بهم اتقي من خشية العار أجرب
على أي جرم أم بأية سيرةٍ
اُعنَف في تقريظهم واؤنَب[3]
ومع هذا استطاع الأدب الشيعي ان ينقد قويا في حلبة الإبداع ويقرر الجولة الصالحة خصوصا في العصور الحلية الأدبية، واقصد بذلك فترات الشعراء الحليين الذين كانت لديهم الظاهرة الأدبية الحسينية واضحة المعالم حتى لا يكاد شاعرٌ حلي يتخطى الرثاء الحسيني ليكون شاعرا له شهرته الأدبية ومدرسته المتميزة، وإذا أردنا ان نستعرض بعض ما قاله الحليون فإننا لا نتجاوز إبداعية السيد حيدر الحلي ذلك الناعي الذي تضخمت على جنبات قصائده الإبداعات الأدبية حتى غدت لكل بيتٍ من قصائده مدرسة مستقلة تحكي ابداعا غير مسبوق، وتعبيرنا بالتضخم لا نعني سوى الظاهرة الأدبية الفخمة التي لا يطالها احد من الأدباء ولا ينال غايتها كثير من الشعراء.
فمن روائع السيد حيدر الحلي:
عثر الدهرُ ويرجو ان يُقالا
تربت كفك من راجٍ مُحالا
أيُ عذرٍ لك في عاصفةٍ
نسفت من لك قد كانوا الجبالا
فتراجع وتنصل ندماً
او تخادع واطلبِ المكر احتيالا
أنزوعا بعدما جئتَ بها
تنزع الأكباد بالوجد اشتعالا
فرِغ الكفَ ولا ادري لمن
في جفير الغدرِ تستبقي النبالا
نلتَ ما نلتَ فدع كل الورى
عنك أو فاذهب بمن شئت احتمالا
ازلالُ العفو تبغي وعلى
آل حوض الله حرمت الزلالا
لا أقالتني المقادير اذا
كنتُ ممن لك يا دهرُ اقالا[4]
واذا اراد ان يصف حال النساء عند هجوم القوم عليهن فانه يبتكر صوراً تعز على اعتى خيال شعري ان يتصورها:
وحائراتٍ أطار القوم أعينها
رعبا غداة عليها خدرها هجموا
كانت بحيث عليها قومها ضربت
سرادقاً أرضه من عزهم حرمُ
يكاد من هيبةٍ ان لا تطوف به
حتى الملائك لولا انهم خدمُ
فغودرت بين أيدي القوم حاسرةً
تسبى وليس لها من فيه تعتصم[5]
ولم أجد فيما اطلعت عليه أحداً تتداعى لديه الصور الكربلائية كما تداعت للسيد حيدر الحلي، فهو يستحضر المشاهد، وتتوالى لديه الاحداث سراعا، وكأن صورةً تتبع اخرى في مسلسلٍ لا ينقطع عن الانهماك في تقديم موقف حي يتجلى فيه المشهد العاشورائي بأشخاصه، وقرع طبول الموت ترنُ في اسماع المتلقي حتى لا ينفك من مشهد مرعب يأخذ بالألباب، أو صهيل الكماة في معترك الابطال، أو قعقعة السيوف تطيح باختطافها جماجم صرعى على صهوات سوابق مهزومة تتسابق مع رؤوس أصحابها فتتداعى على ارض المعركة:
كفاني ضنى ان ترى بالحسيـن
شفت آلُ مروان اضغانها
فأغضبت الله في قتلهِ
وأرضت بذلك شيطانها
عشية أنهضها بغيها
فجاءته تركب طغيانها
بجمع من الأرض سد الفرو
ج وغطى النجود وغيطانها
وطا الوحش إذ لم يجد مهرباً
ولازمت الطير اوكانها
وحفت بمن حيثُ يلقى الجموع
يثني بماضيه وحدانها
وسامته يركب إحدى اثنتيـن
وقد صرّتِ الحرب أسنانها
فإما يُرى مذعنا أو تمو
ت نفسٌ أبى العز إذعانها
فقال لها اعتصمي بالابا
فنفس الأبي وما زانها
إذا لم تجد غير لبس الهوان
فبالموت تخلع جثمانها
رأى القتل صبرا شعار الكرام
وفخراً يزينُ له شانها
فشمر للحرب في معركٍ
به عرك الموت فرسانها
فأضرمها لعنان السما
ء حمراء تلفح أعنانها
ركينٌ وللأرض تحت الكما
ة رجيفٌ يزلزلُ ثهلانها
اقر على الأرض من ظهرها
