الأئمة عليهم السلام والحكام
الإمام القائد "دام ظله" يتحدّث عن هذا الجانب، بإشارته إلى رواية مهمّة، يقول "دام ظله":
"... الإمام السجاد "عليه السلام" عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلَّمه صندوقاً... تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم... وتذكر أن فيه سلاح رسول اللَّه "صلى الله عليه وآله" وقال له:
"يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك".
ثم قال "عليه السلام":
"أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءاً علم" (1).
لعلّ هذا الصندوق يرمز إلى أن الإمام السجاد "عليه السلام" سلَّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلَّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي)".
فتسليم الإمام السجاد "عليه السلام" لابنه الإمام الباقر "عليه السلام" السلاح إلى جانب الوثائق العلمية، دلالة على أن الأئمة ليسوا علماء فحسب، بل هم أيضاً مجاهدون وتاريخهم يحكي لنا عن ذلك، وإن اختلفت صور جهادهم باختلاف ظروفهم. ويعطي القائد مثالاً عن جهاد الإمام السجاد "عليه السلام"، الذي يحسبه الكثيرون أنه إمام دعاء ومناجاة وعلمٍ فقط.
يقول القائد "دام ظله"
"... لم أرَ في حياة الإمام السجاد "عليه السلام" ما يدل على مواجهة صريحة مع الجهاز الحاكم، والحكمة كانت تقتضي ذلك كما ذكرنا لأنه لو اتخذ مثل تلك المواقف التي نشاهدها في حياة الإمام موسى بن جعفر "عليه السلام" وبعده من الأئمة تجاه حكام عصره لما استطاع أن يحقق ما حققه من دفع عملية التغيير دفعة استطاعت أن توفّر للإمام الباقر"عليه السلام" فرصة نشاط واسع، بل لصُفّي هو والمجموعة الصالحة الملتفّة حوله.
في مواقف نادرة نلمس من الإمام "عليه السلام" رأيه الحقيقي من السلطة الحاكمة، ولكن ليس على مستوى المواجهة، بل على مستوى تسجيل موقف للتاريخ...
ثمّة وثيقة... هي عبارة عن رسالة جوابية وجهها الإمام "عليه السلام" إلى عبد الملك بن مروان بعد أن أرسل الثاني رسالة يعيّر فيها الإمام بزواجه من أمته المحرّرة، وقصد ابن مروان بذلك أن يبين للإمام "عليه السلام" أنه محيط بكل ما يفعله حتى في أموره الشخصية، كما أراد أيضاً أن يذكّر الإمام بقرابته منه طمعاً في استمالته، والإمام "عليه السلام" في رسالته الجوابية يوضح رأي الإسلام في هذه المسألة. ويؤكد أن امتياز الإيمان والإسلام يلغي كلَّ امتياز آخر. ثم بأسلوب كناية في غاية الروعة يشير الإمام "عليه السلام" إلى جاهلية آباء الخليفة، بل لعله يشير أيضاً إلى ما عليه الخليفة بالذات من جاهلية إذ يقول له:
"فلا لؤم على امرىء مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية" (2).
وحين قرأ الخليفة الأموي عبارة الإمام "عليه السلام" أدرك معناها تماماً، كما أدرك المعنى ابنه سليمان إذ قال له: "يا أمير المؤمنين لسَدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين".
والخليفة بحنكته السياسية يرد على ابنه بما يوحي أنه أعرف من الابن بعاقبة الاصطدام مع إمام الشيعة فيقول له: "يا بني لا تقل ذلك فإنها ألسن بني هاشم التي تغلق الصخر وتغرق من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتضّع الناس" (3).
ونموذج آخر من هذه المواقف ردّ الإمام "عليه السلام" على طلب تقدم به عبد الملك بن مروان. كان عبد الملك قد أبلغه أن سيف رسول اللَّه "صلى الله عليه وآله" عند الإمام. فبعث إليه من يطلب منه أن يهب السيف للخليفة، وهدده إن أبى بقطع عطاء بيت المال عنه.
فكتب إليه الإمام "عليه السلام":
"أما بعد فإن اللَّه ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: "إن اللَّه لا يحب كل خوان كفور، فانظر أيَّنا أولى بهذه الآية..." (4).
