قبل أن نبدأ بشرح بعض كلمات هذه الخطبة نجلب إنتباه القارئ الكريم إلى هذا التمهيد :
تدبر قليلاً لتتصور أجواء ذلك المجلس الرهيب ، ثم معجزة السيدة زينب الكبرى في موقفها الجريئ!
بالله عليك! أما تتعجب من سيدة أسيرة تخاطب ذلك الطاغوت بذلك الخطاب؟
وتتحداه تحدياً لا تنقضي عجائبه؟
ولا تهاب الحرس المسلح الذي ينفذ الأوامر بكل سرعة وبدون أي تأمل أو تعقل؟!
وأعجب من ذلك سكوت يزيد أمام ذلك الموقف مع قدرته وإمكاناته؟
وكأنه عاجز لا يستطيع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً!
أليس من العجيب أن يزيد ـ وهو طاغوت زمانه ، وفرعون عصره ـ لم يستطع أو لم يتجرأ على أن يرد على السيدة زينب كلامها ، بل يشعر بالعجز والضعف عن مقاومة السيدة زينب ، ويكتفي بقراءة قول الشاعر : يا صيحة تحمد من صوائح !
فما معنى هذا البيت في هذا المقام؟!
وما المناسبة بين هذا البيت وبين كلمات خطبة السيدة زينب؟
فهل كانت حرفة السيدة زينب النياحة حتى ينطبق عليها قول يزيد : ما أهون النوح على النوائح ؟
وما يدرينا مدى ندم يزيد بن معاوية من مضاعفات جرائمه التي ارتكبها؟ وخاصة تسيير آل رسول الله من العراق إلى الشام.
فإنه ـ بالقطع واليقين ـ ما كان يتصور أن سيدة أسيرة سوف تغمسه في بحار الخزي والعار ، فلا يستطيع يزيد أن يغسل عن نفسه تلك الوصمات .. إلى يوم القيامة.
وتكشف الغطاء عن هوية يزيد ، وترفع الستار عن ماهيته وأصله ، وحسبه ونسبه ، وسوابقه ولواحقه ، وتخاطبه بكل تحقير ، وتقرع كلماتها مسامع يزيد ، وكأنها مطرقة كهربائية ، ترتج منها جميع أعصابه ، فيعجز عن كل مقاومة!!
والآن إليك شرحاً موجزاً لبعض كلمات هذه الخطبة الحماسية الملتهبة : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جدي سيد المرسلين
إفتتحت كلامها بحمد الله رب العالمين ، ثم الصلاة على جدها : سيد المرسلين ، فهي ـ بهذه الجملة ـ عرفت نفسها للحاضرين أنها حفيدة رسول الله سيد المرسلين (صلى الله عليه واله) حتى يعرف الحاضرون أن هذه العائلة المسبية الأسيرة هي من ذراري رسول الله ، لا من بلاد الكفر والشرك. ثم قرأت السيدة هذه الآية :
صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوئى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون .
وما أروع الإستشهاد بها ، وخاصةً في مقدمة خطبتها!!
وعاقبة كل شيء : آخره ، أي : ثم كان آخر أمر الذين أساؤا إلى نفوسهم ـ بالكفر بالله وتكذيب رسله ، وارتكاب معاصيه ـ السوئي ، أي : الصفة التي تسوء صاحبها إذا أدركته ، وهي عذاب النار.
أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون أي : بسبب تراكم الذنوب والمعاصي في ملف أعمالهم حصل منهم التكذيب بآيات الله والحقائق الثابتة ، وظهر منهم الإستهزاء بها وبالمقدسات الدينية.
وهي (عليها السلام) تشير بكلامها ـ هذا ـ إلى تلك الأبيات التي قالها يزيد :
لعبت هاشم بالملك فلا ... خبر جاء ولا وحي نزل
ومعنى هذا البيت من الشهر : أن بني هاشم ـ والمقصود من بني هاشم : هو رسول الله ـ لعب بالملك بإسم النبوة والرسالة ، والحال أنه لم ينزل عليه وحي من السماء ، ولا جاؤه خبر من عند الله تعالى.
فتراه ينكر النبوة والقرآن والوحي!!
وهل الكفر والزندقة إلا هذا؟!