إذا ململ الرعبُ اقرانها
تزيد الطلاقةُ في وجهه
إذا غير الخوفُ ألوانها
ولما قضى للعلا حقها
وشيد بالسيف بنيانها
ترجل للموت عن سابق
له أخلت الخيلُ ميدانها
كأن المنية كانت لديـه
فتاةٌ تواصل خلصانها
جلتها له البيضُ في موقفٍ
به أثكل السمر خرصانها
فبات بها تحت ليل الكفاح
طروب النقيبة جذلانها
وأصبح مشتجراً للرماح
تحلي الدما منه مرانها
عفيراً متى عاينته الكماة
يختطف الرعب ألوانها
فما أجلت الحرب عن مثلهِ
صريعاً يجبن شجعانها
غريبا أرى يا غريب الطفوف
توسدَ خديك كثبانها
ألست زعيم بني هاشم
ومطعام فهرٍ ومطعانها؟![6]
فالبيت الواحد هنا خزينٌ من المعاني تتداعى فيه الصور ليوثق به الحادثة، فهو لا ينفك عن توارد المشاهد الحية تباعاً، ويحاول الشاعر أن يقدم صوراً متحركة تأخذ بعين المتلقي الذي ينشد لهذا المشهد أو ذاك فيعايش المعركة بجزئياتها، حتى لكأن قعقعة السيوف واصطكاك الرماح وصهيل الخيول تدوي في أسماع المتلقي ليعيش المعركة بملاحمها العسيرة ومواقفها الصعبة المريرة. وما أروعه حيث يصف الدهر بأنه تعثر فاخذ يرتطم بأعمدة الخير! لأنه أعمى لا يميز بين هذا وذاك.
مشى الدهر يوم الطف اعمى فلم يدع
عمادا لها إلا وفيه تعثرا
ولا نريد ان نستعرض قصائد السيد حيدر الحلي بقدر ما أردنا ان نقدم نموذجاً ابداعياً عن الظاهرة الأدبية الحسينية، ولم أكن مبالغاً إذا قلت: ما من شعرٍ حسيني إلا وفيه إبداع يتجدد ومهارات فنية تستدعي كفاءة النظم وحماية التصوير.
وتتفاقم الظاهرة الأدبية لتحيل الفقهاء شعراء يحيون الواقعة الحسينية باشعارهم، ويتسابقون إلى نظم قصائدهم، ولا ادري ما الذي دعا العلماء ان يشاركوا الشعراء في مرثياتهم، ولعل الملكة الشعرية التي تنامت لديهم كانت دوافعها واقعة كربلاء، إذ تحريك الملكة وتنميتها وليد مشاعر حزينة تأخذ بالنفس إلى غايات الإبداع، ودواعي الهمة، وعزيمة المنافسة، حتى أحيلت كربلاء إلى مدرسة إبداع، فالعلامة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء يشارك في رثاء الإمام الحسين برائعةٍ أدبية يضمنها نكات علمية تعطي لملحمته الأدبية بعداً آخر.
عدلت بآل محمد فيما قضت
وهمُ أئمة عدلها وقضاتها
المرشدون المرفدون فكم هدىًً
وندىً تميح صلاتها وصلاتها
والمنعمون المطعمون اذا انبرت
نكباء صوحت الثرى نكباتها
والجامعون شتات غير مناقبٍ
لم تجتمع بسواهم أشتاتها
يا غاية تقف العقول كليلة
عنها وان ذهبت بها غاياتها
يا جذوة القدس التي ما أشرقت
شهب السما لو لم تكن لمعاتها
يا قبة الشرف التي لو في الثرى
نصبت سمت هام السما شرفاتها
يا كعبة الله التي ان حجت لها
الأملاك منه فعرشه ميقاتها
يا نقطة الباء التي باءت لها
الكلمات وائتلفت بها ألفاتها
يا وحدة الحق التي ما ان لها
السبع الطباق تحركت سكناتها
يا وجهة الاحدية العليا التي
بالاحمدية تستنير جهاتها
يا عاقلي العشر العقول ومن لها
السبع الطباق تحركت سكناتها
ثم يعرج على كربلاء بقوله:
ضربوا الخيام بكربلا وعليهم
قد خيمت ببلائها كرباتها
إلى ان يقول:
وبدت علوج أمية فتعرضت
للأسد في يوم الهياج شياتها
إلى آخر ملحمته التي بلغت أكثر من مئة وستين بيتا.
