الصفحة (206)
ما ذاك أيها الأمير ؟
فصاح به الطاغية : إيه يا هانئ ! ما هذه الأمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ ؟
فأنكر هانئ وقال : ما فعلت ذلك ، وما مسلم عندي .
ـ بلى ، قد فعلت .
وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما ، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع , فدعا الجاسوس معقلاً ، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ : أتعرف هذا ؟
ـ نعم .
وأسقط ما في يدي هانئ , وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف ، فقال لابن مرجانة : قد كان الذي بلغك ، ولن أضيع يدك عندي(1) ؛ تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم ؛ فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك(2) .
وثار ابن زياد فرفع صوته : والله ، لا تفارقني حتّى تأتيني به ـ أي بمسلم ـ .
وسخر منه هانئ ، وردّ عليه : لا آتيك بضيفي أبداً .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
(2) مروج الذهب 3 / 7 .
الصفحة (207)
وطال الجدال بين هانئ وبين ابن مرجانة ، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يتخلّى بهانئ ليقنعه , فسمح له بذلك , فاختلى به وقال له : يا هانئ ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك ؛ إنّ هذا الرجل ـ يعني مسلماً ـ ابن عمّ القوم ، وليسوا بقاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليه ، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنّما تدفعه إلى السلطان .
ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص ؛ فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً ، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ ، فكيف يسلّم وافد آل محمّد إلى هذا الإنسان الممسوخ ؟
وقال هانئ : بلى والله ، عليَّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (

وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة . ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد : أيّها الأمير ، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يُقتل(1) .
والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به : أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك .
فلم يعبأ به هانئ ، وقال : إذن تكثر البارقة حولك(2) .
فثار ابن مرجانة وقال :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (

(2) البارقة : السيوف .
الصفحة (208)
والهفا عليك ! أبالبارقة تخوّفني ؟
وصاح بغلامه مهران وقال له : خذه . فأخذ بضفيرتي هانئ ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه ، وضربه ضرباً قاسياً حتّى كسر أنفه ، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب , وسالت الدماء على ثيابه ، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه , فصاح به ابن زياد : أحروري أحللت بنفسك ، وحلّ لنا قتلك ؟!
ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(1) ، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج ، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً إلاّ أنّها لم تكن متماسكة ، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها .
وعلى أيّ حال , فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجّاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً : أنا عمرو بن الحجّاج , وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة .
ولم يعنَ به ابن زياد ولا بقومه ، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ . وخرج شريح فدخل على هانئ , فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً : يا للمسلمين ! أهلكت عشيرتي ! أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر ؟ والتفت هانئ إلى شريح فقال له : يا شريح ، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
الصفحة (209)
[ ولم ] يحفل شريح بكلام هانئ ، وإنّما مضى منفّذاً لأمر سيّده ابن مرجانة , فخاطب مذحج قائلاً : قد نظرتُ إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل .
وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً : إذا لم يُقتل فالحمد لله(1) .
وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن , وقد صحبوا معهم الخزي والعار , وانطلقت الألسنة بذمّهم . وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويِّين ونقمتهم , قال :
فإن كنتِ لا تدرينَ ما الموت فانظري إلـى هـانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ
إلـى بـطلٍ قـد هشّمَ السيفُ وجههُ وآخـر يـهوى من طمارِ قتيلِ(2)
أصـابهما فـرخُ الـبغيّ فـأصبحا أحـاديثَ مَـنْ يـسيري بكلّ سبيلِ
تـرى جـسداً قـد غيّرَ الموتُ لونهُ ونـضحُ دمٍ قـد سـالَ كـلّ مسيلِ
فـتىً كـان أحـيا مـن فتاةٍ حييَّةٍ وأقـطع مـن ذي شـفرتينِ صقيلِ
أيـركـبُ أسـماءُ الـهماليجَ آمـناً وقـد طـلبتهُ مـذحجٌ بـذحولِ(3)
تـطـوفُ حـواليهِ مـرادٌ وكـلّهم عـلى رقـبةٍ مـن سـائلٍ ومسولِ
فــإن أنـتمُ لـم تـثأروا بـأخيكمُ فـكونوا بـغايا أُرضيت بقليلِ(4)
لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها ، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتّى أعدمه في
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
(2) الطمار : اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الإمارة وفي أعلاها قُتل مسلم .
(3) الهماليج : جمع هملاج ، نوع من البرذون .
(4) مروج الذهب 2 / 70 ، والشاعر مجهول .
الصفحة (210)
وضح النهار بمرأى ومسمع منهم .
ثورة مسلم (

