[frame="13 98"]
بسم الله الرحمن الرحيم
فلسفة سكوت عليٍّ واستنكار الزهراء
عليهم السلام
هناك تساؤلات كثيرة تدور في الأذهان وتتداول بين الألسن حول موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قبال أولئك الذين تقمَّصوا الخلافة بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله.
وهى تتلخص في:
1 عليٌّ عليه السلام ذلك الرجل الذي قتل أبطال العرب وناوش ذؤبانهم، هو الذي قدَّ مرحباً وعمرو بن عبد وُدّ وهو الذي كانت ضرباته وَتراً، كيف يمكن تصوُّر استسلامه للغاصبين ومن ثم إخراجه من البيت قهراً، وتهديده بالقتل؟
2 هل يمكننا أن نتصور أن الزهراء، وهي بنت رسول الله وفِلذة كبده وبضعته أن تضربَ ويكسرَ ضِلعُها ويُسقط جنينها بمرأى ومنظر من زوجها أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام؟ من غير أن يكون هناك أيُّ ردَّة فعل منه عليه السلام في قبال هذه الجريمة العظمى؟
3 ثم إن المسلمين عامَّةً هم الذين انتخبوا علياً خليفةً عليهم فلِمَ أكبُّوا بعد ذلك على مخالفته فخالفُوه وقاتلوه ثمَّ قتلوه في محرابه ظلماً؟
4 وأخيراً ما هي حصيلةُ السنوات الخمس التِّي استلم فيها عليٌّ إمرةَ المسلمين من الزاويتين العملية والنظرية؟
5 وما هو سرُّ سكوت الإمام المجتبى عليه السلام وصلحه مع معاوية من ناحيةٍ وصراخِ الإمام الحسين عليه السلام وخروجه على حكومة يزيد من ناحية أخرى ؟ وكذا مواقف سائر أئمَّتنا عليهم السلام السلميَّةِ ظاهراً.
وأيضاً:عشرات من الأسئلة في هذا المجال .
ومن الطبيعي أنَّ حلَّ هذه الشبهات له الدور الحيويّ المهمّ في مسيرة الإنسان المؤمن ومواقفه الرساليَّة ..فهل يمكننا الإجابة عليها وعلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول نفس المحور؟
أقـول:
إنَّ الغرض من كتابةِ هذه الكلمة المتواضعة هو الوصول إلى حلٍّ مناسب بالنسبة إلى مثل هذه الشبهات ودفعها منطقيّاً كي نكون على بصيرة في ديننا ومذهبنا فنعانقه من دون أيّ تزلزل وتشكيك.
فأقول: قبل الورود في البحث ينبغي تقديم مقدمات:
الأولى: الإسلام مدرسة متكاملة ومترابطة
الإسلام أطروحة متكامله تتركَّز على أسس وتشتمل على قوانين إلهية ثابتة لا يمكن أن يعتريها أيُّ خلل وترديد ، والهدف من الإسلام هو نفس الهدف من خلق الإنسان أعني العبودية والرجوع إلى الله سبحانه وهو إيصال الإنسان إلى الكمال المطلوب أعني القرب من الكمال المطلق وهو الله سبحانه. فالإسلام ليس هو إلاّ تجلٍّ من تجليات الحق المطلق جلَّ وعلا فلا بدَّ أن يظهر على جميع أصعدته وزواياه وهذا من لوازمه غير المنفكة عنه.
الثانية: أبعاد الإنسان الثلاثة
وحيث أن للإنسان أبعاداً ثلاثة البعد العقلي والبعد النفسي (الجوانحي) والبعد العملي (الجوارحي) فالإسلام أيضاً قد ركَّز في توجيهاته إلى هذه الجهات الثلاثة في الإنسان ولاحظها بعين الاعتبار فطرح لها أطروحات وبرمج لكل واحدة منها برنامج يتناسب معه وهي:
1 عقائد الإسلام التِّي تعالج الجانب العقلي للإنسان.
2 الأخلاق وهي ما تتعلق بشئون النفس الإنسانيَّة.
3 الأحكام العمليَّة وهي القوانين المختصة بجوارح الإنسان وما يصدر منه من خير و شر.
ولا يخفى على من له أدنى معرفة واطِّلاع على الإسلام أنَّ هناك ترابطاً قوياً وعلاقةً موثقة بين هذه الجوانب الثلاثة بحيث يستحيل التحلِّي بجانب مع غضِّ النظر عن الجانب الآخر.
مثال:
إعطاء الزكاة كواجب عملي يتوقَّف على قصد التقرب إليه تعالى كعقيدة وفي أسلوب العطاء والأخذ لا بدّ من التوجُّه إلى الجانب الروحي للمعطي والمعطى إليه {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(التوبة/103).