وملحمته الأخرى التي مطلعها:
أقوت فهن من الأنيس خلاء
دمنٌ محت آياتها الأنواء
والتي بلغت أكثر من ثمانين بيتا.
وقصيدته الثالثة التي مطلعها:
خذوا الماء من عيني والنار من قلبي
ولا تحملوا للبرق منا ولا السحب
والتي بلغت أكثر من أربعين بيتا.
أما قصيدته الرابعة فمطلعها:
في القلب حر جوى ذاكٍ توهجه
الدمع يطفيه والذكرى تؤججه
وقد بلغت أكثر من أربعين بيتا كذلك.
ولم تقتصر إبداعاته الملحمية في الحسين عليه السلام على هذه الأربع العظام بل تعدتها إلى أكثر من ذلك إلا اننا وقفنا عليها كما اختارها السيد المقرم (رضي الله عنه) في مقتله.
وللعلامة المحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني قصائد ملحمية يتعرض فيها الى مأساة كربلاء وقد جاء في بعضها:
لك الهنا ياسيد الكونين
فغاية الآمال في الحسين
لك الهنا يا صاحب الولاية
لنعمة ليس لها نهاية
الى ان يقول:
قام بحق السيف بل اعطاه
ما ليس يعطي مثله سواه
كأن منتضاه محتوم القضا
بل القضا في حد ذاك المقتضى
الى ان يقول:
هو الذبيح في منى الطفوف
لكنه ضريبة السيوف
الى آخر ملحمته التي بلغت المئات.
وللعلامة الحجة الشيخ محمد جواد البلاغي ملاحم مطلعها:
يا تريب الخد في رمضا الطفوف
ليتني دونك نهباً للسيوف
والقصيدة من روائع هذا الفيلسوف والمفسر الذي ملأ الدنيا بتحقيقاته.
وللعلامة الحجة الشيخ محمد حسين الحلي رائعته التي مطلعها:
خليلي هل من وقفة لكما معي
على جدثٍ اسقيه صيب ادمعي
ليروي الثرى منه بفيض مدامعي
فان الحيا الوكاف لم يك مقنعي
لان الحيا يهمي ويقلع تارة
واني لعظم الخطب ما جف مدمعي
خليليَّ هيا فالرقاد محرمٌ
على كل ذي قلبٍ من الوجد موجع
هلما معي نعقر هناك قلوبنا
إذا الوجد ابقانا ولم تتقطَّعِ
هلما نقم بالغاضرية مأتما
لخير كريم بالسيوف موزع
إلى آخر القصيدة.
وللعلامة الشيخ محمد تقي الجواهري هائيته العصماء مطلعها:
دعاني فوجدي لا يسليه لائمه
ولكن عسى يشفيه بالدمع ساجمه
الى أن يقول:
فان يك إسماعيل اسلم نفسه
إلى الذبح في حجر الذي هو راحمه
فعاذ ذبيح الله حقا ولم يكن
تصافحه بيض الظبا وتسالمه
فان -حسينا -اسلم النفس صابرا
على الذبح في سيف الذي هو ظالمه
وهذا غيضٌ من فيض شعراء فقهاء قدموا أطروحاتهم الأدبية لتبقى مخلدةً في ذاكرة الدهر.
لقد كانت "الظاهرة الأدبية الحسينية" فتحا للإبداع الشعري وتسامت القصيدة العربية الى أرقى إبداعاتها حتى أكاد اجزم ان الإبداع الشعري ترعرع في واقعة الطف من يوم عاشوراء، ويبقى الإبداع الأدبي ينتسب إلى القصيدة الحسينية وان لم تنتمِ فكرا وعقيدة إلا أنها انتمت إبداعا، وانتسبت وجداناً، وتقلدت الحزن، وتسربلت زهو الفاتحين.
