بسم الله الرحمن الرحيم
في هذا التأمل العميق من سلسلة “دعاء السحر”، عن البعد الكوني لأسماء الله والأسماء الإلهية: ليست مجرد صفات، بل مفاتيح لفهم الخلق والتشريع، تنبض في كل آية وكل واقعة، وتفتح للإنسان أبوابًا لفهم نظام الوجود عبر مرآة “الاسم الأكبر”.
إليكم نص المقال:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
“اللهم إني أسالك من أسمائك بأكبرها وكل أسمائك كبيرة، اللهم إني أسالك بأسمائك كلها”. كل فقرة من دعاء السحر تدور حول أحد الأسماء الإلهية، ولكن هذه الفقرة تدور حول كليّة أسماء الله تعالى. الفقرات الأخرى تتعلق بالعلم، والقوة، والجمال، والجلال، وغير ذلك، حيث يتوجه العبد إلى الله تعالى ويطلب منه، ولكن هنا الحديث عن كليّة الأسماء.
بالنسبة لكل فقرة من هذا الدعاء الشريف، يجب متابعة ثلاثة أمور: الأول يتعلق بالاسم أو الأسماء التي تركز عليها تلك الفقرة، مثل الجمال، والجلال، والرحمة، والعلم أو القدرة.
الثاني يتعلق بالمراتب المختلفة لهذا الاسم أو الصفة مثل أكمل، وأكرم، وأعظم وأكبر.
أما الثالث فيتعلق بمعنى الطلب الذي يقدمه الإنسان من ذلك الاسم أو الصفة أو من تلك الكمالات. في هذه الفقرة يتم التطرق بشكل موجز لهذه النقاط الثلاث.
ما هو الاسم؟
الموضوع الأول: “الاسم” في اللغة يعني العلامة، ولكن عندما نتحدث عن الأسماء الإلهية أو عن اسم معين في هذه المعارف، فإن المقصود هو الذات الإلهية مع صفة معينة من صفاته الإلهية. على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى الذات الإلهية من خلال صفة الحياة، فحينئذ يكون لدينا اسم “الحَيّ”، أو إذا نظرنا إليها من خلال صفة العلم، فإن الاسم سيكون “العالم”، أو إذا نظرنا إليها من خلال صفة القدرة، سيكون الاسم “القادر”، وهكذا مع الأسماء الأخرى.
إذًا، كل اسم يدل على الذات الإلهية مع صفة معينة من صفاته تعالى. هذا هو تعريف الاسم الذي قدمه كبار العلماء، ومن بينهم في شرح دعاء السحر، نجد هذا التفسير حيث قال الإمام(رحمه الله):
“فاعلم أن الاسم عبارة عن الذات مع صفة معينة من صفاته وتجلي من تجلياته”.
طريقة الوصول إلى الأسماء الإلهية
النقطة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار هنا هي أن الله تعالى يمتلك صفات الكمال، وبالتالي فهو يمتلك الأسماء الحسنى، ولكن من أين يمكننا فهم هذه الصفات والأسماء، وبأي برهان يمكننا إثباتها؟
قد يكون أبسط الطرق للوصول إلى الأسماء الإلهية – التي لها جانب فطري بالكامل – هو أننا نرى هذه الكمالات والصفات في الكائنات في نظام الوجود؛ على سبيل المثال، نرى “الحياة” في بعض الكائنات (النباتات والحيوانات)، ومن جهة أخرى نعلم أن جميع هذه الكائنات فقيرة في ذاتها وهي تستمد وجودها وخصائصها من مصدرها.
هاتان المقدمتان كافيتان لكي نفهم أن كل كمال نجده في خصائص الكائنات هو شيء استلمناه من الله، وأن هذا المصدر هو مالك هذا الكمال ويملك هذا الكمال؛ فهو حي لأننا نرى الحياة في الكائنات، وهو عليم لأننا نرى العلم في الكائنات، وهو قادر لأننا نرى القدرة في الكائنات، وهكذا. ومن هنا نتعرف على الأسماء والصفات الإلهية. هذا هو شرح بسيط وفي الوقت نفسه دقيق للسير نحو الأسماء الإلهية.
