(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
الْحَـجُّ أَشْهُـرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَـرَضَ فِيهِـنَّ الْحَجَّ فَـلا رَفَـثَ وَلا فُسُوقَ وَلا
جِـدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُـوا مِنْ خَيْـرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْـرَ الـزَّادِ
التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً
مِـنْ رَبِّكُـمْ فَـإِذَا أَفَضْتـُمْ مِـنْ عَـرَفَـاتٍ فَاذْكُـرُوا اللَّـهَ عِنْـدَ الْمَشْعَـرِ الْحَـرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتـُمْ مِنْ قَبْلِـهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثـُمَ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُـورٌ رَحِيـمٌ (199) فَإِذَا
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَـدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(سُورة البَقرَة:200)


تَفسِيرٌ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) هذهِ الآيَة وجُوبٌ وَتَطبيقٌ لِكافَةِ أجزاءِ
الشعائِر في الحَجِ والعَمْرَةِ.. والحَجُّ بِمَعنى القَصْـدُ إلى السَبيلِ. أوْ التَّوَجُّه
إِلى البَيتِ الحَرامِ بالأَعمالِ المَشرُوعَةِ فرْضاً وَسُنَّة.. كأنكَ تقـُول حَجَجْت
البيتَ أَحُجُّهُ حَجًّاً إِذا قصَدتهُ،. والحَجُ الزيارة وَالإِتيان وَإِنما سُميَّ حاجًّـاً
بزيارةِ بيتِ اللهِ فإنَ الحَجَ وَالعُمرَةَ مَفرُوضان عَلى الاسْتطاعَةِ لِمَن يَقـْدَر
كَما قـُرِئَ بِهِا قوْلـه تَعالى (عَلَى النَّاسِ حِـجُّ الْبَيْتِ) وهُـوَ واجِـبٌ شَرْعيٌ
وإمْضاءٌ لِمّا شَرَعَ إبراهِيمُ الخَلِيل سَـلامُ اللـَّهِ عَليهِ حَجـاً وَقَصْداً لِـ ( مَـنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران:97) مِن الحِقُوقِ الشَرعيَةِ التي أَوجَبَها
اللـَّهُ عَليهِ في الاسْتِطاعَةِ على المالِِ وَالطاقةِ الصِحيَةِ. والاسْتطاعَةُ هـيَّ
اسْتِفعالٌ مِنْ الطاعَةِ..
والتَّطَوُّعُ بالحَجِ: هُـوَ لَيْسَ ما تَبَرَّعَ العَبدُ بـهِ مِن ذاتِ نفسِهِ مِمّا لا يَلزَمَهُ
فرْضَهُ الواجِب عَليهِ وَلاّ يَتَوهُم كَأَنهُ جَعلَ التَطوعَ تَّفَعُّلاً هُنا اسْماً كالتَّنَوُّطِ
كَمّا إنَ الاسْتِطاعَةَ لاتَسْلمُ لِصاحِبِها ولاَتخْلُص إذا كانَت مَشُوَبًة بالمَعْصِيَةِ
وإنَّما تَصِحُّ الاسْتِطاعَة أنْ تَخلُصَ النَفسُ مَعَ اجْتِنبابِ المَعاصِي؟؟
والمُرادَ مِن مَعنى الأوْلى فَمَن تَمتَعَ بالعُمرَةِ إلى الحَجِِ أيَجْزي عَنهُ. يَعنِي
أنَ عُمْرَةَ التَمتِعُ في أيامِ الحَجِ تعَـوُضُ على فَرْضِ وجُوبِها علـى العُمـْرَةِ
المُفـْرَدَةِ مِـن شَهْـرِ رَجـَبِ وَشَعبان وَأيـام السَنَةِ،، وكَذلكَ العُمْرَةُ المُفرَدَة
لاّ تعَوُض عَنْ الحَجِ لأنَ الحَجَّ أشْهُر مَعلُومات وَهُنَ زَمانُ الحَّج مِنْ شَوالِ
وذِي القَعدَةِ وذِي الحِجَةِ.. وكَمّا إنَ إتمامَ الحَّجُ مَعَ العُمرَةِ لا يَصْلَحُ لأهْـلِ
مَكَـةَ وضَواحِـيها. وَهُـم أهْــلُ الحِـلِّ الذِيـنَ مَنازلَهُـم داخِــلِ المََواقِيـت أنْ
لا يَتَمَتَعُوا بالعَمرَةِ إلى الحَّجِ لِقولِهِ تَعالى (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي)
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بَلْ إنَهُ حَجَُّ بِغيرِ متعَةِ العُمرَةِ لأهْلِ مَكَةَ وَفيهِ مَسالةٌ: إذا
بَعُـدَ المَكِيُ عَـن أهْلِـهِ مَسافَةُ أكثـَرُ مِما تَقصرُ فِيها الصَلاة. ولَدى عَودَتِهِ
صادَفَ وَقت الحَّج فَعَليهِ أنْ يَحرِمَ مِن المِيقاتِ كَحالِ البَعيد عَن وَطَنِهِ وَلَهُ
أنْ يَحُجَ بِهذا الإحرامُ حَجُّ التَمَتع..