الهوامش:------------------------------------------------------فيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها
ويا حاطبا في غير حبلِك تحطب
الم ترني من حب آل محمدٍ
أروح وأغدو خائفاً أترقب
كأنيَ جانٍ محدث وكأنما
بهم اتقي من خشية العار أجرب
على أي جرم أم بأية سيرةٍ
اُعنَف في تقريظهم واؤنَب[3]
ومع هذا استطاع الأدب الشيعي ان ينقد قويا في حلبة الإبداع ويقرر الجولة الصالحة خصوصا في العصور الحلية الأدبية، واقصد بذلك فترات الشعراء الحليين الذين كانت لديهم الظاهرة الأدبية الحسينية واضحة المعالم حتى لا يكاد شاعرٌ حلي يتخطى الرثاء الحسيني ليكون شاعرا له شهرته الأدبية ومدرسته المتميزة، وإذا أردنا ان نستعرض بعض ما قاله الحليون فإننا لا نتجاوز إبداعية السيد حيدر الحلي ذلك الناعي الذي تضخمت على جنبات قصائده الإبداعات الأدبية حتى غدت لكل بيتٍ من قصائده مدرسة مستقلة تحكي ابداعا غير مسبوق، وتعبيرنا بالتضخم لا نعني سوى الظاهرة الأدبية الفخمة التي لا يطالها احد من الأدباء ولا ينال غايتها كثير من الشعراء.
فمن روائع السيد حيدر الحلي:
عثر الدهرُ ويرجو ان يُقالا
تربت كفك من راجٍ مُحالا
أيُ عذرٍ لك في عاصفةٍ
نسفت من لك قد كانوا الجبالا
فتراجع وتنصل ندماً
او تخادع واطلبِ المكر احتيالا
أنزوعا بعدما جئتَ بها
تنزع الأكباد بالوجد اشتعالا
فرِغ الكفَ ولا ادري لمن
في جفير الغدرِ تستبقي النبالا
نلتَ ما نلتَ فدع كل الورى
عنك أو فاذهب بمن شئت احتمالا
ازلالُ العفو تبغي وعلى
آل حوض الله حرمت الزلالا
لا أقالتني المقادير اذا
كنتُ ممن لك يا دهرُ اقالا[4]
واذا اراد ان يصف حال النساء عند هجوم القوم عليهن فانه يبتكر صوراً تعز على اعتى خيال شعري ان يتصورها:
وحائراتٍ أطار القوم أعينها
رعبا غداة عليها خدرها هجموا
كانت بحيث عليها قومها ضربت
سرادقاً أرضه من عزهم حرمُ
يكاد من هيبةٍ ان لا تطوف به
حتى الملائك لولا انهم خدمُ
فغودرت بين أيدي القوم حاسرةً
تسبى وليس لها من فيه تعتصم[5]
ولم أجد فيما اطلعت عليه أحداً تتداعى لديه الصور الكربلائية كما تداعت للسيد حيدر الحلي، فهو يستحضر المشاهد، وتتوالى لديه الاحداث سراعا، وكأن صورةً تتبع اخرى في مسلسلٍ لا ينقطع عن الانهماك في تقديم موقف حي يتجلى فيه المشهد العاشورائي بأشخاصه، وقرع طبول الموت ترنُ في اسماع المتلقي حتى لا ينفك من مشهد مرعب يأخذ بالألباب، أو صهيل الكماة في معترك الابطال، أو قعقعة السيوف تطيح باختطافها جماجم صرعى على صهوات سوابق مهزومة تتسابق مع رؤوس أصحابها فتتداعى على ارض المعركة:
كفاني ضنى ان ترى بالحسيـن
شفت آلُ مروان اضغانها
فأغضبت الله في قتلهِ
وأرضت بذلك شيطانها
عشية أنهضها بغيها
فجاءته تركب طغيانها
بجمع من الأرض سد الفرو
ج وغطى النجود وغيطانها
وطا الوحش إذ لم يجد مهرباً
ولازمت الطير اوكانها
وحفت بمن حيثُ يلقى الجموع
يثني بماضيه وحدانها
وسامته يركب إحدى اثنتيـن
وقد صرّتِ الحرب أسنانها
فإما يُرى مذعنا أو تمو
ت نفسٌ أبى العز إذعانها
فقال لها اعتصمي بالابا
فنفس الأبي وما زانها
إذا لم تجد غير لبس الهوان
فبالموت تخلع جثمانها
رأى القتل صبرا شعار الكرام
وفخراً يزينُ له شانها
فشمر للحرب في معركٍ
به عرك الموت فرسانها