الأئمة "عليهم السلام" ووعاظ السلاطين
صحي أن العلماء ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، إلا أن هذا السلك يدخله أحياناً من ليس بأهلٍ أن يتّبع، لأنه لا يكون للمستضعفين، بل يكون بوقاً للحكّام المستكبرين.
وهؤلاء كانوا على مرِّ التاريخ، ولقد ابتلي بهم أئمة أهل البيت بلاءً عظيماً، وواجههم الأئمة مواجهة ساخنة، لخطورتهم على عامَّة الناس؛ إذ أن الناس تبهرهم ظواهر الأمور ولا يتطلّعون إلى عمق القضايا، وروح الحقائق.
يقول القائد "دام ظله"
"... بالنسبة للزهري وأمثاله فقد وقف الإمام السجاد "عليه السلام" موقفاً حازماً وقاسياً جدّاً حيث يلحظ هذا من خلال الرسالة التي وجهها إليه، وقد يتساءل البعض إلى أي مدى يمكن أن تعكس "الرسالة" هذا الموقف الشديد، ولكن بالالتفات إلى شدّة اللهجة في مضمون هذه الرسالة الموجهة إلى نفس الزهري وكذلك بالنسبة للجهاز الحاكم وإنها لا تنحصر بمحمد بن شهاب بل كانت تقع في أيدي الآخرين وتنتقل عبر الألسن وتبقى عبر التاريخ...
بالالتفات إلى هذه الأمور، يمكن أن ندرك حجم الضربة التي وجهت للقداسة الشيطانية والاصطناعية لمثل أولئك العلماء. لقد كانت الرسالة خطاباً لمحمد بن شهاب ولكنها نالت من أشخاص آخرين على شاكلته. ومن المعلوم أن هذه الرسالة عندما تقع بأيدي المسلمين وبالأخص شيعة ذلك العصر وتنتقل عبر الأيدي فأي سقوط لهيبة هؤلاء ومكانتهم في الأعين؟
وهنا ننقل مقاطع من هذه الرسالة، في البداية يقول "عليه السلام":
"كفانا اللَّه وإياك من الفتن ورحمك من النار" (5).
في الجزء الثاني من هذه الجملة نجده يخصه بالخطاب، لماذا؟ لأن كل إنسان يتعرض للفتن حتى الإمام السجاد "عليه السلام" بدون أن يسقط فيها، ومحمد بن شهاب يتعرض للفتنة ولكنه سقط، أما بالنسبة لنار جهنم فإنها لا تقترب من الإمام زين العابدين "عليه السلام" ولهذا خصّ الكلام هنا الزهري.
وابتداء الرسالة بمثل هذه اللهجة دليل على تعامل الإمام معه بطريقة تحقير ومعاداة.
ثم يقول "عليه السلام":
"فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك..." (6).
ويذكر جملة من آيات القرآن ويقول أن اللَّه تعالى لن يرضى أبداً عن قصورك وتقصيرك لأنه سبحانه قد أمر العلماء بتبيين الحقائق للناس:
"لتبيننه للناس ولا تكتمونه" (7).
وبعد هذه المقدمة يحمل عليه بطريقة قاسية جداً بقوله "عليه السلام":
"واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت واجابتك له حين دعيت...".
والجملة المؤثرة جداً في هذه الفقرة عندما يقول "عليه السلام":
"أو ليس بدعائه إياك، حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليه إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم داعياً إلى غيّهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم".
ثم يقول "عليه السلام":
"فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم" (8).
في هذه الرسالة الشديدة اللهجة والبليغة يفضح الإمام السجاد تلك الحركة السياسية التي استغلت الفكر والعلم.
فأولئك الذين قبلوا مهادنة النظام أصبحوا مطالبين بالإجابة عن السؤال الذي بقي في المجتمع الإسلامي وسوف يبقى عبر التاريخ...".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار، ج46، ص229.
(2) الكافي، ج5، ص345.
(3) تحف العقول، الحرّاني، ص272، ط جماعة المدرسين قم.
(4) المصدر نفسه، ص95.
(5) بحار الأنوار، ج75، ص132.
(6) المصدر نفسه.
(7) سورة آل عمران، الآية/187.
(8) بحار الأنوار، ج75، ص132.
من كتاب خطوط عامة من سيرة الأئمة "ع"
في فكر الإمام القائد الخامنئي(دام ظله)ـ
تعليق