ثم إن بعض الناس ـ بسبب أفكارهم المحدودة ـ يتصورون ـ خطأ ـ أن الإنتصار في الحرب يعتبر دليلاً على أنهم على حق ، وعلى قربهم من عند الله تعالى ، فتستولي عليهم نشوة الإنتصار والظفر ، ويشملهم الكبرياء والتجبر بسبب التغلب على خصومهم ؛
ولكن السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فندت هذه الفكرة الزائفة ، وخاطبت الطاغية يزيد باسمه الصريح ، ولم تخاطبه بكلمة : أيها الخليفة أو يا أمير المؤمنين وأمثالهما من كلمات الإحترام.
نعم ، خاطبته باسمه ، وكأنها تصرح بعدم إعترافها بخلافة ذلك الرجس ، فقالت : أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء ، فاصبحنا لك في أسار ، نساق إليك سوقاً في قطار ، وأنت علينا ذو اقتدار ، أن بنا من الله هوانا ، وعليك منه كرامة وامتنانا ؟!
تصف السيدة زينب حالها ، وأحوال من معها من العائلة المكرمة ، أنهم كانوا في أشد الضيق ، كالإنسان الذي أخذوا عليه ، أي : منعوه وحاصروه من جميع الجوانب والجهات ، بحيث لا يستطيع الخروج والتخلص من الأزمة.
وبعد هذا التضييق والتشديد ، والمنع والحبس أصبحنا نساق مثل الأسارى الذين يأتون بهم من بلاد الكفر عند فتحها.
سوقاً في قطار يقال ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ : قطار الإبل أي : عدد من الإبل على نسق واحد وفي طابور طويل ، وقد قرأنا أن جميع أفراد العائلة ومعهم الإمام زين العابدين والسيدة زينب (عليهما السلام) كانوا مربوطين ومكتفين بحبل واحد!
وأنت علينا ذو اقتدار أي : نحن في حالة الضعف وأنت في حالة القدرة.
أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامة وامتناناً ؟!
أي : أظننت ـ لما رأيتنا مغلوبين ، ووجدت الغلبة والظفر لنفسك ـ أن ليس لنا جاه ومنزلة عند الله ، لأننا مغلوبون؟!! وظننت أن لك عند الله جاهاً وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا ، وقتلت رجالنا ، وسبيت نساءنا؟!!
و ظننت : أن ذلك لعظم خطرك أي : لعلو منزلتك.
وجلالة قدرك عند الله تعالى؟!
وعلى أساس هذا الظن الخاطئ الذي لا يغني من الحق شيئاً و إن بعض الظن إثم ، إستولت عليك نشوةً الإنتصار.
فشمخت بانفك يقال : شمخ بأنفه : أي رفع أنفه عزاً وتكبراً.
ونظرت في عطفك العطف ـ بكسر العين ـ : جانب البدن ، والإنسان المعجب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من الأنانية وحب الذات والغرور.
تضرب أصدريك فرحاً الأسدران : عرقان تحت الصدغين ، وضرب أصدريه : أي : حرك رأسه ـ بكيفية خاصة ـ تدل على شدة الفرح والإعجاب بالنفس .. إزاء ما حققه من إنتصار موهوم.
وتنفض مذرويك مرحاً
يقال : جاء فلان ينفض مذرويه. إذا جاء باغياً يهدد الآخرين.
هذا ما ذكره اللغويون ، ولكن الظاهر أن معنى ينفض مذرويه أي يهز إليتيه ، وهو نوع من حركات الرقص عند المطربين حينما تأخذهم حالة الطرب والخفة.
حين رأيت الدنيا لك مستوسقة
أي : مجتمعة.
والأمور لديك متسقة
أي : منتظمة ، بمعنى : أنك رأيت الأمور على ما تحب وترضى ، وعلى ما يرام بالنسبة إليك ، فكل شيء يجري كما تريد.
وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا
أي : ومن أسباب فرحك ، وقيامك بالحركات الطائشة التي تدل على شدة سرورك ، أنك رأيت من نفسك ملكاً وسلطاناً قد نجح في خطته التي رسمها لإبادة منافسه ، وأسر نسائه.
لكن .. إعلم أيها المغرور : أن هذه القدرة والمكانة التي اغتصبتها ـ وهي الخلافة ـ هي لنا أساساً ، لأن يزيد كان يحكم بإسم خلافة رسول الله (صلى الله عليه واله).
ومن الواضح أن خلافة رسول الله لها موارد خاصة ، وأن خلفاء رسول الله أفراد معينون ، منصوص عليهم بالخلافة ، وهم : الإمام علي بن أبي طالب ، والأئمة الأحد عشر من ولده : ، ولكن الآن .. صارت تلك القدرة والسلطة بيد يزيد!!