وعلى هذا الأساس نقول أنه لا بدَّ وأن يُطبَّق الإسلام بحذافيره وبأكمله من دون فصلٍ بين الأبعاد الثلاثةِ أصلاً ومن يُفكِّر في تطبيق جانبٍ واحدٍ من الإسلام مع غضِّ النظر عن الجوانب الأخر فتفكيره شطط ليس له أساس قويمٌ بل يبتني على الوهم والخيال.
وبعبـارة أخـرى:
(الإسلام وَحدَةٌ شاملة ومتكاملة ومتكاتفة ومنسجمة لن تتفرق ولن تتفكك أبداً، وتفكُّكها يعني فنائها بالمرَّة وتغيُّر ماهيتها إلى ماهيَّة أخري بل لو اختلفت الكمِّية والكيفيَّة في قبول أو ردّ معالمه لتغيَّرت الماهية أيضاً فلا بد من مراعاة الكميَّة والكيفيَّة في تلك الأبعاد الثلاثة لئلاّ ينجرّ الأمر إلى تضخَّم جانبٍ وضعف جانب آخر).
وذلك كالأوكسجين والهيدروجين فمن اللزام أن يتكوَّنا معاً ليُشكِّلا الماء كما أنّه لا بدَّ من رعاية النسبة بينهما كمّاً وكيفاً حصولاً على النتيجة فمع بروز أدنى اختلاف بين العنصرين سوف لا يبقى شيءٌ يُطلق عليه اسم الماء.
ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ على الإيمان بالكلِّ لا بالبعض سواء الكتاب أو الرسل أو أيّ شيء يرتبط بالدين.
قال تعالى:
{..أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة/85).
وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً*أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (النساء/150،151).
الثالثة: الدولة الإسلاميَّة العالميَّة
مضافاً إلى أنه لا بدَّ من وجود دولة مقتدرة بأجهزتها القويَّة ورجالها المؤمنين، تستهدف التنسيق بين هذه الجوانب الثلاثة من الإسلام كي تُركِّز هذه الشجرة الطيِّبة جذورها فيرتفع أساسها فتتوزَّع وتنتشر أغصانها فتثمر فيأكل من ثمرها. فإذا يستحيل أن نطبق الإسلام في حياتنا بمعنى الكلمة إلاّ مع تأسيس دولة عالميَّة تستوعب أو بالأحرى تتسلَّط على جميع أرجاء البسيطة من غير استثناءٍ لمنطقة دون أخرى فكلُّ الأرض تكون تحت سلطة الإسلام وهذا لا ينافي وجود كفّار فيها مادام الحكم للإسلام. فلا معنى لطرح دولة إسلامية في هذا المكان وذاك كدولة مستقلة تستهدف تطبيق بعض أو كلِّ جوانب الإسلام عملاً ولا تحمل إيديولوجية الإسلام العالمي أو تجعل هذه الغاية في المراحل المتأخرة من أفكارها. بل لو نظرنا نظرة شاملة إلى الكون وعرفنا خالقه لوصلنا إلى حقيقة أخرى وهي أنَّ الإسلام لا ينظر إلى البشرية منحصرة بل يستوعب ويُخيِّم على كلَّ زوايا الكون وجميع العوالم من الإنس والجن حتى عالم الجمادات والنباتات والحيوانات وحتى في الكواكب الأخرى حيث أنّ كلّ تلك العوالم لها نوعٌ من العلاقة بالإنسان.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم ودولة إسلاميّة عالميَّة
ومن هذا المنطلق شرع رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تأسيس دولة إسلامية من البداية تستهدف تطبيق الإسلام بجميع جوانبه وأبعاده وإزالة جميع الظواهر الزائفة الموروثة من الجاهليَّة فكتب إلى ملكي الفرس والروم آنذاك كتباً لأجل أن يهتديا وقومهما إلى الدين الإسلامي ويتحررا من عبودية غير الله. وقد استطاع الرسول صلى الله عليه و آله وسلم -بسعيه المتواصل ودعمٍ من أخيه ووزيره عليٍّ عليه السلام وعدد قليل من الصحابة المخلصين- أن يكتسب النجاح في المدَّة القليلة على رغم كلّ ما عاناه من مصاعبَ ومشاكل وأذى (ما أوذي نبيٌّ بمثل ما أوذيت)سواء من الكفّار الملحدين أو من المنافقين الحاقدين. فقد انبثق نور الإسلام وانتشر صيتُه وتوسعت دولته إلى أقصى العالم حتّى دخل الفرس والروم وحبشة وذلك لا على مستوى عامّة الناس فحسب بل شمل حتّى رجال الدولة وأصحاب المناصب المختلفة.