وَجاءَ فِي الروايَـةِ: أَنَ النبيَّ صَلى اللـَّه عَليهِ وآلِـهِ. حِيـنَ خـَطبَ بالناسِ
فأَعلمَهُم أَنَ اللـَّهَ قـدْ فرَضَ عَليكُم الحَجَّ،. فقامَ رَجُـلٌ مِن بَنِي أَسَـد: فقالَ
يا رسولَ اللهِ أَفي كُلِّ عامٍ فأَعرَضَ عنهُ رسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وآلِهِ..
فعادَ الرجُلُ ثانِيَةً، فأَعرَضَ عنهُ، ثـُمَ عادَ ثالِثةً، فقالَ صَلى اللهُ عَليهِ وآلِهِ
ما يُؤمِنُكَ أَنْ أَقولَ نَعَم فَتَجِب، فلاّ تَقومُونَ بِها فتَكفِرُون؟؟
يَعني تَدفعُون وجُوبَ الكَلِمَة لِثقلِها فتكْفرُونَ أوْ أردْتَ ما يُؤمِنُكَ أَنْ يُوحَى
إِليَّ أَنْ أقُلْ نَعَم..
فالعَمْرَةُ مَساجِدُ اللهُ تـُباحُ لِمَن عَمـَرَ الإيمان قَلبَهُ أَنْ يَدْخُلُوهَا. فـَلا يَصِـحُ
دخُولَّها لِمَن سَعى في خَرابِها مِنَ المُشركِينَ إِلاّ خَائِفِينَ مِن رَبِّ هذا البَيتِ
المُقدَسِ لِمَكانَتِهِ مِنَ الشَرفِ (فَإِنْ أُحْصِرْتـُمْ) أي مُنِعْتـُم عَن إتمامِ الإحْرامِ
بِسَبَبِ مَرضٍ. أوْ عَدِوِّ مِنَ الوصُولِ إلى البَيتِ المُحَرَم. مِثلُ ما حَصلَ مِـن
العَـدُوِ في صُلْـحِ الحُديبيةِ في زَمَـنِ النَبِّـي (فَمَا اسْتَيْسَرَ) فَما وُجِـدَ لَدَيكُـم
يُسْراً ( مِنَ الْهَدْيِ ) ما تُقدمُونَهُ مِن الأنعام أردتـُم بِـهِ التَحَلِلُ مِن الإحْرامِ
ذّبحٌ ما تَيَسَرَ لَكُم مِن الهَدِي ما يُهْدى بِـهِ إلى وَجْهِ اللهِ وهُوَ التَضْحِيَةُ بِـهِ
في حَجَّكُم مِن إبْلٍ أو بَقرٍ أو شاةٍ..
( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَـدْيُ مَحِلَّهُ ) أي: لاَ تَحْلِقـُوا رُؤُوسَكُمْ
حَتى تَعلَمُوا أنَ الهَديَ المَبْعُوثُ قَـَدْ وَصَلَ مَكانَهُ الذِي يُنْحَر فِيـهِ يَجِبُ أنْ
يُراقَ فِيهِ دَمهُ.. وَكانَ النَبيُ صَلى اللّهُ عَليهِ وآلِـهِ. قـدْ ساقَ الهَدْيَ وَمَنْ
مَعهُ هَـدْيٌ فإنَهُ لا يَحِلقُ الحاجُ حَتى يَنْحَر هَدْيَـهُ (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً)
أي أصابَهُ داءٌ في رَأسِهِ بِحَيثُ يَقتَضي المَرَض عَليهِ وَهُوَ مُحْوَجاً لِلحَلِقِ
( أَوْ بِـهِ أَذىً مِـنْ رَأْسِهِ ) بِسَبَـبِ أذى مِـنَ الهَوام (القِمَـل) الـذِي يَتَواجَـدُ
وَيَتَكاثرُ حِينَ زيادةِ طُول الشَعـر إذا حَلَقَهُ وَهُـوَ مُحْرمٌ فَحُكْمَهُ ( فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ) أي جُعِلَ عَليهِ كُفارَةٌ وهُوَ مُخَيَرٌ بينَ الِصِيام ثلاثةُ أيامٍ أوْ
صَدَقَةِ إطعامٍ عَشْرُ مَساكِنَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مدَّان ما يُساوي لِلمِدِ الواحِد ثلاث
أرْبـاع الكِيلـُُو غـرام. ذلِكَ تَطبيقاً لِقولِـهِ تَعالى ( إِطْعَـامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ )
(المائدة:89)
((وكانَ رأيُ الفُقهاءُ والعَلامَةُ السَيد الطباطَبائي سِتةُ مَساكِينَ))
كَذلِكَ مَن تَعَمدَ وهُوَ مُحْرمٌ في تَقلِيمِ كُلِّ ظِفرٍ كُفارتَهُ ثلاثُ أرباع الكِيلُو مِن
طَعامٍ. وإنْ قَلمَ أصابعُ يَدَيهِ ورُجلَيهِ في مَكانٍ آخَر فَعَليهِ دَمُ شاةٍ وَإن تَعدَدَ
المَكانُ فَشاتان تَطبيقاً لِحُكْمِ الآيَة (أَوْ نُسُكٍ) أي: بَدَلاً عَنْ الصَوْمِ وَالطعامِ
والنُسُك هُـوَ كِنايَـةٌ عَـن ذبْـحِ شاةٍ. أَي: دَمٌ يُهَرِيقـهُ بمَكَـةَ. وَالمَنْسِكُ هُـوَ
المَوضْعُ الذِي تُذبَح فيهِ النَّسِيكَة: والنَّسائِكُ والنَّسْكُ في هذا المَوضِع يَدِلُ
على مَعنى النَّحْر كأَنََهُ جَعَلنا لِكُلِ أُمَةٍ أَنْ تَتَقربَ بأَنْ تذبحَ الذبائِحُ للهِ لأنَها
مِنْ أشْرَفِ العِباداتِ وَالمَقرباتِ. وقُرِئَ بِهِا قولَهُ تَعالى ( لِكُـلِّ أُمَّـةٍ جَعَلْنَا
مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ)(الحَج:67) يَعنِي فَهُم مُتَعَبَّدُونَ مُخْلِصُونَ أنفُسَهُم مِن
دَّنَسِ الآثـامِ كَأنَهُم كالسَبيكَةِ الذهَبيَةِ المُخَلصَةِ مِنَ الغِـش. وأصْـلُ النُسُك
سَبائِكُ الذَهَب الخالِصُ. والمَناسِكُ تَقعُ على المَصْدرِ وَالزَمانِ والمَكانِ ثمَ
سُمِيَتْ أُمُور الحَّج كُلَّها مَناسِكٌ (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) مَّا وَقَعَ بَيْنَكُمْ مِنْ عَدُوٍ أو فِتَنٍ
