سورة الإيلاف قصة قوم قريش
فالسماء أبادت أعداء اللّه الذين حاولوا إلحاق الأذى بالكعبة حتّى اُتيح لقريش أن يُعادَ إليها أمنها و تجارتها بعد أن هربوا إلى رؤوس الجبال أثناء الغزو الحبشي المذكور .
و القصة تبدأ بهذا النحو:
﴿لإِيلافِ قُرَيْش إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ﴾
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْف﴾
إنّ ما يعنينا الآن من هذه القصة ، هو دلالتها الفكرية . أمّا دلالتها الفنّية قد سبق أن أوضحناها في حينه .
إنّ القصة صيغت و قريش تـتعامل مع رسالة الإسلام تعاملا و سخاً ، مستجمعةً كلّ قواها وكيدها لمحاربة محمّد (صلى الله عليه وآله) و رسالته .
و دلالتها في هذا السياق واضحةٌ كلّ الوضوح . إنّها أوّلا تُذكّر القرشيين بحادثة قريبة العهد بهم . فقد كان الغزو الحبشي الفاشل في نفس العام الذي وُلِدَ فيه محمّد (صلى الله عليه وآله)ممّا يعني أنّ معمّريهم يتذكّرون الغزو تماماً .
ثانياً: أ نّها تُداعي أذهانهم إلى المصير الذي لاقاه أعداء اللّه في محاولاتهم للوقوف حيال مساكن اللّه . . .
إذن ، القصة فيما يتصل بمعاصري الرسالة تـترك لدى أذهان القرشيين و أذهان الإسلاميين أيضاً إيحاءات واضحةً ، إنّها تريد أن تقول للقرشيين: إنّ السماء التي أرسلت طيراً أبابيل على الغزاة بمقدورها أن تصنع ذلك حيال العدو الجديد:
قريش .
قريش .
و تريد أن تقول للإسلاميين: إنّ السماء التي أبادت العدو القديم بمقدورها أن تبيد العدو الجديد أيضاً ، ممّا يشيع الاطمئنان في نفوس الإسلاميين ، و إزالة القلق الذي قد يُساورهم حيال شتّى وسائل الكيد التي مارسها القرشيّون .
بيد أنّ الملاحَظ أنّ القصّة شدّدت على ظاهرتين في هذا الصدد ، و هما: الطعام و الأمن ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْف﴾ .
مثلما شدّدت على قضيّة محدّدة هي رحلة الشتاء و الصيف وصِلتها بكلٍّ من الطعام و الأمن .
مثلما شدّدت على قضيّة محدّدة هي رحلة الشتاء و الصيف وصِلتها بكلٍّ من الطعام و الأمن .
و السؤال: ما هو التفسير الفنّي لهذا التشدّد ؟
* * *
إنّ كلاّ من الدافعين الدافع إلى الطعام و الدافع إلى الأمن يُشكّلان في تصوّر علماء النفس الذين يُعنون بدوافع الشخصية دوافع رئيسة لا مجال لممارسة التأجيل حيالها .
و واضحٌ أنّ الحاجة إلى الطعام تجيء في مقدّمة الحاجات الحيويّة .
و تجيء الحاجة إلى الأمن في مقدّمة الحاجات النفسية .
و هذا يعني أنّ القصة اختارت أقوى دافع حيوي عند الشخصية ، و هو البحث عن الطعام ، و اختارت أقوى دافع نفسي و هو البحث عن الأمن ، و جعلتهما مصدر تذكير لهؤلاء الذين يلهثون وراء إشباع دوافعهم ، . . . و هم غافلون عن أنّ أهمّ دوافعهم التي لا مناصَ من إشباعها ، قد توفّرت لهم فعلا . . . ففيم تحركاتهم إذن ؟
لا شك أنّ اللهاث وراء الإشباع الزائد عن الحاجة ، أو الإشباع الذاتي الصرف الذي لا يُعنى بحاجات الآخرين أو الحاجات المنضبطة بالمبادئ ، هو الذي يفسّر سلوك هؤلاء المَرضى ، من نحو بحثهم عن السيطرة و التفوّق و التملّك و اللذة العاجلة بعامّة .
إنّ رحلة الشتاء و الصيف ، و هي الرحلة التي ألمحت القصةُ إليها ، تُعدّ مؤشراً فنّياً لقضية التذكير بنعَمِ السماء على هؤلاء القوم الذين وقفوا من رسالة السماء سلبياً .
لم تـتحدّث القصة عن الطعام بعامّة ، و لم تـتحدّث عن الأمن بعامة ، إنّما أشارت إليهما بعد أن ألمحت إلى رحلة الشتاء و الصيف ، ممّا يعني من حيث البناء الهندسي للقصة أنّ الرحلة هي المفتاح الرئيسي لتفسير كلّ شيء .