الإسلام كان غريباً غير مألوف
بعد ما كان الإسلام غريباً وذلك لأنَّ القيَم الإسلامية بطبيعتها لا تنسجم مع الوضع الذي كان يسود الجاهلية وذلك لاشتمال الإسلام على الجانب التعبدي الذي لا يلائم تلك الذهنيات التّي لم تترسخ فيها سوى الدنيا وسوى المادة وما يحوم حول المادة، فقد انتشر الإسلام المحمَّدي في أنحاء البلاد وأخذت الأفكار الإسلامية تتمركز في الأذهان وتعثر على مكانتها في المجتمع وأخذ المسلمون يستأنسون بالإسلام شيئاً فشيئاً حتّى صار تنفيذ حكم الله في مجتمعهم أمراً مألوفاّ وصار المسلمون يتعاملون مع الإسلام تعاملاً طبيعياً بعد ما كان غريباً عندهم غير مأنوس به.
المفروض و الواقع
المفروض أن يستلم الخلافة عليٌّ عليه السلام ويسير على نفس الأسلوب الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينتقل الحكم من إمامٍ إلى إمام حتَّى يأتي دور المهدي المنتظر عجلَّ الله تعالى فرجه الشريف فيملأ الله به الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً. ولكن الواقع كان خلاف ذلك حيث تسلَّم زمام الأمر من لا يليق به ولا أهليَّة له.
البـداية السـوداء
بمجرد أن رُسخت قواعد خلافة أول الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله اللاّشرعيَّة بدأ الوضع يتغيّر شيئاً فشيئاً، وبدأت المعادلات تنعكس.
واستمرَّ الوضع الجديد إلى أن وصل إلى مرحلة خطيرة حيث أخذ حكُّام المسلمين ينسقون أفكارهم وأعمالهم مع الحضارات الدخيلة وعلى رأسها الروم والفرس فحاولوا تكييفَ أنفسهم مع المجتمعات المحاطة بهم وأخذوا في تنسيق برامجهم طبقاً لتلك الحضارات المزيّفة وذلك في جميع أبعادها حتى العقائديّة والأخلاقية!!..(والناس على دين ملوكهم) وهؤلاء نسَوا أو تغافَلوا عن أن للإسلام حضارةً وإيديولوجية مميزة تنبثق من الوحي والغيب وترتبط بالله الواحد القهار. وتدريجاً انقلب الإسلام الغريب عند المِلل غير المسلمة المأنوس لدى المسلمين إلى إسلام مأنوسٍ لدى الكلّ حتى الكفار والمنافقين لا يستوحش منه أحد إلاّ المسلمُ الحقيقيّ!!
والحاصل أن الجـوّ العام الذي أوجده الخلفاء بين المسلمين كان مصبوغاً بصبغةٍ خاصَّــة تتلائم والواقعَ المعاش آنذاك وذلك بقيمة تضحية الإسلام، ومسخه تماماً بل قلبه وجهاً على عقب وحينئذٍ تحققت مصداقيَّة قوله تعالى:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(آل عمران/144).
فانحرف المسلون وتغيَّرت السنن وقلبت القيم، ومن ثَمَّ خَسِر المسلمون تلك الفرصة الذهبية التي أوجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وضحّى من أجلها بأبرز أنصاره، وكانت هي الخسارة العظمى التي جرَّت العالم الإسلامي إلى الخسائر المتوالية.
والتاريخ الإسلاميّ خير دليل على ما ندعيه فمن أراد أن يتطلَّع على جزئيّات الأمر فليراجع التاريخ.
السّـقيفة و آثـارها
فهنا وقعت الجريمة العظمى وهي جريمة الانحراف والإغفال ومن ثَمّ إحراف المُغفَلين وإغوائهم من زاوية وغرس شجرة النفاق ورعرعتها من زاوية أخرى.. ويالها من جريمة غبراء قاسية!! تلك الفجيعة الفضيعة التي نشأت من السقيفة السخيفة إلاّ فهي مبدأ كلِّ عثرة وزلّة فجميع الفروع الخبيثة ليست هي إلاّ من تلك الشجرة المشومة.