أوْ مَرَضٍ هكَذا أرادَ اللهُ بِوَعـدِ الأمَةَ المُسْلِمَة الحَذَّرُ وَالإشارَةُ في الجُمْلةِ
إلى مَجِيءِ الشَّـرِ عِندَ ذهابِ أهْـل الخَير مِـن حَجِّهِـم المَبرُور ( فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) بِما خَتـَمَ العُمرَةَ. وَنزَعَ إحْرامَهُ إلى وَقتِ زَمانِ الحَّج
( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) مَا أدى بِذبحِ شـاةٍ ( فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ ) ما يَشتَري
الهَدْيُ لِعُسْرٍ أصابَهُ ( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ) قَبلَ الوقوفِ بِعَرفةٍ أوْ
بَعـدَ أيامِ التَشريق وَهِيَّ الحادِي عَشَر. والثانِي عَشَر. والثالِث عَشَر مِـن
ذِي الحِجَّةِ (وَسَبْعَةٍ) أيامِ صِيام (إِذَا رَجَعْتُمْ) إلى أهْلِكُم (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)
مَا وَفَيتـُم مّا فِـي ذِمَتِكُـم عَـن النَسِيكَـةِ. وهِـيَّ الذَبيحَةُ ( وَاتَّقـُوا اللَّهَ ) أيْ
التَزمُوا بأوامِرِ اللهِ وَأنتُم فِي الحُرُمِ كَذلِكَ التَّقِيَّةُ والتُّقاةُ يُريدُ الله تَعالى أنْ
يَتَّقونَ المُسْلِمُونَ بَعضَهُم بَعضاً وَيُظْهِرُونَ الدِيـن وَالصُلح وَالاتِفاق دُونَ
خِلافِ الحَّقِ (و َاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) تَشدِيـدُ العِقابِ يَبْني
عَلى مَنأنكَرَ الحُكْم الشَرْعِي في مَناسِكِِ الحَّجِ وهُوَ مُقتَدرُ.. بَـلْ إِنـهُمِن
أَجْلِ حُبِّ المالِ لََبخِيلٍ. كَما وَردَ فِي نَظيِرِ قولِه تَعالى ( وَإِنَّـهُ لِحُبِّ الْخَيْـرِ
لَشَدِيدٌ) المُتَشَدِّدُ على حُبِ المالهُوَ البَخِيلُ الذِي لاّ يَنفِقُ ولا يَحِجُ والآيَةُ
هِيَّ لَيسَتُ حَصْراً بِعقابِ الذِي أنْكَرَ مَناسِكُ الحَجِ فَحَسبْ. بلْ تَشتَمِلُ على
مَن أنكَرَ الحَّق فَلَهُ العِقاب.. فالعُقْبَـى إِلى الله: أَيْ الـمَرْجِعُ إلَيهِ. وضُرِبَت
عَليهُمِ الذِّلةُ والمَسْكَنةُ. فَأفنى اللهُ تَعالى سَعادَتَهُم في الدُنيا. لأنَهُم كانـُوا
لا يَرْجِعُونَ إلا لِفَسادٍ يَرْجُونَـهُ. أَو شَـرٍّ يَحِبُونَهُ. وَلِعَـذابِ الآخِـرةِ أخْـزى
وهَُم لا يُشْفِعُونَ..
( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) وَهُنَ زَمانُ الحَّج مِن شَوالِ. وَذِي القَعدَةِ. وَذِي
الحِجَّةِ (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) وَهِنَ إعمالُ الحَّجِ نَفسُها. فَلا خِلافةَ بَعدَ
الفَــرْضِ عـَلى الـذِي ألزَمَتـْهُ نَفسَـهُ بالإحْـرامِ. وَتَمَسـَكَ بِشَرائِـعِ النـُسْـكِ
والطَـوافِ وبِعَـدمِ صّيـدِ البَـرِ. وعَـن الجَماعِ والاسْتمتاعِ. والتَجنـبُ عَـن