فما هي تفصيلات هذه الرحلة ؟
* * *
القصة ذاتُها لم تـتحدّث عن تفصيلات هذه الرحلة ، و إنّما اكتفت بالقول
﴿إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ﴾ .
﴿إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ﴾ .
و التفسير الفنّي لهذا الصمت الذي نسجته القصة حول رحلة الشتاء و الصيف ، ينطوي على سمة جمالية ممتعة هي: أنّ القصة نفسها قدّمت إجابةً في نهاية القصة ، حينما طالبت بعبادة ربّ البيت الذي حماه من غزو الأحباش ، و حمى القرشيين من الجوع و الخوف :
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ﴾
﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْف﴾
القارئ مدعوٌّ من جديد إلى أن يتأمّل إشارة القصة إلى ﴿رَبَّ هذَا الْبَيْتِ﴾ ليتعرّف أسرار الفنّ العظيم لهذه الإشارة و اكتنازها بأكثر من دلالة يستخلصها القارئ .
إنّ البيت الحرام يُداعي ذهن القارئ إلى أ نّه نفس البيت الذي حاول الأحباش أن يكيدوا له ، ثمّ ردّ اللّه كيدهم إلى نحورهم .
و البيت الحرام في الآن ذاته يُداعي ذهن القارئ إلى أ نّه هو نفس البيت الذي أحاط به هؤلاء القوم الذين تـتحدّث القصةُ عنهم ، و عن نِعَمِ السماء عليهم ، . . .
و منها: النعمة التي تفرزها رحلة الشتاء و الصيف .
و منها: النعمة التي تفرزها رحلة الشتاء و الصيف .
و لكن رحلة الشتاء و الصيف لا تزال غامضةً في الأذهان . . . فكيف تمّ إلفاتُ الذهن إليها ؟ تم ذلك من خلال طريقة فنّية غير مباشرة ، هي اختـتام القصة بعبادة ربّ البيت الذي أطعم القرشيين و آمنهم من الخوف ، . . . بحيث يستخلص القارئ من أنّ كلاّ من الإطعام و الأمن ، مرتبطان برحلة الشتاء و الصيف .
إذن رحلة الشتاء و الصيف التي ذكّرت القصةُ بها قريشاً إنّما هي تلك المعطيات التي اقترنت بها نِعَمِ الطعام الذي توفّر لهم ، و نعم الأمن و الطمأنينة من أيّ خوف يُداهمهم .
* * *
و أخيراً فإنّ تفصيلات الطعام و الأمن ، لا تحمل ضرورة فنّية لأن تُسرد في القصة مادام الهدف الفنّي هو: التذكير بالنعم و ليس بجزئياتها .
و من هنا فإنّ النصوص المفسّرة هي التي تنهض بهذه المهمّة الثانوية .
و تقول هذه النصوص بما مؤدّاه:
إنّ الحرم أرض مجدبة و قريش تعتمد على التجارة الخارجية في معيشتها و قد هيّأت السماء لهذا البلد رحلتين ، واحدة في الشتاء: متجهة نحو اليمن ، نظراً لحرارة هذه المنطقة .
و واحدة في الصيف: متجهةً نحو الشام ، نظراً لبرودتها و هذا فيما يتصل بالحاجة إلى الطعام .
أمّا فيما يتصل بالحاجة إلى الأمن ، فإنّ النصوص المفسّرة تشير إلى أنّ السماء حملت قلوب الناس على تعظيم البيت الحرام ، . . . و من هنا لم يتعرّض أحدٌ لهذه القوافل التجارية بسوء ، لمجرّد أ نّهم يقولون: نحن أهل حرم اللّه . . . و حتّى داخل الجزيرة فإنّ الحرميّ يُخلّى عنه و عن أمواله ، للسبب ذاته .
المهمّ ، أنّ التذكير بهذه النعم وفق الطريقة الفنّية التي سلكتها القصة يظلّ مفسّراً لدلالة القصة التي تستهدف لفت الانتباه ، ليس لِقوم بأعيانهم فحسب ، بل كلّ الآدميين قديماً و حديثاً ، إلى أنّ نِعَمَ اللّه لا تعدّ و لاتُحصى و إلى ضرورة تثمين هذه النِعَمِ و تقديرها . . . و إلاّ فإنّ اللّه قادرٌ على إزالة هذه النعم عمّن يحاول الكيد لرسالة الإسلام ، بل إبادتهم أساساً ، كما اُبيدَ مَن كان قبلهم ممّن هو أشدّ قوّة .
تعليق