ومهما كانت قوة الحركة السياسية في عهد معاوية ، فإنها كانت ناراً تحت رماد الهدوء السياسي الذي فرضه معاوية على الساحة بدهائه المعروف وبوسائله المختلفة من توزيع الأموال والمناصب ثمناً لسكوت الطامعين ، وتوزيع العسل المسموم على الأحرار . وقد اشتهر عنه القول : إن لله جنوداً من عسل ..
وهكذا كانت التيارات السياسية تنتظر بفارغ الصبر هلاك معاوية . ومن هنا أصبحت واقعة كربلاء صاعقاً فجَّر الثورات في آفاق العالم الإسلامي ، لأنها جاءت في الوقت المناسب بعد هلاك وريث أبي سفيان ، داهية العرب ، فافتتحت عصر الثورات المناهضة للجاهلية المقنَّعة .
فبعد شهادة السبط الشهيد (ع) انتفضت مدينة الرسول ، وخلعت يزيد بن معاوية ، وقام عبد اللـه بــن
الزبير بمكة يطالب بالخلافة ، وثارت الكوفة بقيادة سليمان بن صرد ، ثم بقيادة المختار . وهكذا أصبحت الثورات والإنتفاضات صبغة الحياة السياسية في البلاد الإسلامية ، واسلوباً شاخصاً لمواجهة الطغيان والفساد . ولذلك فإننا نستطيع أن نسمي عهد الإمام السجاد (ع) ، خصوصاً في بداياته - منذ واقعة عاشوراء - عهد الثورات والإنتفاضات .
بيد أن الثورة بذاتها ليست هدفاً مقدساً ، وإنما الهدف المقدس هو تلك القيم المتسامية التي تحركها ، وإلاّ فان ضررها يكون أكبر من نفعها . أوليست الثورة بذاتها حالة تمرد على النظام وتعكِّر جو الأمن ، وتُثير الإضطراب ، وتُريق الدماء ؟ وبلى ، فهي - إذاً - حالة استثنائية لا يحمدها العقلاء ، ولكنها إنما تكتسب شرعيتها وقدسيتها من الغايات النبيلة التي تهدف إليها .
فلأنها تخرج الناس من ظلمات الركود والجهل والظلم إلى نور النشاط والعقل والعدالة ، أصبحت الثورة - بمعناها الشامل - صبغة حياة الأنبياء والأوصياء وعباد اللـه الابرار .
ولأنها تزيل عن قلوب الناس رين الغفلة واللامبالاة ، وعن تجمعاتهم سحابة الظلم والإعتداء ، وعن مجتمعهم كابوس الطغيان والفساد ، فقد أصبحت مسؤولية كلِّ حرٍّ أبيٍّ ، ووسامَ حقٍّ لكلِّ ذي كرامة وشرف ..
ومن هنا ركزت نصوص الوحي على هدف الثورات ضمن تعبير " القيام لله " وحيث قال ربُّنا سبحانه : { قُلْ اِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ } ( سبأ/46) .
وقال عزَّ وجلَّ : { قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ } (النساء/135) .
وهكذا كانت الحالة الثورية التي عمّت آفاق البلاد الإسلامية ببركة استشهاد الإمام الحسين (ع) ، بحاجة إلى هوية وصبغة ، وروح ، وقيم ، لكي تتكرس في ضمير الأمة ، ولا تصبح كشعلة السعف أو زوبعة الفنجان لا تلبث أن تتلاشى .. ولكي تتخذ مساراً رساليّاً مستقيماً ، ولا تصبح أداةً بيد كلِّ طامع أو متهوِّر كأمثال عبد اللـه بن الزبير وكغيره من الذين طفقوا يستفيدون منها بابشع صورة .
فهذا ابن الزبير يصعد المنبر بعد مقتل الإمام الحسين (ع) فيثني عليه ويلعن قاتله ويخلع يزيد . ولكن عندما أحس باستتباب الأمر له أظهر عداءً شديداً لآل البيت (ع) ، حتى أنه ترك الصلاة على جدهم النبي (ص) ، لكي لا يشمخوا بأنوفهم عند ذكره حسب قوله !