مُكرهاتِ الإحْرامِ كَما فُرِضَ عَليكُم اللـَّه تَعالى بِقوْلِهِ ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً)(المائدة:96) أي لا تَسْتَحَلُ مِنْ صَيدِ البَـرِّ مَأكُولاً لَكُم
وَأنتـُم حُرُمٌ مِن أيامِ الحَجِ.. ويَجُوزُ لِلمُحْرمِ إذا خَشِيَّ على نَفسِهِ أنْ يَقتُلَ
المُؤذَياتُ كالحَيةِ وَالعَقرَبِ وَالفأرَةِ والذِئبِ وَالكَلبِ العَقُورِ وَغَيرُ ذلكَ مِن
المُفتَرساتِ فَسُمَيَت بِهذا الحَدِيث فَواسِقٌ فَـلا فِديَةٌ عَليهِ مِن ذلِكَ،، وَلكِـن
تَتَرتبُ الفِديَة مَن قَتـْلَ الصَيدَ مُتَعَمِداً فَحُكْمَهُ في قوْلِـهِ تَعالى ( وَمَنْ قَتَلَـهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(المائدة:95) يَعنِي: تَكُونَ فِديَةُ
المَقتولُ صَيْداً مُماثِلَةٌ لَهُ في الخِلْقَةِ والمَنظَرِ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) مِنْ
أهْلِ دِينِكُم وَملَتِكُم وَهُما عارِفانُ لِيُقارِنا بَينَ الصَّيدِ وَبينَ الدِيَةِ ما تَشبَهُها
مِنَ النِعَمِ.. والمُرادُ مِن مَعنى هَدَفِ الآيَةُِ وحُكمِها بالمُماثلةِ. فَفي النَعامَةَ
بدْنَةً مِن الأنعامِ. وفي حُمارِ الوَحشِ بَقرةً. وفِي الظَبيِّ شاةٌ. وَفي الأرْنبِ
سَخْلٌ: فيَحْكُما بِهِ فيَذبَحَهُ ويَتَصَدقَ بِـهِ.. فَسُميَّ هـذا الحِكْـمُ ( هَدْيـاً بَالِـغَ
الْكَعْبَةِ ) بَـلْ: يُذبَح الحَيوانُ المُماثِلُ بِمَكَـةَ قُبالَ الكَعبَةِ. وَأن يَكُونَ الحاجُ
مُحْرَماً بالعُمرَةِ وَإنْ كانَ مُحَرَماً لِلحَجِ ذبْحُ الفِديَةَ بِمِنى. ومَعَ ذلِكَ فإنْ لَمْ
يَجـدُ فَعليهِ إتباع قولَـُه تَعالى ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ) وَأمـَّا مَّا يُساوِّي
قِيمَةُ هذِهِ الفِديَةُ طَعاماً يَتَصَّدقُ بِـهِ عَلى سِتينَ مِسْكيناً لِكُلِ مِسْكِينٍ مـدَّان
ما يُساوي لِكُلِّ مِدِّ ثَلاثُ أرْباع الكِيلُو غِـرام. ولاّ يَلزَمَهُ مَا زادَ على سِتينَ
مِسْكِيناً. فأنْ لَم يَجْدُ مَعَ عَجْزهِ مِن ذلِكَ يَصُوم عَن كُلِِّ مِدِّينِ يَوماً.. كَذلِكَ
مَعَ العَجْزِ يَصُوم ثَمانَية عَشَر يَوْماً ذلِكَ كُفارَة صَيد البَـرِ في الحُرُمِ كَذلِكَ
لا يَجُوزُ للمُحْرمِ قَتلِ هَوام الجَسدِ يَعنِي كَالقمُلِ وَالقَرادِ.. وَقِيلَ وباسْتثناءٍ
يَجُوزُ قتل البَق وَالبَرغُوث وَالزنبُور لِيَدفَعَهُ المُحْرَم مِنَ الأذى عَنْ نَفسِهِ
( فَلا رَفَثَ ) في الحُرُمِ: وأَصْلُهُ قـَوْل الفُحْش. وَهُـوَ الكَـلامُ المُتَضَمِن لِمَّا
يُسْتَقبَح ذِكرَهُ. أو يَعنِي ولاَّ كَلِمَة مِن أَسْبابِ الجَماع حَتى يُقالَ عَنهُم..