علاقة الأسماء الإلهية بنظام التكوين والتشريع
النقطة الأخرى هي أن كل ما يحدث في عالم الخلقة – الذي مصدره الذات المقدسة لله – يتم من خلال هذه الأسماء. إذا كان الإنسان يريد أن يصل إلى العلم، فإن اسم “العالم” يعمل ويظهر في هذا الإنسان، فيحصل على العلم. وإذا كان من المقرر أن يتم خلق حياة في كائن، فإن اسم “الحي” يظهر فيه ويمنحه الحياة. إذا كان كائن ما يحصل على رزق (سواء رزق مادي أو رزق معنوي)، فإن اسم “الرازق” هو الذي يفعّل ذلك ويوصل الرزق إلى المرزوق.
تماماً كما أن وجود الكائنات الأصل هو من الله، فإن خصائص وجودها أيضاً تأتي من نفس الأسماء الإلهية. ولذلك، في دراسة وتفكر في آيات القرآن الكريم، يدرك الإنسان بوضوح هذه النقطة: عندما يذكر الله في كل آية واقعة تكوينية أو حكماً تشريعياً، فإنه في نهاية الآية يذكر اسماً أو اثنين من الأسماء الإلهية، بمعنى أن تلك الواقعة تحت هذا الاسم، وأن ذلك الحكم يعتمد على هذا الاسم. كمثال، سأذكر بعض الآيات الكريمة التي تتعلق بالعلاقة بين الأسماء الإلهية والوقائع والأحداث.
عندما يذكر الله تعالى في سورة آل عمران حادثة فرعون واعوانه، يقول: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)، ويكمل الآية قائلاً: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ). إذًا، هذا “الاسم” يظهر كسبب لهذا الحدث، حيث يشير إلى أن الله شديد العقاب، ومن الواضح أن هذا يتناسب مع اسم “شديد العقاب” في سياق المؤاخذة، ولا يتناسب مع اسم “الحي” أو “الرحمن” أو الأسماء الأخرى.
القوة والعزة الإلهية
وفي آية أخرى، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) وفي آية أخرى: (… وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ، ثم يتابع: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). هنا الحديث عن النصر الذي سيتحقق بسبب القوة والعزة الإلهية. أو كما في قوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) فقد قدر الله أن أنبياءه سيغلبون، لماذا؟ (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) لأن الله هو القوي العزيز، ولا بد أن يحدث هذا.
وفي بعض الأحيان يكون الحال مختلفاً، مثلما حدث مع آدم عليه السلام الذي أخطأ ثم تاب إلى الله تعالى، في هذه الحالة لا يكون الاسم المناسب “ذو انتقام” أو “شديد العقاب”، بل الاسم المناسب هو “تواب” و”رحيم”، كما قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) ثم قال: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
كل ما يوجد في القرآن الكريم – سواء كان ما يروي عن التكوين أو ما يروي عن التشريع – يأتي إلى جانبه ومعه الاسم المناسب لله تعالى، الذي يعتبر تحليلاً لتلك الواقعة من حيث الجذور والأسباب.
لذلك، طرح بعض علمائنا مسألة عميقة، حيث قالوا إنه إذا وصل الإنسان إلى مرحلة من الوعي والاحاطة بأسماء الله تعالى، وتمكن من التعرف على تركيب وأواصر الأسماء وفهم مقتضياتها، فبإمكانه حينئذٍ أن يتعرف على كل نظام الخلق وتنظيم الموجودات في الكون، لأن كل حادثة تكون مرتبطة بما تقتضيه أسماء الله تعالى، ومن يعرف تلك الأسماء فإنه سيعرف نتائجها وآثارها.
ويقول العلامة الطباطبائي(ره): إن الواحد منا لو رزق علم الأسماء وعلم الروابط التي بينها وبين الأشياء وما تقتضيه أسماؤه تعالى مفردة ومركبة، علم النظام الكوني.