فمن أجل ألا تصبح الحالة الثورية مطية لكل من يهوى السلطة أو يبحث عن مجد مثل ابن الزبير ، جاء الإمام السجاد (ع) يعطي لتلك الحالة هويَّتها الرسالية ، وصبغتها الإلهية ، وروعتها التي تمثلت في قيم الوحي ، وسبيلها القويم الذي رسمته شريعة اللـه تعالى .
ولعل هذا أعظم دور قيادي قام به الإمام السجاد (ع) . ولم يكن هذا الدور نابعاً من حالة مزاجية عند الإمام (ع) أو لأنه شاهدَ مثلاً وقائع الطف الفظيعة ، فاصطبغت شخصيته بها . ولم يملك إلاّ البكاء والتفجّع والتبتّل والضراعة .
أجل ، إن تلك الحادثة كان لها أثرها البالغ في شخصيته الكريمة ، ولكن الإمام المعصوم (ع) يقوم بواجبه الإلهي ، وليس بما تمليه حالته النفسية . والشاهد على ذلك أن الإمام زين العابدين (ع) ، الذي اصطبغت شخصيته الكريمة بالتهجد والبكاء ، حمل رسالة عاشوراء بعد شهادة والده ، هو وعمّته عقيلة الهاشميين زينب (ع) . وما أدراك ما رسالة عاشوراء !. إنها رسالة الجرح الثائر ، والدم المنتصر ، والألم المتمرد ، والإنتفاضة التي لا تهدأ . أَوَما سمعت خطبته اللاهبة في أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من فاجعة الطف كيف أثارت فيهم دفائن العطف ، ونفضت عن أفئدتهم غبار الرهبة والتردد ، فقالوا له : مرنا بأمرك فإنّا مطيعون لأمرك ، لنأخذن يزيد ونتبرأ ممن ظلمك وظلمنا .
ولكنه قال لهم : " مسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا " .
وها نحن نستمع معاً إلى فقرات من تلك الخطبة الثائرة :
أومأ إلى الناس فسكتوا ، فحمد اللـه وصلَّى على النبيِّ ، ثم قال :
" أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أُعرِّفه بنفسي . أنا عليُّ بن الحسين بن علي ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات ، أنا ابن من هُتك حريمه ، وانتُهب ماله ، وسُلب نعيمه . فبأية عين تنظرون بها رسول اللـه (ص) إذا قال لكم : قتلتم عترتي ، وهتكتم حرمي ، فلستم من أمتي " ثم بكى (ع)
وعندما أُدخل أسيراً على ابن زياد الطاغية الذي زعم أنه انتصر على الخط الرسالي وإلى الأبد ، تحدَّاه الإمام (ع) وقال له :
" سوف نَقف وتَقفون ، ونُسأل وتُسألون ، فأيّ جواب تردُّون ، وبخصام جدِّنا إلى النار تُقادون " (3) .
فلما همّ ابن زياد بقتله قال له الإمام (ع) :
" أأنت تهددني بالقتل ؟. أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتُنا من اللـه الشهادة " ؟.
وكان موقفه من الطاغية يزيد ، ذلك المجرم الذي لم يدع جريمة شنيعة إلاّ وارتكبها في سني حكمه القصيرة ، كان موقفه قمة في التحدِّي ومثلاً أعلى في الجهاد بالكلمة الرافضة .
ومرة أخرى حينما نال خطيب يزيد في الجامع الأموي من آل بيت الرسول تصدَّى له الإمام السجاد (ع) قائلاً : " ويلك يا هذ الخاطب ، اشتريت مَرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوَّأ مقعدك من النار " .
ثم التفت إلى يزيد واستأذنه بصعود المنبر ، فلم يجد يزيد بدّاً من ذلك فلما تشرف به المنبر ألقى تلك الخطبة البليغة التي لايزال صداها يدوّي في الآفاق إلى اليوم .. وإلى أبد الآبدين .
وحينما هدم طاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة تصدَّى له الإمام (ع) وقال :
" يـا حجـــاج ، عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته ، كأنك ترى أنّه تـــراث لك . إصعد المنبر وانشد الناسَ أن لايبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردَّه " (4) .