ورُبَّ أَسْرابِ حَجيجٍ كُظَّـمٍ ................ عَـن اللَّـغَا ورَفَـثِ التَكَـلُّم
وَكَذلِكَ أسْتعِيرَ الرَفَثُ هُـوَ أَنْ لاّ يأْخُـذَ ما عَليهِ مِـن القَشَـفِ وَهُـوَ القَذارَةُ
مِثلُ تقلِيمِ الأَظفارِ كَما تَقدمَ حكَمَهُ وَنَتفُ الإِبطِ. وَحَلْق العانَةِ (وَلا فُسُوقَ)
أيْ ولاَّ خُرُوجَ عَن طاعَةِ اللهِ بارتِكابِ المَعاصِي فِي سَفـَرِ الحَّجِ كَما فَسَقَ
إبلِيس عَن أَمْرِ رَبِّهِ أَي جارَ وَمالَ عَن طاعتِهِ (وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) الجَدَلُ
وَهُـوَ شِـدَّةِ الخصُومَة.. أيْ لاَ يَنبغِي لِلرَجُلِ أَنْ يُجادِلَ أَخـاهُ فيَخْرجَهُ إِلـى
مَا لاّ يَنبغِي. ولكِـن يُسْتثنى مِنـْهُ المُجادَلَة وَهِـيَّ المُناظرَةَ.. وَالمُـرادُ بِها
المُغالبَة والطَلَبُ لإظْهارِِ الحَقّ على الباطِلِ. فإِنَ ذلـِكَ مَحمُودٌ لِقولِـهِ عَـزَّ
وَجَّل (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) وَهُـوَ
العالِمُ المُحِيطُ عِلْمُهُ بجَمِيعِ الأشْياءِظاهِرِها وَباطِنِها دَقِيقِها وجَلِيلِها عَلى
أتَمِّ الإمْكانِ وَفَعِيلٌ مِن أبنيَـةِ المُبالغَةِ.. فيكُون المَعنى إنَ اللـَّهَ يَعلْمُ الغيْبَ
فِي السَماواتِ وَالأَرضِ كَمَّا قالَ تَعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)
(النحل:19) السِّرُّ مِن الأَسْرارِ التي تـُكْتَم. فإنَ اللـَّهَ عَـزَّ وجَّـل يَعلَمُ السِّرَ
والسَريرَةَ التي هِيَّ عَمْلُ السِّر مِن خَيرٍ أَوْ شَرٍ ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْـرَ الزَّادِ
التَّقْـوَى) أي: تَـزَودُوا لِمِعادَكُم بالتَقوى فإنَها خَيـْرُ زادٍ فـي الآخِـرَةِ التـِي
تُنجِكُم مِن عَذابِ النار. فَسُمِيَّ العَمَلُ زاداً عَلى المِثل: أي عَبـَرَ اللهُ العَمَلَ
بلَفظِ المَصْدرِ عَنْ الـزادِ. والمِزْوَدُ وَعاءٌ يَجْعلُ فيهِ الزاد وَكلُّ عَمْلٍ انقلَبََ
بـهِ مِن خَيـرٍ. أَوْ شَـرِ يُقال عَملٌ. أَو كَسْبٌ (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) اللُبُ
العَقـْلُ وهُـوَ لُـبُّ كُـلِّ شَـيءٍ نَفسُـهُ وَحَقِـيقَتـُهُ الـذِي يَأمُـر بالتَقـْوى وَهِـيَّ
الالتزامُ فِيما حَلَلَ اللهُ وَحَرمَ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)
إباحَةٌ للبَيعِ وَالشِراءِ في مَواسِمِ الحَج.. وَكانـُوا في الجَاهِلِيَةِ لَهُم أسْواقاً
تُسَمى عُكاظُ ومَجَنَّةُ وَذو المَجاز. فَسُأِلَ رَسُول اللـَّهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَآلِـهِ
عَن البَيعِ في وَقتِ الحَج فَنَزَلت هذهِ الآيَة بِذلِكَ: يَعني. لَيْسَ عَليْكُم حَـرَجٌ
أن تَطلِبُوا رزقاً مِن رَبِكُم بالتِجارةِ في أيامٍ مَواسِم الحَج (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)
أيْ رزقاً بالتِجارةِ وإنَها مُباحَةٌ لَكُم بالاكتِسابِ في الحَجِ قَبـْلُ مَراسِمِه مِنْ
عَرفاتٍ (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) أي دَفَعتُم أنفُسُكُم بِثوابِهِ وهُوَ جَبلُ سُمِيَّ
عَرفَـةَ لأَنَ الناسَ يَتعارفونَ بـهِ تَلبِيَةً لِلشَعائِرِ.. لأَنَ جُبريلَ عَليـهِ السَلام
طافَ بإبراهِيمَ صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَليهِ، فكانَ يَرِيـهُ المَشاهِد فيَقول لَـهُ
أَعرَفْتَ أَعرفت؟ فيَقُول إبراهِيمُ عرَِفتُ عَرفت، وَكَذلِكَ آدمُ سَلامُ اللهِ عَليهِ
لَمـَّا هبَـطَ مِن الجَنـةِ وكانَ مِن فراقِـهِ حـَوَّاء فَلَقِيها في هـذا المَوْضِع مِنْ
عَرَفةٍ عَرَفَها وَعَرَفَتهُ..