بعد هذه المقدمة والتمهيد قالت : فمهلاً مهلاً
يقال ـ للمسرع في مشيه ، أو المتفرد برأيه ـ : مهلاً. أو : على مهلك ، أي : أمهل ، ولا تسرع ، أي : ليس الأمر كما تعتقد أو كما تظن ، أو : ليس هذا الإسراع في العمل صحيحاً منك فلا تعجل حتى نبين لك حقيقةً الأمر.
لا تطش جهلاً طاش فلان : أخذه الغرور وفقد إتزانه ، فصار غير ناضج في تصرفاته.
أي : يا يزيد! لا تطش .. بسبب جهلك بالحقائق ، وخلطك بين المفاهيم والقيم ، والإغترار بالظواهر.
أنسيت قول الله ( عزوجل ) : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] ؟!!
نملي : أي نطيل لهم المدة والمجال ، أو نطيل أعمارهم ونجعل الساحة مفتوحة أمامهم خير لأنفسهم ، بل : إنما نطيل أعمارهم ومدة سلطتهم وحكومتهم .. لتكون عاقبة أمرهم هي إزدياد الإثم والمعاصي في ملف أعمالهم ، ولهم عذاب مهين ، أي : يجزيهم ـ في جهنم ، تعذيباً ممزوجاً مع الإهانة والتحقير.
ثم خاطبته وذكرته بأصله السافل ، ونسبه المخزي ، فقالت : أمن العدل يا بن الطلقاء ...
وهذه الكلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح مكة ، فإن رسول الله (صلى الله عليه واله) لما فتح مكة ـ وصارت تحت سلطته ـ كان بإمكانه أن يقتلهم لما صدرت منهم من مواقف عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي الكريم ـ بالذات ـ وضد المسلمين بصورة عامة ، لكنه رغم كل ذلك .. إلتفت إليهم وقال لهم :
يا معاشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟
قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم
فقال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء وكان فيهم : معاوية وأبو سفيان.
ويزيد هو ابن معاوية ، وحفيد أبي سفيان ، ويطلق عليه ( ابن الطلقاء ) إذ قد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية.
أما معنى كلمة يابن الطلقاء فالطلقاء ـ جمع طليق ـ : وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره ، وخلي سبيله.
تدبر قليلاً لتتصور أجواء ذلك المجلس الرهيب ، ثم معجزة السيدة زينب الكبرى في موقفها الجريئ!
بالله عليك! أما تتعجب من سيدة أسيرة تخاطب ذلك الطاغوت بذلك الخطاب؟
وتتحداه تحدياً لا تنقضي عجائبه؟
ولا تهاب الحرس المسلح الذي ينفذ الأوامر بكل سرعة وبدون أي تأمل أو تعقل؟!
وأعجب من ذلك سكوت يزيد أمام ذلك الموقف مع قدرته وإمكاناته؟
وكأنه عاجز لا يستطيع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً!
أليس من العجيب أن يزيد ـ وهو طاغوت زمانه ، وفرعون عصره ـ لم يستطع أو لم يتجرأ على أن يرد على السيدة زينب كلامها ، بل يشعر بالعجز والضعف عن مقاومة السيدة زينب ، ويكتفي بقراءة قول الشاعر : يا صيحة تحمد من صوائح !
فما معنى هذا البيت في هذا المقام؟!
وما المناسبة بين هذا البيت وبين كلمات خطبة السيدة زينب؟
فهل كانت حرفة السيدة زينب النياحة حتى ينطبق عليها قول يزيد : ما أهون النوح على النوائح ؟
وما يدرينا مدى ندم يزيد بن معاوية من مضاعفات جرائمه التي ارتكبها؟ وخاصة تسيير آل رسول الله من العراق إلى الشام.
فإنه ـ بالقطع واليقين ـ ما كان يتصور أن سيدة أسيرة سوف تغمسه في بحار الخزي والعار ، فلا يستطيع يزيد أن يغسل عن نفسه تلك الوصمات .. إلى يوم القيامة.
وتكشف الغطاء عن هوية يزيد ، وترفع الستار عن ماهيته وأصله ، وحسبه ونسبه ، وسوابقه ولواحقه ، وتخاطبه بكل تحقير ، وتقرع كلماتها مسامع يزيد ، وكأنها مطرقة كهربائية ، ترتج منها جميع أعصابه ، فيعجز عن كل مقاومة!!