البناء المعوج
يقول أحد شعراء الفرس:
خِشت أول جون نهاد بنا كج تا ثريّا ميرود بنيان كج
أي أنَّ البنّاء حيث وضع الأساس للبناء وضعاً معوجّاً فسوف يعوج البناء مهما يُرتفع إلى الثريا. ومن الواضح أنَّ الذنب والعتاب كلُّه يُوجَّه إلى أوَّل من أسس أساس الظلم والجور ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ في الأحاديث(كالأحاديث التِّي تتحدَّث حول يوم الإثنين وأنَّه يوم نحس قبض الله عز وجل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلاّ في يوم الإثنين فيتشائم أئمتنا عليهم السلام به وتتبرك به عدوُّهم) وأيضاً الزيارات خصوصاً زيارة عاشوراء، وأشعار كبار شعراء الإماميّة كدعبل الخزاعي وكبار العلماء كالعلامَّة الشيخ محمَّد حسين الإصفهاني قدس سرُّه بل حتّى بعض علماء العامَّة على هذه الحقيقة وتفصيل هذا الأمر سوف نذكره في موضع آخر فانتظر.
أمير المؤمنين عليه السلام والخلافة
وهذا الوضع أو بالأحرى الجريمة استمرت ربع قرن -وليس بقليل- إلى أن استلم الحكم وبعد اللتيا والتي أميرُ المؤمنين علي عليه السلام. استلمها بعد ماذا؟؟ بعد أن تغيرت جميع القيم والأسس التي بناها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
فماذا يصنع عليُّ إذاً..؟؟
غير أن يصرخ في وجه المسلمين الذين أرادوا أن يبايعوه:
((دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكرت واعلموا إنِّى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أَصغَ إلى قول القائل وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيرا خير لكم منى أميراً))(نهج البلاغه ابن أبي الحديد ج7 باب91 ص33)
قال ابن أبي الحديد:
ومعنى قوله: الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت إنَّ الشبهة قد استولت على العقول والقلوب وجهل أكثر الناس محجة الحق أين هي، فأنا لكم وزيراً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، أُفتى فيكم بشريعته وأحكامه خير لكم مني أميراً محجوراً عليه مدبَّراً بتدبيركم، فإنّي أعلم أنه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله صلي الله عليه وآله في أصحابه مستقلاً بالتدبير لفساد أحوالكم وتعذر صلاحكم.
أقـول:
بقيت تلك الجذور الخبيثة متركّزة رغم محاولات أمير المؤمنين عليه السلام في أيام خلافته، وحيث قد عوّدوا المسلمين على نمطٍ خاص من العيشة فلم يمكنهم أن ينسِّقوا معيشتهم وأفكارهم مع ما أراده أمير المؤمنين عليه السلام بل لم يكونوا يستوعبون أسلوب عليٍ في الحكم الذي كان هو أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يتقبلوا عدالة عليٍ وقسطه وكما قال أحدهم "عدلُ عليٍّ قتله."
التكليف المزدوج بعد ارتحال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلَّم
(السكوت والصراخ)
مثـال:
لو وقعت سرقه كبيرة في بيت فيه أطفال وفيه أموال كثيرة تهمُّ السارقين لأنهم قد خطَّطوا تخطيطاً مستقبلياً شاملاً لبناء مشروع يبتنى على هذه الأموال.. ولا يمكنهم الغضّ والتغافل عنها أبداً، ومن ناحية أخرى تلك الأموال لها أهمية لصاحبها وتشكل العصب الرئيسي في حياتهم مضافا إلى الأشياء الأثرية الثمينة التي لا يمكنهم التخلِّي عنها.
فيدور الأمر بين حالات ثلاثة لها نتائج مختلفة:
1الصراخ وإخبار الناس عن السرقة من أهل البيت جميعاً وبالنتيجة حرق البيت ومن فيه وما فيه.
2التزام السكوت والهدوء من جميع العائلة وإسكات الآخرين وأيضا خلق جو إعلامي يؤكِّد للناس أن البيت وما فيه لم يسرق بل قد بِيع على هؤلاء في مقابل ثمن فالبيت إذا هو حقُّهم الشرعي والقانوني وليس لصاحبه الأول المطالبة به أصلا.
3التزام الهدوء من صاحب البيت وتحريض الأولاد على السكوت حفاظاً على البيت علماً بأن هناك من يُعلن عن السارقين (وهي الأم) ويصرخ في وجههم لأجل أخذ وثائق البيت ليس إلاّ.. (والمفروض أنَّ الوثائق مسجله باسمها).
فهنا نواجه ازدواجية المواقف موقف الوالد والأولاد وموقف الأم والمفروض على الوالد أن يُهدِّأ الكل، ولكن الأم لا تسكتْ حيث تطالب بحقِّها وهي الوثائق والمستندات، ولن تسمح بأن يسجَّل البيت باسم الغاصبين وإن أدَّى ذلك إلى موتها حيث يترجَّح ذلك الأهم على هذا المهمّ، حيث أنَّه من الطبيعي أن يرجع البيت بالأخير إلى صاحبه وإن طال الأمد عليه.