وهكذا كانت سجية الإمام الشجاعة ، ولكن الظروف التي عاشها لم تكن تنقصها الثورة والشجاعة ، لأن واقعة الطف قد شحنت ضمير الأمة بالشجاعة بِما يكفيها لقرون متمادية ، وربما إلى الأبد . إنما كانت بحاجة إلى صبغة إيمانية تسمو بالثورة إلى أهدافها القيّمة ، وهكذا اتَّجه الإمام (ع) إليها .
فزعم السذج من الناس أن ذلك كان مزاجاً شخصيّاً . كما زعموا في مثل ذلك في الأنبياء . فمنهم من قال : إن تضحية إبراهيــــم وصبر نوح ، ووحدة موسى وزهد عيسى وخُلق محمد عليهم جميعاً صلوات اللــــه ، وسائر الصفات المتميزة لكل نبيٍّ من رُسل اللـه (ع) إنما كانت سمات شخصياتهم ، وحالاتهم المزاجية ، ناسيــــن أن اللـه تعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وأنه لا يجعل رسالته إلاّ حيث تقتضي حكمتـــه . وأن تلك الصفات التي تجلَّت بهم كانت ضرورية للظروف التي عاشوها والبشر الذين تعاملوا معهم . حتى ولو افترضنا جدلاً أن نبيّاً وُضِعَ في مقام نبيٍّ آخر لتبنّى سلوكه وعمل بمنهاجه ، بلا اختلاف قليل أو كثير .
وكالأنبياء يكون الأئمة ، فلكل واحد منهم صحيفة يعمل بها ، وقد كانت مرسومة ضمن السياق التاريخي الذي عاشه . وحسب تلك الصحيفة الإلهية عمل الإمام السجاد (ع) . الذي كانت حياته قمة في العبــــادة والضراعة ، وبثَّ روح الإيمان في المجتمع ، وتربية رجال متميزين في الزهد والتهجد ، من أمثـــال : الزهري ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد اللـه السبيعي ، وآخرين ..
وهكذا رسمت صحيفة السجاد (ع) منهاج إمامته فيما يبدو في التركيز على الجانب الروحي ، على أنه كان في طليعة مهامِّ سائر الأئمة (ع) ، إلاّ أن الحاجة إليه كان في عهد الإمام زين العابدين (ع) أشد ، ولذلك كان التركيز عليه أعظم . ولكن السؤال : كيف اضطلع الإمام بهذه المهمة ؟. وأي منهاج اتَّبعه لبلوغ هذا الهدف العظيم ؟
وهكذا كانت التيارات السياسية تنتظر بفارغ الصبر هلاك معاوية . ومن هنا أصبحت واقعة كربلاء صاعقاً فجَّر الثورات في آفاق العالم الإسلامي ، لأنها جاءت في الوقت المناسب بعد هلاك وريث أبي سفيان ، داهية العرب ، فافتتحت عصر الثورات المناهضة للجاهلية المقنَّعة .
فبعد شهادة السبط الشهيد (ع) انتفضت مدينة الرسول ، وخلعت يزيد بن معاوية ، وقام عبد اللـه بــن
الزبير بمكة يطالب بالخلافة ، وثارت الكوفة بقيادة سليمان بن صرد ، ثم بقيادة المختار . وهكذا أصبحت الثورات والإنتفاضات صبغة الحياة السياسية في البلاد الإسلامية ، واسلوباً شاخصاً لمواجهة الطغيان والفساد . ولذلك فإننا نستطيع أن نسمي عهد الإمام السجاد (ع) ، خصوصاً في بداياته - منذ واقعة عاشوراء - عهد الثورات والإنتفاضات .
بيد أن الثورة بذاتها ليست هدفاً مقدساً ، وإنما الهدف المقدس هو تلك القيم المتسامية التي تحركها ، وإلاّ فان ضررها يكون أكبر من نفعها . أوليست الثورة بذاتها حالة تمرد على النظام وتعكِّر جو الأمن ، وتُثير الإضطراب ، وتُريق الدماء ؟ وبلى ، فهي - إذاً - حالة استثنائية لا يحمدها العقلاء ، ولكنها إنما تكتسب شرعيتها وقدسيتها من الغايات النبيلة التي تهدف إليها .
فلأنها تخرج الناس من ظلمات الركود والجهل والظلم إلى نور النشاط والعقل والعدالة ، أصبحت الثورة - بمعناها الشامل - صبغة حياة الأنبياء والأوصياء وعباد اللـه الابرار .