والآيَة تَـدِلُ ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ ) أي: رَجَعتـُم بَعـدَ الإفاضَةِ بالخَيـرِ مِـنْ عَرَفَاتٍ
(فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) وَهُوَ مُزدَلفَة وَسُمِيَت بالمَشْعَر الحَرامِ
لِحُرمَتِهِ مِن الشِّعارِ الذِي هُوَ مَعالِمُ الحَج فيتَقرَّبُ العِباد المُؤمِنينَ إلى اللهِ
فِيها لأنَها مِن شَعائِرِهِ تَعالى سُميَّت مُزدَلفَة مِـنْ الازْدِلافِ وَهُـوَ الاجْتِماعُ
لاجْتماعِ الناسِ بِها داخِل الحَرَم. أوْ كَما هُوَ فِي القولِ: فإذا زَالت الشَّمْسُ
فازدَلَفُ الناس إلى رَبِهِم بركْعَتَينِ تَقرُباً للهِ تَعالى. كَمَّا هُوَ في نَصِ الآيَـةِ
( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُـمْ ) وهُوَ اللـَّهُ الهادِي الذَي بَصَّرَكُم. وعَرَّفَكُم طَـريقَ
مَعْرِفَتِهِ حتَّى أقّرَّرتُم بِرُبُوبيَّتِهِ وهَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إلى مَا لاّ بُـدَّ لـهُ مِنهُ في
بقائِهِ وَدَوامِ وجُودِهِ..
(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) لِهذا القرآنُ الذِي قُـدِّمَ على مَّا هُـوَ أَبْسَطُ مِنهُ لِشَرَفَهِ
يُسَّمى كَلامُ اللّهِ تَعالى الذي أَنزَلَـهُ على نَبيِِّـهِ مُحَمدٍ صَلى اللّهُ عَليهِ وَآلِـهِ
كِتاباً وَقُرْآناً وَفُرْقاناً. لأنَ القرآنَ الكَريم جَعَلَهُ الله عَزَّ وَجَّل يُُقْرِئُكَ السَلامُ
ويَجْمَعُكَ فِـي الفاتِحـَةِ.. ومَعانـي سُـورَة الفاتِحَـة مََجمُوعَةٌ فـِي البَسمَلَـةِ
ومَعاني البَسْمَلّة مَجمُوعَة في بائِـها. ومَعانِي البـاء فِي نقطتِها. وجَمِيـعُ
مَا في البَسمَلةِ في بـاءِ البَسْمَلة، وجَميعُ مـّا فِي بـاءِ البَسمْلةِ في النِقطـَةِ
التِي تَحتَ البـاءِ..وهَيَّ التي تَجْمَعُكَ بالإمامِ عَليِّ الذِي هُـوَ النقطَـة التِـي
تَحتَ البَاءِ..
فَلـَوْلاّ هـذا القـُرآنُ الذِي هُـوَ بَيانُ طريـقَ الهُدى. وَهُـوَ نِعمَةٌ مِـن أنعامِـهِ
تَعالى التي مَّـنَ بِها على العِبادِ لَّكُنتـُم فِي أيامِكُـم ( لَمِنَ الضَّالِّيـنَ (198)
الذيـنَ كانـُوا مِن قَبلِكُم قََـَدْ ظَلَمُـوا أنفُسَهُم بِمّا نَقَصُوها مِـن الثـَوابِ ( ثـُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) هِذهِ أشارَةٌ لِقرَيشٍ وَحُلَفاءِها مِن القَبائِلِ
كاَنُوا لا يَقِفُونَ بِعَرفاتٍ بَلْ بِمُزدَلِفة..