[/frame]
بسم الله الرحمن الرحيم
فلسفة سكوت عليٍّ واستنكار الزهراء
عليهم السلام
هناك تساؤلات كثيرة تدور في الأذهان وتتداول بين الألسن حول موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قبال أولئك الذين تقمَّصوا الخلافة بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله.
وهى تتلخص في:
1 عليٌّ عليه السلام ذلك الرجل الذي قتل أبطال العرب وناوش ذؤبانهم، هو الذي قدَّ مرحباً وعمرو بن عبد وُدّ وهو الذي كانت ضرباته وَتراً، كيف يمكن تصوُّر استسلامه للغاصبين ومن ثم إخراجه من البيت قهراً، وتهديده بالقتل؟
2 هل يمكننا أن نتصور أن الزهراء، وهي بنت رسول الله وفِلذة كبده وبضعته أن تضربَ ويكسرَ ضِلعُها ويُسقط جنينها بمرأى ومنظر من زوجها أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام؟ من غير أن يكون هناك أيُّ ردَّة فعل منه عليه السلام في قبال هذه الجريمة العظمى؟
3 ثم إن المسلمين عامَّةً هم الذين انتخبوا علياً خليفةً عليهم فلِمَ أكبُّوا بعد ذلك على مخالفته فخالفُوه وقاتلوه ثمَّ قتلوه في محرابه ظلماً؟
4 وأخيراً ما هي حصيلةُ السنوات الخمس التِّي استلم فيها عليٌّ إمرةَ المسلمين من الزاويتين العملية والنظرية؟
5 وما هو سرُّ سكوت الإمام المجتبى عليه السلام وصلحه مع معاوية من ناحيةٍ وصراخِ الإمام الحسين عليه السلام وخروجه على حكومة يزيد من ناحية أخرى ؟ وكذا مواقف سائر أئمَّتنا عليهم السلام السلميَّةِ ظاهراً.
وأيضاً:عشرات من الأسئلة في هذا المجال .
ومن الطبيعي أنَّ حلَّ هذه الشبهات له الدور الحيويّ المهمّ في مسيرة الإنسان المؤمن ومواقفه الرساليَّة ..فهل يمكننا الإجابة عليها وعلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول نفس المحور؟
أقـول:
إنَّ الغرض من كتابةِ هذه الكلمة المتواضعة هو الوصول إلى حلٍّ مناسب بالنسبة إلى مثل هذه الشبهات ودفعها منطقيّاً كي نكون على بصيرة في ديننا ومذهبنا فنعانقه من دون أيّ تزلزل وتشكيك.
فأقول: قبل الورود في البحث ينبغي تقديم مقدمات:
الأولى: الإسلام مدرسة متكاملة ومترابطة
الإسلام أطروحة متكامله تتركَّز على أسس وتشتمل على قوانين إلهية ثابتة لا يمكن أن يعتريها أيُّ خلل وترديد ، والهدف من الإسلام هو نفس الهدف من خلق الإنسان أعني العبودية والرجوع إلى الله سبحانه وهو إيصال الإنسان إلى الكمال المطلوب أعني القرب من الكمال المطلق وهو الله سبحانه. فالإسلام ليس هو إلاّ تجلٍّ من تجليات الحق المطلق جلَّ وعلا فلا بدَّ أن يظهر على جميع أصعدته وزواياه وهذا من لوازمه غير المنفكة عنه.
الثانية: أبعاد الإنسان الثلاثة
وحيث أن للإنسان أبعاداً ثلاثة البعد العقلي والبعد النفسي (الجوانحي) والبعد العملي (الجوارحي) فالإسلام أيضاً قد ركَّز في توجيهاته إلى هذه الجهات الثلاثة في الإنسان ولاحظها بعين الاعتبار فطرح لها أطروحات وبرمج لكل واحدة منها برنامج يتناسب معه وهي:
1 عقائد الإسلام التِّي تعالج الجانب العقلي للإنسان.
2 الأخلاق وهي ما تتعلق بشئون النفس الإنسانيَّة.
3 الأحكام العمليَّة وهي القوانين المختصة بجوارح الإنسان وما يصدر منه من خير و شر.
ولا يخفى على من له أدنى معرفة واطِّلاع على الإسلام أنَّ هناك ترابطاً قوياً وعلاقةً موثقة بين هذه الجوانب الثلاثة بحيث يستحيل التحلِّي بجانب مع غضِّ النظر عن الجانب الآخر.
مثال:
إعطاء الزكاة كواجب عملي يتوقَّف على قصد التقرب إليه تعالى كعقيدة وفي أسلوب العطاء والأخذ لا بدّ من التوجُّه إلى الجانب الروحي للمعطي والمعطى إليه {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(التوبة/103).