فأضرمها لعنان السما
ء حمراء تلفح أعنانها
ركينٌ وللأرض تحت الكما
ة رجيفٌ يزلزلُ ثهلانها
اقر على الأرض من ظهرها
إذا ململ الرعبُ اقرانها
تزيد الطلاقةُ في وجهه
إذا غير الخوفُ ألوانها
ولما قضى للعلا حقها
وشيد بالسيف بنيانها
ترجل للموت عن سابق
له أخلت الخيلُ ميدانها
كأن المنية كانت لديـه
فتاةٌ تواصل خلصانها
جلتها له البيضُ في موقفٍ
به أثكل السمر خرصانها
فبات بها تحت ليل الكفاح
طروب النقيبة جذلانها
وأصبح مشتجراً للرماح
تحلي الدما منه مرانها
عفيراً متى عاينته الكماة
يختطف الرعب ألوانها
فما أجلت الحرب عن مثلهِ
صريعاً يجبن شجعانها
غريبا أرى يا غريب الطفوف
توسدَ خديك كثبانها
ألست زعيم بني هاشم
ومطعام فهرٍ ومطعانها؟![6]
فالبيت الواحد هنا خزينٌ من المعاني تتداعى فيه الصور ليوثق به الحادثة، فهو لا ينفك عن توارد المشاهد الحية تباعاً، ويحاول الشاعر أن يقدم صوراً متحركة تأخذ بعين المتلقي الذي ينشد لهذا المشهد أو ذاك فيعايش المعركة بجزئياتها، حتى لكأن قعقعة السيوف واصطكاك الرماح وصهيل الخيول تدوي في أسماع المتلقي ليعيش المعركة بملاحمها العسيرة ومواقفها الصعبة المريرة. وما أروعه حيث يصف الدهر بأنه تعثر فاخذ يرتطم بأعمدة الخير! لأنه أعمى لا يميز بين هذا وذاك.
مشى الدهر يوم الطف اعمى فلم يدع
عمادا لها إلا وفيه تعثرا
ولا نريد ان نستعرض قصائد السيد حيدر الحلي بقدر ما أردنا ان نقدم نموذجاً ابداعياً عن الظاهرة الأدبية الحسينية، ولم أكن مبالغاً إذا قلت: ما من شعرٍ حسيني إلا وفيه إبداع يتجدد ومهارات فنية تستدعي كفاءة النظم وحماية التصوير.
وتتفاقم الظاهرة الأدبية لتحيل الفقهاء شعراء يحيون الواقعة الحسينية باشعارهم، ويتسابقون إلى نظم قصائدهم، ولا ادري ما الذي دعا العلماء ان يشاركوا الشعراء في مرثياتهم، ولعل الملكة الشعرية التي تنامت لديهم كانت دوافعها واقعة كربلاء، إذ تحريك الملكة وتنميتها وليد مشاعر حزينة تأخذ بالنفس إلى غايات الإبداع، ودواعي الهمة، وعزيمة المنافسة، حتى أحيلت كربلاء إلى مدرسة إبداع، فالعلامة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء يشارك في رثاء الإمام الحسين برائعةٍ أدبية يضمنها نكات علمية تعطي لملحمته الأدبية بعداً آخر.
عدلت بآل محمد فيما قضت
وهمُ أئمة عدلها وقضاتها
المرشدون المرفدون فكم هدىًً
وندىً تميح صلاتها وصلاتها
والمنعمون المطعمون اذا انبرت
نكباء صوحت الثرى نكباتها
والجامعون شتات غير مناقبٍ
لم تجتمع بسواهم أشتاتها
يا غاية تقف العقول كليلة
عنها وان ذهبت بها غاياتها
يا جذوة القدس التي ما أشرقت
شهب السما لو لم تكن لمعاتها
يا قبة الشرف التي لو في الثرى
نصبت سمت هام السما شرفاتها
يا كعبة الله التي ان حجت لها
الأملاك منه فعرشه ميقاتها
يا نقطة الباء التي باءت لها
الكلمات وائتلفت بها ألفاتها
يا وحدة الحق التي ما ان لها
السبع الطباق تحركت سكناتها
يا وجهة الاحدية العليا التي
بالاحمدية تستنير جهاتها
يا عاقلي العشر العقول ومن لها
السبع الطباق تحركت سكناتها
ثم يعرج على كربلاء بقوله:
ضربوا الخيام بكربلا وعليهم
قد خيمت ببلائها كرباتها
إلى ان يقول:
وبدت علوج أمية فتعرضت
للأسد في يوم الهياج شياتها
إلى آخر ملحمته التي بلغت أكثر من مئة وستين بيتا.