ولأنها تزيل عن قلوب الناس رين الغفلة واللامبالاة ، وعن تجمعاتهم سحابة الظلم والإعتداء ، وعن مجتمعهم كابوس الطغيان والفساد ، فقد أصبحت مسؤولية كلِّ حرٍّ أبيٍّ ، ووسامَ حقٍّ لكلِّ ذي كرامة وشرف ..
ومن هنا ركزت نصوص الوحي على هدف الثورات ضمن تعبير " القيام لله " وحيث قال ربُّنا سبحانه : { قُلْ اِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ } ( سبأ/46) .
وقال عزَّ وجلَّ : { قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ } (النساء/135) .
وهكذا كانت الحالة الثورية التي عمّت آفاق البلاد الإسلامية ببركة استشهاد الإمام الحسين (ع) ، بحاجة إلى هوية وصبغة ، وروح ، وقيم ، لكي تتكرس في ضمير الأمة ، ولا تصبح كشعلة السعف أو زوبعة الفنجان لا تلبث أن تتلاشى .. ولكي تتخذ مساراً رساليّاً مستقيماً ، ولا تصبح أداةً بيد كلِّ طامع أو متهوِّر كأمثال عبد اللـه بن الزبير وكغيره من الذين طفقوا يستفيدون منها بابشع صورة .
فهذا ابن الزبير يصعد المنبر بعد مقتل الإمام الحسين (ع) فيثني عليه ويلعن قاتله ويخلع يزيد . ولكن عندما أحس باستتباب الأمر له أظهر عداءً شديداً لآل البيت (ع) ، حتى أنه ترك الصلاة على جدهم النبي (ص) ، لكي لا يشمخوا بأنوفهم عند ذكره حسب قوله !
فمن أجل ألا تصبح الحالة الثورية مطية لكل من يهوى السلطة أو يبحث عن مجد مثل ابن الزبير ، جاء الإمام السجاد (ع) يعطي لتلك الحالة هويَّتها الرسالية ، وصبغتها الإلهية ، وروعتها التي تمثلت في قيم الوحي ، وسبيلها القويم الذي رسمته شريعة اللـه تعالى .
ولعل هذا أعظم دور قيادي قام به الإمام السجاد (ع) . ولم يكن هذا الدور نابعاً من حالة مزاجية عند الإمام (ع) أو لأنه شاهدَ مثلاً وقائع الطف الفظيعة ، فاصطبغت شخصيته بها . ولم يملك إلاّ البكاء والتفجّع والتبتّل والضراعة .
أجل ، إن تلك الحادثة كان لها أثرها البالغ في شخصيته الكريمة ، ولكن الإمام المعصوم (ع) يقوم بواجبه الإلهي ، وليس بما تمليه حالته النفسية . والشاهد على ذلك أن الإمام زين العابدين (ع) ، الذي اصطبغت شخصيته الكريمة بالتهجد والبكاء ، حمل رسالة عاشوراء بعد شهادة والده ، هو وعمّته عقيلة الهاشميين زينب (ع) . وما أدراك ما رسالة عاشوراء !. إنها رسالة الجرح الثائر ، والدم المنتصر ، والألم المتمرد ، والإنتفاضة التي لا تهدأ . أَوَما سمعت خطبته اللاهبة في أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من فاجعة الطف كيف أثارت فيهم دفائن العطف ، ونفضت عن أفئدتهم غبار الرهبة والتردد ، فقالوا له : مرنا بأمرك فإنّا مطيعون لأمرك ، لنأخذن يزيد ونتبرأ ممن ظلمك وظلمنا .
ولكنه قال لهم : " مسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا " .
وها نحن نستمع معاً إلى فقرات من تلك الخطبة الثائرة :
أومأ إلى الناس فسكتوا ، فحمد اللـه وصلَّى على النبيِّ ، ثم قال :
" أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أُعرِّفه بنفسي . أنا عليُّ بن الحسين بن علي ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات ، أنا ابن من هُتك حريمه ، وانتُهب ماله ، وسُلب نعيمه . فبأية عين تنظرون بها رسول اللـه (ص) إذا قال لكم : قتلتم عترتي ، وهتكتم حرمي ، فلستم من أمتي " ثم بكى (ع)
وعندما أُدخل أسيراً على ابن زياد الطاغية الذي زعم أنه انتصر على الخط الرسالي وإلى الأبد ، تحدَّاه الإمام (ع) وقال له :
" سوف نَقف وتَقفون ، ونُسأل وتُسألون ، فأيّ جواب تردُّون ، وبخصام جدِّنا إلى النار تُقادون " (3) .