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور , فاجتمع إليه أربعة آلاف ، وقيل : أربعون ألفاً(1) ، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر : ( يا منصور أمت ) .
وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت (عليهم السّلام) , وهم :
1 ـ عبد الله بن عزيز الكندي , جعله على ربع كندة .
2 ـ مسلم بن عوسجة , جعله على ربع مذحج .
3 ـ أبو ثمامة الصائدي , جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان .
4 ـ العباس بن جعدة الجدلي , جعله على ربع المدينة .
واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به(2) .
وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال : أمّا بعد يا أهل الكوفة ، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله ، وطاعة أئمّتكم , ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتُذلّوا , وتندموا وتُقهروا ، فلا يجعلنَّ أحد على نفسه سبيلاً , وقد اُعذر مَنْ أنذر .
وما أتمّ الطاغية خطابه حتّى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت , فسأل عن ذلك فقيل له : الحذر الحذر ! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَنْ بايعه .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تهذيب التهذيب 2 / 351 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
الصفحة (211)
واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف , فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه(1) .
وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم ، وضاقت الدنيا على ابن زياد , وأيقن بالهلاك ؛ إذ لم تكن عنده قوّة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة , وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة(2) .
حرب الأعصاب
ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب ، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم ، وانبرى للقيام بهذه المهمة مَنْ يلي من عملائه , وهم :
1 ـ كثير بن شهاب الحارثي
2 ـ القعقاع بن شور الذهلي
3 ـ شبث بن ربعي التميمي
4 ـ حجّار بن أبجر .
5 ـ شمر بن ذي الجوشن الضبابي(3)
وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف ، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم .
وكان ممّا قاله كثير بن شهاب : أيّها الناس ، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا بالشرّ ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين ـ يعني يزيد ـ قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير
ـــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 8 / 154 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
(3) المصدر السابق 3 / 272 .
الصفحة (212)
ـ يعني ابن زياد ـ العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء ، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم , والشاهد بالغائب حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها(1) .
وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة ؛ فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وغداً تأتينا جموع أهل الشام ؟! ينبغي لنا أن نُقيم في منازلنا ، وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم(2) .
وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له : الناس يكفونك(3) . وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد .
هزيمة جيش مسلم (

ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة ، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوّة عسكرية .
ويقول المؤرّخون : إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه ، وهم يقولون : ما لنا والدخول بين السلاطين(4) .
ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار ، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم ، فكان مَنْ بقي من جيشه يفرّون
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 208 .
(2) حياة الإمام الحسين (

(3) تاريخ أبي الفداء 1 / 300 .
(4) حياة الإمام الحسين (

الصفحة (213)
في أثناء الصلاة ، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتّى انهزموا جميعاً قادةً وجنوداً ، ولم يبقَ منهم أحد يدلّه على الطريق ، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه ؛ فقد أمسى طريداً مشرّداً , لا مأوى يأوي إليه ، ولا قلب يعطف عليه .
في ضيافة طوعة (

وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها ، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقيّة الليل , وقد خلت المدينة من المارة ؛ فقد أسرع جنده إلى دورهم وأغلقوا عليهم الأبواب ؛ مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض .
وسار مسلم وهو خائر القوى , قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار ، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّدة يُقال لها : (طوعة) , وهي سيّدة مَنْ في المصر رجالاً ونساءً ؛ وذلك بما تملكه من شرف ونبل ، وكانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس , أعتقها فتزوّجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يُقال له : بلال ، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة ، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت

ـ اسقني ماءً .
فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه ثمّ جلس ، فارتابت منه , وقالت له : ألم تشرب الماء ؟
ـ بلى .
ـ اذهب إلى أهلك , إنّ مجلسك مجلس ريبة(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تهذيب التهذيب 1 / 151 .
الصفحة (214)
وسكت مسلم , فأعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها ، فذعرت منه وقالت له : سبحان الله ! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري .
ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها ، فقال بصوت خافت حزين النبرات : ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم ؟
وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب , وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يُجازيها على معروفها وإحسانها ، فقالت له : وما ذاك ؟
ـ أنا مسلم بن عقيل , كذّبني القوم وغرّوني .
فدهشت المرأة وقالت له : أنت مسلم !
ـ نعم(1) .
وانبرت السيّدة بكلّ خضوع وتقدير , فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها , وقد حازت الشرف والفخر ، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل ؛ فقد مزّق الأسى قلبه ، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها ، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين (

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى جاء بلال ابن السيّدة طوعة , فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم , فاستراب من ذلك ، فسألها عنه فلم تجبه , فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الأمر .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 272 .
الصفحة (215)
وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ، وقد تنكّر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كلّ سوء ، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً ، راح مسرعاً وقد ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة ، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر ، فلمّا دخل القصر بادر إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث ، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ , فأعلمه بمكان مسلم ، فأمره بالسكوت لئلاّ يفشي بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته .
وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد بن الأشعث فأخبره بالأمر ، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر , فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له : ما قال لك عبد الرحمن ؟
ـ أصلح الله الأمير , البشارة العظمى .
ـ ما ذاك ؟ مثلك مَنْ بشّر بخير .
ـ إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة .
وفرح ابن مرجانة , وتمّت بوارق آماله وأحلامه ، فراح يمدّ الأشعث بالمال والجاه قائلاً : قم فآتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى .
لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة .
الهجوم على مسلم (

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ، عمرو بن الحرث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث ، وضمّ إليهما ثلاثمئة رجل من صناديد الكوفة وفرسانها ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم
الصفحة (216)
من الذلّ والعبودية , ويُقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن .
ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه ، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه , وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه ، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له .
واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين ، ثمّ عادوا عليه فأخرجهم منها ، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً(1) ، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت(2) , وليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوّة الخارقة .
وجعل أنذال أهل الكوفة يصعدون فوق بيوتهم ويرمونه بالحجارة وقذائف النار(3) , وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم ؛ فقد أشاع فيهم القتل ، وطلب محمّد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال , فلامه الطاغية وقال : سبحان الله ! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(4) !
وثقل ذلك على ابن الأشعث ، وقال لابن مرجانة : أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو إلى جرمقاني من جرامقة
ـــــــــــــــــــــ
(1) الدرّ النضيد / 164 .
(2) المحاسن والمساوئ ـ البيهقي 1 / 43 .
(3) حياة الإمام الحسين (

(4) الفتوح 5 / 63 .
الصفحة (217)
الحيرة ؟(1) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام , وسيف حسام , في كفّ بطل همام , من آل خير الأنام(2) .
وأمدّه ابن مرجانة بقوى مكثّفة , فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه ، وهو يرتجز :
أقـسمتُ لا أُقتل إلاّ حرّا وإن رأيتُ الموتَ شيئاًً نُكرا
أو يُـخلطُ الباردُ سخناً مرّا ردّ شـعاعُ الشمسِ فاستقرا
كـلّ امرئٍ يوماً يُلاقي شرّا أخافُ أن أُكذب أو اُغرّا(3)
ولمّا سمع الخائن العميل محمّد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً : إنّك لا تُكذب ولا تُخدع ، إنّ القوم بنو عمّك ، وليسوا بقاتليك ولا ضارّيك .
فلم يحفل به مسلم , ومضى يُقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين لا يلوون على شيء ، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم قائلاً : ويلكم ! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيت الأبرار ؟ ويلكم ! أما ترعون حقّ رسول الله (