فتح باب أسماء الله في القرآن الكريم
وباب آخر مناسب للذكر هو باب أسماء الله الذي يفتح في القرآن الكريم، حيث يبدأ الإنسان من بداية القرآن الكريم بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) وينتهي في نهاية القرآن وهو يدخل في مسألة الأسماء، وفي كل الحوادث والوقائع– سواء كانت مسائل تكوينية أو مسائل تشريعية – تم ذكر أسماء الله تعالى، وهذا الباب قد فُتح خصيصاً للنبي الخاتم(ص) في القرآن الكريم، ولمن يؤمن بهذا النبي.
لا نريد أن نقول إن الأنبياء الآخرين لم يكن لهم نصيب من ذلك، بل نريد أن نقول إن ما يوجد من كتب الأديان السابقة الآن – التوراة، الإنجيل، الكتب الأخرى التي تحتوي على الوحي ولها جانب سماوي – لا يتضمن مسألة الأسماء فيها.
فقد توصل الباحثون وعلماؤنا من خلال دراسة الفروقات بين القرآن الكريم وكتب الأديان السماوية الأخرى الموجودة اليوم إلى أن المسلمين وأمة النبي الخاتم هم الذين وصلوا إلى هذا المستوى من الوعي والمعرفة بحيث تم طرح مسألة الأسماء الإلهية لهم، بينما لم يتم طرح مثل هذه المسألة للأمم السابقة.
حتى عندما نرجع إلى الكتاب المقدس، لا نجد حديثًا عن الأسماء، بل نجد بعض المسائل التي تُعتبر اليوم من المسائل البديهية بالنسبة لنا، ولا توجد هناك، مثل مسألة المعاد، ومستقبل الإنسان، والحياة بعد الموت والمراحل التي تلي الموت.
هذه المسائل طرحت في آيات كثيرة وفي عدة آلاف من آيات القرآن الكريم، بينما لا نجد أي حديث عن عالم ما بعد الموت وتفاصيله هناك. نعم، هناك إجمالًا ذكر لوجود جزاء، ولكن كيف وأين يحدث هذا الجزاء؛ هل في الدنيا أم في عالم الآخرة، وكيف هو عالم الآخرة؟ هذه معارف تم فتح بابها في أمة النبي الخاتم(ص)، ونحن نشكر الله على ذلك.
لذا، يقول العلامة الطباطبائي(ره) في تفسيره الشهير “المیزان” عندما يناقش مسألة الأسماء بشكل مفصل:
“القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يستخدم الأسماء الإلهية في تقرير مقاصده ويعلمنا علم الأسماء من بين ما بلغنا من الكتب السماوية المنسوبة إلى الوحي.”
باب معرفة الله
وهذه العبارة سمعناها أيضًا من الإمام(ره) في بعض تصريحاته حين قال: “لو لم يكن القرآن، لكان باب معرفة الله مغلقًا إلى الأبد.” وهذه واحدة من الأبواب التي يفتحها القرآن للإنسان، وفي الكتب السماوية التي تنسب إلى الوحي (غير القرآن الكريم) لا توجد هذه النوعية من المسائل.
كان من الضروري أن يتم طرح هذه النقاط القليلة كمقدمة لهذا البحث، لكي بعد هذا التوضيح الموجز عن الاسم والأسماء، ندخل في موضوع هذا الدعاء الشريف، لأن النقاش حول الأسماء واسع جدًا وقد تم إجراء العديد من التأليفات والبحوث التي تتجاوز هذا النقاش المختصر لنا. “اللهم إني أسألك من أسمائك بأكبرها…” هنا الحديث عن أكبر الأسماء.
بعد هذه المقدمة يجب أن نرى ما هو الاسم الأكبر؟ وفي نفس الوقت، التي ورد في الدعاء: “كل أسمائك كبيرة”، ولكنني “أسألك من أسمائك بأكبرها”.
إن شاء الله في الجزء القادم مسألة كون بعض الأسماء الإلهية أكبر بالنسبة لبعضها الآخر، وما المقصود من هذا الأكبر. إن شاء الله، يفتح الله باب معرفته لنا في هذه الليالي من شهر رمضان المبارك، خصوصًا في هذه الليالي القدر، ولا يحرمنا من معرفته.
العلامة الشيخ محمد سروش محلاتي
تعليق