والآن إليك شرحاً موجزاً لبعض كلمات هذه الخطبة الحماسية الملتهبة : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جدي سيد المرسلين
إفتتحت كلامها بحمد الله رب العالمين ، ثم الصلاة على جدها : سيد المرسلين ، فهي ـ بهذه الجملة ـ عرفت نفسها للحاضرين أنها حفيدة رسول الله سيد المرسلين (صلى الله عليه واله) حتى يعرف الحاضرون أن هذه العائلة المسبية الأسيرة هي من ذراري رسول الله ، لا من بلاد الكفر والشرك. ثم قرأت السيدة هذه الآية :
صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوئى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون .
وما أروع الإستشهاد بها ، وخاصةً في مقدمة خطبتها!!
وعاقبة كل شيء : آخره ، أي : ثم كان آخر أمر الذين أساؤا إلى نفوسهم ـ بالكفر بالله وتكذيب رسله ، وارتكاب معاصيه ـ السوئي ، أي : الصفة التي تسوء صاحبها إذا أدركته ، وهي عذاب النار.
أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون أي : بسبب تراكم الذنوب والمعاصي في ملف أعمالهم حصل منهم التكذيب بآيات الله والحقائق الثابتة ، وظهر منهم الإستهزاء بها وبالمقدسات الدينية.
وهي (عليها السلام) تشير بكلامها ـ هذا ـ إلى تلك الأبيات التي قالها يزيد :
لعبت هاشم بالملك فلا ... خبر جاء ولا وحي نزل
ومعنى هذا البيت من الشهر : أن بني هاشم ـ والمقصود من بني هاشم : هو رسول الله ـ لعب بالملك بإسم النبوة والرسالة ، والحال أنه لم ينزل عليه وحي من السماء ، ولا جاؤه خبر من عند الله تعالى.
فتراه ينكر النبوة والقرآن والوحي!!
وهل الكفر والزندقة إلا هذا؟!
ثم إن بعض الناس ـ بسبب أفكارهم المحدودة ـ يتصورون ـ خطأ ـ أن الإنتصار في الحرب يعتبر دليلاً على أنهم على حق ، وعلى قربهم من عند الله تعالى ، فتستولي عليهم نشوة الإنتصار والظفر ، ويشملهم الكبرياء والتجبر بسبب التغلب على خصومهم ؛
ولكن السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فندت هذه الفكرة الزائفة ، وخاطبت الطاغية يزيد باسمه الصريح ، ولم تخاطبه بكلمة : أيها الخليفة أو يا أمير المؤمنين وأمثالهما من كلمات الإحترام.
نعم ، خاطبته باسمه ، وكأنها تصرح بعدم إعترافها بخلافة ذلك الرجس ، فقالت : أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء ، فاصبحنا لك في أسار ، نساق إليك سوقاً في قطار ، وأنت علينا ذو اقتدار ، أن بنا من الله هوانا ، وعليك منه كرامة وامتنانا ؟!
تصف السيدة زينب حالها ، وأحوال من معها من العائلة المكرمة ، أنهم كانوا في أشد الضيق ، كالإنسان الذي أخذوا عليه ، أي : منعوه وحاصروه من جميع الجوانب والجهات ، بحيث لا يستطيع الخروج والتخلص من الأزمة.
وبعد هذا التضييق والتشديد ، والمنع والحبس أصبحنا نساق مثل الأسارى الذين يأتون بهم من بلاد الكفر عند فتحها.
سوقاً في قطار يقال ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ : قطار الإبل أي : عدد من الإبل على نسق واحد وفي طابور طويل ، وقد قرأنا أن جميع أفراد العائلة ومعهم الإمام زين العابدين والسيدة زينب (عليهما السلام) كانوا مربوطين ومكتفين بحبل واحد!
وأنت علينا ذو اقتدار أي : نحن في حالة الضعف وأنت في حالة القدرة.
أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامة وامتناناً ؟!
أي : أظننت ـ لما رأيتنا مغلوبين ، ووجدت الغلبة والظفر لنفسك ـ أن ليس لنا جاه ومنزلة عند الله ، لأننا مغلوبون؟!! وظننت أن لك عند الله جاهاً وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا ، وقتلت رجالنا ، وسبيت نساءنا؟!!
و ظننت : أن ذلك لعظم خطرك أي : لعلو منزلتك.
وجلالة قدرك عند الله تعالى؟!
وعلى أساس هذا الظن الخاطئ الذي لا يغني من الحق شيئاً و إن بعض الظن إثم ، إستولت عليك نشوةً الإنتصار.