وعلى هذا الأساس نقول أنه لا بدَّ وأن يُطبَّق الإسلام بحذافيره وبأكمله من دون فصلٍ بين الأبعاد الثلاثةِ أصلاً ومن يُفكِّر في تطبيق جانبٍ واحدٍ من الإسلام مع غضِّ النظر عن الجوانب الأخر فتفكيره شطط ليس له أساس قويمٌ بل يبتني على الوهم والخيال.
وبعبـارة أخـرى:
(الإسلام وَحدَةٌ شاملة ومتكاملة ومتكاتفة ومنسجمة لن تتفرق ولن تتفكك أبداً، وتفكُّكها يعني فنائها بالمرَّة وتغيُّر ماهيتها إلى ماهيَّة أخري بل لو اختلفت الكمِّية والكيفيَّة في قبول أو ردّ معالمه لتغيَّرت الماهية أيضاً فلا بد من مراعاة الكميَّة والكيفيَّة في تلك الأبعاد الثلاثة لئلاّ ينجرّ الأمر إلى تضخَّم جانبٍ وضعف جانب آخر).
وذلك كالأوكسجين والهيدروجين فمن اللزام أن يتكوَّنا معاً ليُشكِّلا الماء كما أنّه لا بدَّ من رعاية النسبة بينهما كمّاً وكيفاً حصولاً على النتيجة فمع بروز أدنى اختلاف بين العنصرين سوف لا يبقى شيءٌ يُطلق عليه اسم الماء.
ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ على الإيمان بالكلِّ لا بالبعض سواء الكتاب أو الرسل أو أيّ شيء يرتبط بالدين.
قال تعالى:
{..أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة/85).
وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً*أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (النساء/150،151).
الثالثة: الدولة الإسلاميَّة العالميَّة
مضافاً إلى أنه لا بدَّ من وجود دولة مقتدرة بأجهزتها القويَّة ورجالها المؤمنين، تستهدف التنسيق بين هذه الجوانب الثلاثة من الإسلام كي تُركِّز هذه الشجرة الطيِّبة جذورها فيرتفع أساسها فتتوزَّع وتنتشر أغصانها فتثمر فيأكل من ثمرها. فإذا يستحيل أن نطبق الإسلام في حياتنا بمعنى الكلمة إلاّ مع تأسيس دولة عالميَّة تستوعب أو بالأحرى تتسلَّط على جميع أرجاء البسيطة من غير استثناءٍ لمنطقة دون أخرى فكلُّ الأرض تكون تحت سلطة الإسلام وهذا لا ينافي وجود كفّار فيها مادام الحكم للإسلام. فلا معنى لطرح دولة إسلامية في هذا المكان وذاك كدولة مستقلة تستهدف تطبيق بعض أو كلِّ جوانب الإسلام عملاً ولا تحمل إيديولوجية الإسلام العالمي أو تجعل هذه الغاية في المراحل المتأخرة من أفكارها. بل لو نظرنا نظرة شاملة إلى الكون وعرفنا خالقه لوصلنا إلى حقيقة أخرى وهي أنَّ الإسلام لا ينظر إلى البشرية منحصرة بل يستوعب ويُخيِّم على كلَّ زوايا الكون وجميع العوالم من الإنس والجن حتى عالم الجمادات والنباتات والحيوانات وحتى في الكواكب الأخرى حيث أنّ كلّ تلك العوالم لها نوعٌ من العلاقة بالإنسان.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم ودولة إسلاميّة عالميَّة
ومن هذا المنطلق شرع رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تأسيس دولة إسلامية من البداية تستهدف تطبيق الإسلام بجميع جوانبه وأبعاده وإزالة جميع الظواهر الزائفة الموروثة من الجاهليَّة فكتب إلى ملكي الفرس والروم آنذاك كتباً لأجل أن يهتديا وقومهما إلى الدين الإسلامي ويتحررا من عبودية غير الله. وقد استطاع الرسول صلى الله عليه و آله وسلم -بسعيه المتواصل ودعمٍ من أخيه ووزيره عليٍّ عليه السلام وعدد قليل من الصحابة المخلصين- أن يكتسب النجاح في المدَّة القليلة على رغم كلّ ما عاناه من مصاعبَ ومشاكل وأذى (ما أوذي نبيٌّ بمثل ما أوذيت)سواء من الكفّار الملحدين أو من المنافقين الحاقدين. فقد انبثق نور الإسلام وانتشر صيتُه وتوسعت دولته إلى أقصى العالم حتّى دخل الفرس والروم وحبشة وذلك لا على مستوى عامّة الناس فحسب بل شمل حتّى رجال الدولة وأصحاب المناصب المختلفة.