وَالمُرادُ مِن مَعنى الآيَـة تَـدِلَّ بهذا اللَّفظ أَنَ الوقُوفَ بِعَرفاتٍ واجِـبٌ: لأَنَّ
الإِفاضَّةَ بِها لا تكُونُ إِلا بإفاضَةِ النَفسِ كَالإِفاضَةِ يَوْم النَحْرِ يُفِيضُ الحاج
مِن مِنى إِلى مَكـَة فيَطُوف.. ومَعنى أَفَضْتـُم دَفَعْتـُم بكثـرَةٍ وهَـيَّ الإِفاضَـةُ
سُرْعَةُ الرَّكْضِ (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) بَلْ: التَزمُوا بأوامِرِ رَبِّكُم واذكِرُوهُ كَثِيراً
(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) هُوَ اللـَّهُ الغَفُورُ الغَفارُ جََـلَّ ثناؤُهُ وهُمَا مِن
أَبنيَـةِ المُبالغة. ومَعناهُما الساتِرُ لِذنوبِ عِـبادهِ. المُتجاوز عَـن خَطاياهِم
وَذنوبهِم. وَالغُفْرانُ هُوَ التَوبَة مِن تَقصِيرِ العَبدِ في شِكْرِ النِعَمِ والعبُوديَةِ
وَالغَفْرُ وَالمَغْفِرةُ هُمَا التغطيَة عَلى الذنوبِ والعَفوُ عَنها، وقـَد غَفَرَ ذنبَـهُ
يَغْفِرُهُ غَفْراً وَغِفْرَةً حَسَنة..
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) ذُكْراً قَلْبياً لا يُقصِرُ عَن اللّفظِ يُرادُ بهِ
تمْجيدُهُ تَعالى وَتقديسُهُ. وتسْبيحُهُ. وتهلِيلُهُ. والثَّنَاءُ عليهِ بجَميعِ مَحامِدِهِ
(كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ) بَلْ: إنَ ذكْرَ اللـهُ حَقٌ عَليكُم أكثرُ مِن ذِكْرِ آبائِكُم (أَوْ أَشَدَّ
ذِكْراً) يَعني: أليسَ مِن الذِّكْرِ بَعدَ النِّسْيانِ أن تَذْكِرُوا اللـَّهَ كَذكْرِ آبائِكُم عِندَ
التَفاخِرِ بِهِـم ( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِـنَا فِي الدُّنْيَا ) نَصِيباً يُرضِينِي
سَعادَةً مِنَ المالِ وَالأولادِ وَالجاه (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) هُوَ الحَظُ
والنَصِيب مِـن الخَيْـرِ الذِي يَتَخَلَقُ بـهِ مِنَ الفَضائِلِ الحَسنَةِ. كَمَّا جاءَ في
الحَديثِ إنَّ العَبْدَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقهِ دَرجَةَ الصائِم القائِم..
أو كَمَّا إنَ لَيْسَ شَيءٌ فِي المِيزانِ أَثقـَلَ مِن حُسْـنِ الخُلُق.. يَعنِـي الخُلُـقُ
بضَم اللاّم وَسكُونِها وَهُـوَ الدِّين والطَبْع والسَجَيَة. وحقيقتَهُ أَنـَهُ لِصُورَةِ
الإِنسان الباطِنَة وَهـِيَّ نفْسُـهُ وأَوْصافُها ومَعانِيها المُختَصَةُ بِـها بمَنزلَـةِ
الخَلْـق لِصُورَتِـهِِ الظاهِـرةِ وأَوْصافِـها وَمَعانِيها. وَلَهُـما أَوْصـافٌ حَسَنـَة
وَقبيحَة.. وَالثوابُ وَالعقابُ يَتَعلّقان بأَوْصافِ الصُورَةِ الباطِنَةِ أَكثـرُ مِـمّا
يَتَعَلقان بأَوْصافِ الصُورَةِ الظاهِرَةِ.. ولَكُم حَجٌ مَبْرُور..
انتهى تَفسِير الشيخ الحَجاري الرُميثِي مِنَ العِراق
تعليق