فشمخت بانفك يقال : شمخ بأنفه : أي رفع أنفه عزاً وتكبراً.
ونظرت في عطفك العطف ـ بكسر العين ـ : جانب البدن ، والإنسان المعجب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من الأنانية وحب الذات والغرور.
تضرب أصدريك فرحاً الأسدران : عرقان تحت الصدغين ، وضرب أصدريه : أي : حرك رأسه ـ بكيفية خاصة ـ تدل على شدة الفرح والإعجاب بالنفس .. إزاء ما حققه من إنتصار موهوم.
وتنفض مذرويك مرحاً
يقال : جاء فلان ينفض مذرويه. إذا جاء باغياً يهدد الآخرين.
هذا ما ذكره اللغويون ، ولكن الظاهر أن معنى ينفض مذرويه أي يهز إليتيه ، وهو نوع من حركات الرقص عند المطربين حينما تأخذهم حالة الطرب والخفة.
حين رأيت الدنيا لك مستوسقة
أي : مجتمعة.
والأمور لديك متسقة
أي : منتظمة ، بمعنى : أنك رأيت الأمور على ما تحب وترضى ، وعلى ما يرام بالنسبة إليك ، فكل شيء يجري كما تريد.
وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا
أي : ومن أسباب فرحك ، وقيامك بالحركات الطائشة التي تدل على شدة سرورك ، أنك رأيت من نفسك ملكاً وسلطاناً قد نجح في خطته التي رسمها لإبادة منافسه ، وأسر نسائه.
لكن .. إعلم أيها المغرور : أن هذه القدرة والمكانة التي اغتصبتها ـ وهي الخلافة ـ هي لنا أساساً ، لأن يزيد كان يحكم بإسم خلافة رسول الله (صلى الله عليه واله).
ومن الواضح أن خلافة رسول الله لها موارد خاصة ، وأن خلفاء رسول الله أفراد معينون ، منصوص عليهم بالخلافة ، وهم : الإمام علي بن أبي طالب ، والأئمة الأحد عشر من ولده : ، ولكن الآن .. صارت تلك القدرة والسلطة بيد يزيد!!
بعد هذه المقدمة والتمهيد قالت : فمهلاً مهلاً
يقال ـ للمسرع في مشيه ، أو المتفرد برأيه ـ : مهلاً. أو : على مهلك ، أي : أمهل ، ولا تسرع ، أي : ليس الأمر كما تعتقد أو كما تظن ، أو : ليس هذا الإسراع في العمل صحيحاً منك فلا تعجل حتى نبين لك حقيقةً الأمر.
لا تطش جهلاً طاش فلان : أخذه الغرور وفقد إتزانه ، فصار غير ناضج في تصرفاته.
أي : يا يزيد! لا تطش .. بسبب جهلك بالحقائق ، وخلطك بين المفاهيم والقيم ، والإغترار بالظواهر.
أنسيت قول الله ( عزوجل ) : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] ؟!!
نملي : أي نطيل لهم المدة والمجال ، أو نطيل أعمارهم ونجعل الساحة مفتوحة أمامهم خير لأنفسهم ، بل : إنما نطيل أعمارهم ومدة سلطتهم وحكومتهم .. لتكون عاقبة أمرهم هي إزدياد الإثم والمعاصي في ملف أعمالهم ، ولهم عذاب مهين ، أي : يجزيهم ـ في جهنم ، تعذيباً ممزوجاً مع الإهانة والتحقير.
ثم خاطبته وذكرته بأصله السافل ، ونسبه المخزي ، فقالت : أمن العدل يا بن الطلقاء ...
وهذه الكلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح مكة ، فإن رسول الله (صلى الله عليه واله) لما فتح مكة ـ وصارت تحت سلطته ـ كان بإمكانه أن يقتلهم لما صدرت منهم من مواقف عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي الكريم ـ بالذات ـ وضد المسلمين بصورة عامة ، لكنه رغم كل ذلك .. إلتفت إليهم وقال لهم :
يا معاشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟
قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم
فقال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء وكان فيهم : معاوية وأبو سفيان.
ويزيد هو ابن معاوية ، وحفيد أبي سفيان ، ويطلق عليه ( ابن الطلقاء ) إذ قد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية.
أما معنى كلمة يابن الطلقاء فالطلقاء ـ جمع طليق ـ : وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره ، وخلي سبيله.
تعليق