الإسلام كان غريباً غير مألوف
بعد ما كان الإسلام غريباً وذلك لأنَّ القيَم الإسلامية بطبيعتها لا تنسجم مع الوضع الذي كان يسود الجاهلية وذلك لاشتمال الإسلام على الجانب التعبدي الذي لا يلائم تلك الذهنيات التّي لم تترسخ فيها سوى الدنيا وسوى المادة وما يحوم حول المادة، فقد انتشر الإسلام المحمَّدي في أنحاء البلاد وأخذت الأفكار الإسلامية تتمركز في الأذهان وتعثر على مكانتها في المجتمع وأخذ المسلمون يستأنسون بالإسلام شيئاً فشيئاً حتّى صار تنفيذ حكم الله في مجتمعهم أمراً مألوفاّ وصار المسلمون يتعاملون مع الإسلام تعاملاً طبيعياً بعد ما كان غريباً عندهم غير مأنوس به.
المفروض و الواقع
المفروض أن يستلم الخلافة عليٌّ عليه السلام ويسير على نفس الأسلوب الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينتقل الحكم من إمامٍ إلى إمام حتَّى يأتي دور المهدي المنتظر عجلَّ الله تعالى فرجه الشريف فيملأ الله به الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً. ولكن الواقع كان خلاف ذلك حيث تسلَّم زمام الأمر من لا يليق به ولا أهليَّة له.
البـداية السـوداء
بمجرد أن رُسخت قواعد خلافة أول الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله اللاّشرعيَّة بدأ الوضع يتغيّر شيئاً فشيئاً، وبدأت المعادلات تنعكس.
واستمرَّ الوضع الجديد إلى أن وصل إلى مرحلة خطيرة حيث أخذ حكُّام المسلمين ينسقون أفكارهم وأعمالهم مع الحضارات الدخيلة وعلى رأسها الروم والفرس فحاولوا تكييفَ أنفسهم مع المجتمعات المحاطة بهم وأخذوا في تنسيق برامجهم طبقاً لتلك الحضارات المزيّفة وذلك في جميع أبعادها حتى العقائديّة والأخلاقية!!..(والناس على دين ملوكهم) وهؤلاء نسَوا أو تغافَلوا عن أن للإسلام حضارةً وإيديولوجية مميزة تنبثق من الوحي والغيب وترتبط بالله الواحد القهار. وتدريجاً انقلب الإسلام الغريب عند المِلل غير المسلمة المأنوس لدى المسلمين إلى إسلام مأنوسٍ لدى الكلّ حتى الكفار والمنافقين لا يستوحش منه أحد إلاّ المسلمُ الحقيقيّ!!
والحاصل أن الجـوّ العام الذي أوجده الخلفاء بين المسلمين كان مصبوغاً بصبغةٍ خاصَّــة تتلائم والواقعَ المعاش آنذاك وذلك بقيمة تضحية الإسلام، ومسخه تماماً بل قلبه وجهاً على عقب وحينئذٍ تحققت مصداقيَّة قوله تعالى:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(آل عمران/144).
فانحرف المسلون وتغيَّرت السنن وقلبت القيم، ومن ثَمَّ خَسِر المسلمون تلك الفرصة الذهبية التي أوجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وضحّى من أجلها بأبرز أنصاره، وكانت هي الخسارة العظمى التي جرَّت العالم الإسلامي إلى الخسائر المتوالية.
والتاريخ الإسلاميّ خير دليل على ما ندعيه فمن أراد أن يتطلَّع على جزئيّات الأمر فليراجع التاريخ.
السّـقيفة و آثـارها
فهنا وقعت الجريمة العظمى وهي جريمة الانحراف والإغفال ومن ثَمّ إحراف المُغفَلين وإغوائهم من زاوية وغرس شجرة النفاق ورعرعتها من زاوية أخرى.. ويالها من جريمة غبراء قاسية!! تلك الفجيعة الفضيعة التي نشأت من السقيفة السخيفة إلاّ فهي مبدأ كلِّ عثرة وزلّة فجميع الفروع الخبيثة ليست هي إلاّ من تلك الشجرة المشومة.