وملحمته الأخرى التي مطلعها:
أقوت فهن من الأنيس خلاء
دمنٌ محت آياتها الأنواء
والتي بلغت أكثر من ثمانين بيتا.
وقصيدته الثالثة التي مطلعها:
خذوا الماء من عيني والنار من قلبي
ولا تحملوا للبرق منا ولا السحب
والتي بلغت أكثر من أربعين بيتا.
أما قصيدته الرابعة فمطلعها:
في القلب حر جوى ذاكٍ توهجه
الدمع يطفيه والذكرى تؤججه
وقد بلغت أكثر من أربعين بيتا كذلك.
ولم تقتصر إبداعاته الملحمية في الحسين عليه السلام على هذه الأربع العظام بل تعدتها إلى أكثر من ذلك إلا اننا وقفنا عليها كما اختارها السيد المقرم (رضي الله عنه) في مقتله.
وللعلامة المحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني قصائد ملحمية يتعرض فيها الى مأساة كربلاء وقد جاء في بعضها:
لك الهنا ياسيد الكونين
فغاية الآمال في الحسين
لك الهنا يا صاحب الولاية
لنعمة ليس لها نهاية
الى ان يقول:
قام بحق السيف بل اعطاه
ما ليس يعطي مثله سواه
كأن منتضاه محتوم القضا
بل القضا في حد ذاك المقتضى
الى ان يقول:
هو الذبيح في منى الطفوف
لكنه ضريبة السيوف
الى آخر ملحمته التي بلغت المئات.
وللعلامة الحجة الشيخ محمد جواد البلاغي ملاحم مطلعها:
يا تريب الخد في رمضا الطفوف
ليتني دونك نهباً للسيوف
والقصيدة من روائع هذا الفيلسوف والمفسر الذي ملأ الدنيا بتحقيقاته.
وللعلامة الحجة الشيخ محمد حسين الحلي رائعته التي مطلعها:
خليلي هل من وقفة لكما معي
على جدثٍ اسقيه صيب ادمعي
ليروي الثرى منه بفيض مدامعي
فان الحيا الوكاف لم يك مقنعي
لان الحيا يهمي ويقلع تارة
واني لعظم الخطب ما جف مدمعي
خليليَّ هيا فالرقاد محرمٌ
على كل ذي قلبٍ من الوجد موجع
هلما معي نعقر هناك قلوبنا
إذا الوجد ابقانا ولم تتقطَّعِ
هلما نقم بالغاضرية مأتما
لخير كريم بالسيوف موزع
إلى آخر القصيدة.
وللعلامة الشيخ محمد تقي الجواهري هائيته العصماء مطلعها:
دعاني فوجدي لا يسليه لائمه
ولكن عسى يشفيه بالدمع ساجمه
الى أن يقول:
فان يك إسماعيل اسلم نفسه
إلى الذبح في حجر الذي هو راحمه
فعاذ ذبيح الله حقا ولم يكن
تصافحه بيض الظبا وتسالمه
فان -حسينا -اسلم النفس صابرا
على الذبح في سيف الذي هو ظالمه
وهذا غيضٌ من فيض شعراء فقهاء قدموا أطروحاتهم الأدبية لتبقى مخلدةً في ذاكرة الدهر.
لقد كانت "الظاهرة الأدبية الحسينية" فتحا للإبداع الشعري وتسامت القصيدة العربية الى أرقى إبداعاتها حتى أكاد اجزم ان الإبداع الشعري ترعرع في واقعة الطف من يوم عاشوراء، ويبقى الإبداع الأدبي ينتسب إلى القصيدة الحسينية وان لم تنتمِ فكرا وعقيدة إلا أنها انتمت إبداعا، وانتسبت وجداناً، وتقلدت الحزن، وتسربلت زهو الفاتحين.
([1]) مقتل الحسين عليه السلام للمقرم:114.
([2]) نفس المصدر.
([3]) النبي وآله في الشعر العربي للدكتور حازم سليمان الحلي: 49.
([4]) النبي واله في الشعر العربي:110.
([5]) مقتل الحسين للمقرم: 316.
([6]) النبي وآله بالشعر العربي:111.
([2]) نفس المصدر.
([3]) النبي وآله في الشعر العربي للدكتور حازم سليمان الحلي: 49.
([4]) النبي واله في الشعر العربي:110.
([5]) مقتل الحسين للمقرم: 316.
([6]) النبي وآله بالشعر العربي:111.
تعليق