فلما همّ ابن زياد بقتله قال له الإمام (ع) :
" أأنت تهددني بالقتل ؟. أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتُنا من اللـه الشهادة " ؟.
وكان موقفه من الطاغية يزيد ، ذلك المجرم الذي لم يدع جريمة شنيعة إلاّ وارتكبها في سني حكمه القصيرة ، كان موقفه قمة في التحدِّي ومثلاً أعلى في الجهاد بالكلمة الرافضة .
ومرة أخرى حينما نال خطيب يزيد في الجامع الأموي من آل بيت الرسول تصدَّى له الإمام السجاد (ع) قائلاً : " ويلك يا هذ الخاطب ، اشتريت مَرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوَّأ مقعدك من النار " .
ثم التفت إلى يزيد واستأذنه بصعود المنبر ، فلم يجد يزيد بدّاً من ذلك فلما تشرف به المنبر ألقى تلك الخطبة البليغة التي لايزال صداها يدوّي في الآفاق إلى اليوم .. وإلى أبد الآبدين .
وحينما هدم طاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة تصدَّى له الإمام (ع) وقال :
" يـا حجـــاج ، عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته ، كأنك ترى أنّه تـــراث لك . إصعد المنبر وانشد الناسَ أن لايبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردَّه " (4) .
وهكذا كانت سجية الإمام الشجاعة ، ولكن الظروف التي عاشها لم تكن تنقصها الثورة والشجاعة ، لأن واقعة الطف قد شحنت ضمير الأمة بالشجاعة بِما يكفيها لقرون متمادية ، وربما إلى الأبد . إنما كانت بحاجة إلى صبغة إيمانية تسمو بالثورة إلى أهدافها القيّمة ، وهكذا اتَّجه الإمام (ع) إليها .
فزعم السذج من الناس أن ذلك كان مزاجاً شخصيّاً . كما زعموا في مثل ذلك في الأنبياء . فمنهم من قال : إن تضحية إبراهيــــم وصبر نوح ، ووحدة موسى وزهد عيسى وخُلق محمد عليهم جميعاً صلوات اللــــه ، وسائر الصفات المتميزة لكل نبيٍّ من رُسل اللـه (ع) إنما كانت سمات شخصياتهم ، وحالاتهم المزاجية ، ناسيــــن أن اللـه تعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وأنه لا يجعل رسالته إلاّ حيث تقتضي حكمتـــه . وأن تلك الصفات التي تجلَّت بهم كانت ضرورية للظروف التي عاشوها والبشر الذين تعاملوا معهم . حتى ولو افترضنا جدلاً أن نبيّاً وُضِعَ في مقام نبيٍّ آخر لتبنّى سلوكه وعمل بمنهاجه ، بلا اختلاف قليل أو كثير .
وكالأنبياء يكون الأئمة ، فلكل واحد منهم صحيفة يعمل بها ، وقد كانت مرسومة ضمن السياق التاريخي الذي عاشه . وحسب تلك الصحيفة الإلهية عمل الإمام السجاد (ع) . الذي كانت حياته قمة في العبــــادة والضراعة ، وبثَّ روح الإيمان في المجتمع ، وتربية رجال متميزين في الزهد والتهجد ، من أمثـــال : الزهري ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد اللـه السبيعي ، وآخرين ..
وهكذا رسمت صحيفة السجاد (ع) منهاج إمامته فيما يبدو في التركيز على الجانب الروحي ، على أنه كان في طليعة مهامِّ سائر الأئمة (ع) ، إلاّ أن الحاجة إليه كان في عهد الإمام زين العابدين (ع) أشد ، ولذلك كان التركيز عليه أعظم . ولكن السؤال : كيف اضطلع الإمام بهذه المهمة ؟. وأي منهاج اتَّبعه لبلوغ هذا الهدف العظيم ؟
تعليق