البناء المعوج
يقول أحد شعراء الفرس:
خِشت أول جون نهاد بنا كج تا ثريّا ميرود بنيان كج
أي أنَّ البنّاء حيث وضع الأساس للبناء وضعاً معوجّاً فسوف يعوج البناء مهما يُرتفع إلى الثريا. ومن الواضح أنَّ الذنب والعتاب كلُّه يُوجَّه إلى أوَّل من أسس أساس الظلم والجور ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ في الأحاديث(كالأحاديث التِّي تتحدَّث حول يوم الإثنين وأنَّه يوم نحس قبض الله عز وجل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلاّ في يوم الإثنين فيتشائم أئمتنا عليهم السلام به وتتبرك به عدوُّهم) وأيضاً الزيارات خصوصاً زيارة عاشوراء، وأشعار كبار شعراء الإماميّة كدعبل الخزاعي وكبار العلماء كالعلامَّة الشيخ محمَّد حسين الإصفهاني قدس سرُّه بل حتّى بعض علماء العامَّة على هذه الحقيقة وتفصيل هذا الأمر سوف نذكره في موضع آخر فانتظر.
أمير المؤمنين عليه السلام والخلافة
وهذا الوضع أو بالأحرى الجريمة استمرت ربع قرن -وليس بقليل- إلى أن استلم الحكم وبعد اللتيا والتي أميرُ المؤمنين علي عليه السلام. استلمها بعد ماذا؟؟ بعد أن تغيرت جميع القيم والأسس التي بناها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
فماذا يصنع عليُّ إذاً..؟؟
غير أن يصرخ في وجه المسلمين الذين أرادوا أن يبايعوه:
((دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكرت واعلموا إنِّى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أَصغَ إلى قول القائل وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيرا خير لكم منى أميراً))(نهج البلاغه ابن أبي الحديد ج7 باب91 ص33)
قال ابن أبي الحديد:
ومعنى قوله: الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت إنَّ الشبهة قد استولت على العقول والقلوب وجهل أكثر الناس محجة الحق أين هي، فأنا لكم وزيراً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، أُفتى فيكم بشريعته وأحكامه خير لكم مني أميراً محجوراً عليه مدبَّراً بتدبيركم، فإنّي أعلم أنه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله صلي الله عليه وآله في أصحابه مستقلاً بالتدبير لفساد أحوالكم وتعذر صلاحكم.
أقـول:
بقيت تلك الجذور الخبيثة متركّزة رغم محاولات أمير المؤمنين عليه السلام في أيام خلافته، وحيث قد عوّدوا المسلمين على نمطٍ خاص من العيشة فلم يمكنهم أن ينسِّقوا معيشتهم وأفكارهم مع ما أراده أمير المؤمنين عليه السلام بل لم يكونوا يستوعبون أسلوب عليٍ في الحكم الذي كان هو أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يتقبلوا عدالة عليٍ وقسطه وكما قال أحدهم "عدلُ عليٍّ قتله."
التكليف المزدوج بعد ارتحال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلَّم
(السكوت والصراخ)
مثـال:
لو وقعت سرقه كبيرة في بيت فيه أطفال وفيه أموال كثيرة تهمُّ السارقين لأنهم قد خطَّطوا تخطيطاً مستقبلياً شاملاً لبناء مشروع يبتنى على هذه الأموال.. ولا يمكنهم الغضّ والتغافل عنها أبداً، ومن ناحية أخرى تلك الأموال لها أهمية لصاحبها وتشكل العصب الرئيسي في حياتهم مضافا إلى الأشياء الأثرية الثمينة التي لا يمكنهم التخلِّي عنها.
فيدور الأمر بين حالات ثلاثة لها نتائج مختلفة:
1الصراخ وإخبار الناس عن السرقة من أهل البيت جميعاً وبالنتيجة حرق البيت ومن فيه وما فيه.
2التزام السكوت والهدوء من جميع العائلة وإسكات الآخرين وأيضا خلق جو إعلامي يؤكِّد للناس أن البيت وما فيه لم يسرق بل قد بِيع على هؤلاء في مقابل ثمن فالبيت إذا هو حقُّهم الشرعي والقانوني وليس لصاحبه الأول المطالبة به أصلا.
3التزام الهدوء من صاحب البيت وتحريض الأولاد على السكوت حفاظاً على البيت علماً بأن هناك من يُعلن عن السارقين (وهي الأم) ويصرخ في وجههم لأجل أخذ وثائق البيت ليس إلاّ.. (والمفروض أنَّ الوثائق مسجله باسمها).
فهنا نواجه ازدواجية المواقف موقف الوالد والأولاد وموقف الأم والمفروض على الوالد أن يُهدِّأ الكل، ولكن الأم لا تسكتْ حيث تطالب بحقِّها وهي الوثائق والمستندات، ولن تسمح بأن يسجَّل البيت باسم الغاصبين وإن أدَّى ذلك إلى موتها حيث يترجَّح ذلك الأهم على هذا المهمّ، حيث أنَّه من الطبيعي أن يرجع البيت بالأخير إلى صاحبه وإن طال الأمد عليه.
[/frame]
تعليق