وضاق بابن الأشعث أمر مسلم , فصاح بالجيش : ذروه حتّى اُكلّمه . فدنا منه ، وقال له : يابن عقيل ، لا تقتل نفسك , أنت آمن ، ودمك في عنقي .
ولم يعنَ به مسلم ؛ فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الجرامقة : قوم من العجم صاروا إلى الموصل .
(2) الفتوح 5 / 93 .
(3) حياة الإمام الحسين (

الصفحة (218)
وأجابه : يابن الأشعث ، لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً .
وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يُطارده الرعب والخوف ، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي .
وتكاثرت عليه الجموع , فصاح بهم ابن الأشعث : إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ! احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة . فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم ، وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا , وأسرع السيف إلى الأسفل ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض .
أسره (

وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم انهارت قواه وضعف عن المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي اُولئك الفجرة الكفّار , وانتزعوا منه سيفه , وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة .
وكان من أعظم ما رُزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة وإنّما سلّم على الجميع ، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك ، فأجابه أنّه ليس لي بأمير .
فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً ، وقال له : سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول .
فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه ، وجرت مناورات كلامية بينهما ، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة ، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم ، ثمّ أمر أن يُصعد به من أعلى القصر ويُنفّذ فيه حكم الإعدام ، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم ، وكان يُسبّح الله ويستغفره .
وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه ،
الصفحة (219)
ورمى برأسه وجسده إلى الأرض ، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله ، واستشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين .
ثمّ أمر الطاغية السفّاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة ، فأُخرج من السجن في وضح النهار , وجعل يستنجد باُسرته , وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم ، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً ، فرفع هانئ صوته قائلاً : اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك ، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي ؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمّد (

وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض وجعل يتخبّط بدمه الزاكي ، ولم يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته .
وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق ، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(1) ؛ وذلك لنشر الخوف والإرهاب ، وليكونا عبرةً لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد .
ثمّ قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما أعدم جاعة منهم ، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين (

لقد سمعت حفيدة الرسول (

ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف 1 / 155 ، القسم الأوّل .ورافقت عقيلة بني هاشم أخاها أبا الأحرار في مسيرته الخالدة ؛ لتكون معه في خندق واحد ، وتشاركه في جهوده وجهاده لحماية الإسلام ، وإنقاذ المسلمين من جور الاُمويِّين وظلمهم .
وقبل أن تُغادر العقيلة الحجاز استأذنت من زوجها عبد الله بن جعفر أن يسمح لها بالسفر مع شقيقها سيّد الشهداء , فأذن لها في ذلك , وقبل أن يسافر الإمام دخل عليه عبد الله بن عباس ليعدله عن السفر إلى العراق ، فقال له الإمام (

فأجابه ابن عباس بصوت حزين النبرات قائلاً : جُعلت فداك يا حسين ! إن كان لا بدّ لك من المسير إلى الكوفة فلا تسري بأهلك ونسائك .
فقال له الإمام الحسين (


ويقول بعض الرواة : إنّ حفيدة الرسول (

الصفحة (222)
وهي باكية العين : يابن عباس ، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلّفنا هاهنا ويمضي وحده ؟! لا والله ، بل نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟
وأجهش ابن عباس في البكاء وجعل يقول : يعزّ والله عليَّ فراقك يابن العمّ(1) .
لقد كان من أروع ما خطّطه الإمام في ثورته الكبرى حمله عقيلة بني هاشم وسائر مخدّرات الرسالة معه إلى العراق ؛ فقد كان على علم بما يجري عليهنَّ من النكبات والخطوب ، وما يقمنَ به من دور مشرّف في إكمال نهضته ، وإيضاح تضحيته وإشاعة مبادئه وأهدافه .
وقد قمنَ حرائر النبوّة بإيقاظ المجتمع من سباته ، وأسقطنَ هيبة الحكم الاُموي ، وفتحنَ باب الثورة عليه ؛ فقد ألقين من الخطب الحماسية ما زعزع كيان الدولة الاُمويّة .
لقد كان خروج العقيلة وسائر بنات رسول الله (

يقول الإمام كاشف الغطاء : وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين لو قُتل هو وولده ، ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جباراً ، ولم يطلب به أحد ثأراً ، ولضاع دمه هدراً ؟
فكان الحسين يعلم أنّ هذا عمل لا بدّ منه ، وأنّه لا يقوم به إلاّ لتلك العقائل , فوجب عليه حتماً أن يحملهنَّ معه لا لأجل المظلومية بسبيهنَّ فقط ، بل لنظر سياسي وفكر عميق ، وهو تكميل الغرض ، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام ، ويعود الناس إلى جاهليتهم الأولى(2) .
ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ثمّ رفض ـ يعني الحسين (

ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 94 .
(2) السياسة الحسينيّة / 46 ـ 47 .
الصفحة (223)
يصحب معه أهله ؛ ليُشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه ممّا لا يبرّره دين ، ولا وازع من إنسانيّة ، فلا تضيع قضيّته مع دمه المراق في الصحراء ، فيُفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على ما جرى بينه وبين أعدائه .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : أفسدت زينب اُخت الحسين على ابن زياد وبني اُمية لذّة النصر ، وسكبت قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين ، وإنّ كلّ الأحداث السياسيّة التي ترتّبت بعد ذلك من خروج المختار , وثورة ابن الزّبير , وسقوط الدولة الاُمويّة , وقيام الدولة العباسية , ثمّ تأصّل مذهب الشيعة إنّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته(1) .
اُريد أن أقول : ماذا يكون الحال لو قُتل الحسين (

إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحسين (



وسنوضح ذلك بمزيد من البيان في البحوث الآتية :
خطاب الحسين (

وأمر الإمام الحسين (

ـــــــــــــــــــــ
(1) بطلة كربلاء / 176 ـ 180 .
(2) نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية / 343 .
الصفحة (224)
فقام فيهم خطيباً فقال : (( الحمد لله ، وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله وسلّم . خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان(1) الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأنّ منّي أكراشاً جُوفاً , وأجربةً سغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويُوفّينا أجر الصابرين .
لن تَشُذّ عن رسول الله (

ونعى الإمام نفسه في هذا الخطاب التأريخي الخالد ، واعتبر الشهادة في سبيل الله زينة للإنسان كالقلادة التي تكون زينة للفتاة ، كما أعلن عن شوقه العارم لملاقاة الله تعالى ، وأنّ اشتياقه للذين استشهدوا في سبيل الله كاشتياق يعقوب إلى يوسف . وأخبر (

وعلى أيّ حال , فقد حلّلنا هذا الخطاب وذكرنا أبعاده في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) العسلان : هي الذئاب .
(2) كشف الغمّة 2 / 241 .
الصفحة (225)
السفر إلى العراق
وقبل أن يغادر الإمام (

وخرج الإمام (

وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى موضع يُسمّى بـ «الصفاح» , فالتقى بالشاعر الكبير الفرزدق فسلّم على الإمام ، وقال له : بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله ! ما أعجلك عن الحج ؟
فأجابه الإمام عن سبب خروجه : (( لو لم أعجل لأُخذت )) .
إنّ السبب في خروج الإمام (

وبادر الإمام (

ـ من الكوفة .
ـ (( بيّن لي خبر الناس ؟ )) .
ـ على الخبير سقطت ؛ قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ، وربّنا كلّ يوم هو في شأن(4) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) و (3) حياة الإمام الحسين (

(2) خطط المقريزي 2 / 286 .
(4) حياة الإمام الحسين (

الصفحة (226)
واستصوب الإمام (

وواصل الإمام مسيرته الخالدة بعزم وثبات , لم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع بني اُميّة .
مع أبي هرّة
وسار الإمام (


فأجابه الإمام بتأثّر قائلاً : (( ويحك يا أبا هرّة ! إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عِرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت . وأيم الله , لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسنّهم الله ذُلاّ شاملاً , وسيفاً قاطعاً ، وليسلّطنّ الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم ))(2) .
وانصرف الإمام (

فزع السيدة زينب (

وكانت السيدة زينب (عليها السّلام) فزعة حزينة قد ذابت نفسها أسى وحسرات ؛ فقد علمت
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (

(2) المصدر السابق 5 / 64 .
ما سيجري على أهلها من القتل , فخفّت إلى أخيها حينما كانوا في الخزيمية ، وهي تقول له بنبرات مشفوعة بالبكاء : يا أخي , إنّي سمعت هاتفاً يقول :
ألا يـا عـين فاحتفلي بجهد فمَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي
عـلى قـومٍ تـسوقهمُ المنايا بـمقدارٍ إلـى إنجازِ وعدي
فأجابها أبيّ الضيم (

لقد أراد الإمام (

النبأ المروّع بشهادة مسلم (

وانتهى النبأ المروّع بشهادة البطل مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (


وأسرعا إلى الإمام (

ونظر الإمام إلى أصحابه فقال : (( ما دون هؤلاء سرّاً )) . وأخبراه بما سمعاه من الرجل من شهادة مسلم وهانئ ، فكان هذا النبأ كالصاعقة على العلويِّين , فانفجروا بالبكاء على فقيدهم العظيم حتّى ارتجّ الموضع من شدّة البكاء ، والتفت الإمام إلى بني عقيل فقال لهم :
ـــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ـ لابن شهرآشوب 5 / 127 .
الصفحة (228)
(( ما ترون ؟ فقد قُتل مسلم )) .
ووثبت الفتية كالأسود الضاربة ، وهم يعلنون استهانتهم بالموت , وتصميمهم على الشهادة قائلين : لا والله ، لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .
وراح الإمام (

وتمثّل (

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا مـا نـوى حـقّاًً و جاهد مسلما
فـإن متُّ لم أندم وإنْ عشت لم أُلمْ كـفى بكَ عاراً أن تذلَّ وتُرغما(1)
لقد مضى إلى ساحات الجهاد مرفوع الرأس ، وهو على يقين لا يخامره شكّ في أنّه يسير إلى الفتح الذي لا فتح ولا ظفر مثله .
رؤيا الإمام الحسين (

وخفق الإمام الحسين (

ـ (( رأيت رؤيا أفزعتني )) .
ـ خيراً رأيت .
ـ (( رأيت فارساً وقف عليَّ وهو يقول : أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة . فعلمت أنّ أنفسنا نُعيت إلينا ))(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) الدرّ النظيم / 167 .
(2) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 2 / 346 .
الصفحة (229)
وبادر عليّ قائلاً : ألسنا على الحقّ ؟
أجل يا فخر هاشم أنتم معدن الحقّ , وأصله ومنتهاه ، وأجابه أبوه قائلاً : (( بلى والذي إليه مرجع أمر العباد )) .
وطفق عليّ يلقي كلمته الذهبية الخالدة قائلاً : يا أبتِ ، لا نبالي الموت .
ووجد الإمام الحسين (

الالتقاء بالحرّ
وانتهى ركب الإمام إلى شراف وفيها عين للماء ، فأمر الإمام فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه ففعلوا ذلك ، ثمّ سارت قافلة الإمام (


ـ رأيت النخل .
وأنكر عليه رجل ممّن خبر الطريق وعرفه , فقال له : ليس ها هنا نخل ، ولكنّها أسنة الرماح وآذان الخيل .
وتأمّلها الإمام الحسين (

وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الاُموي جاءت لإلقاء القبض عليه ، فقال لأصحابه : (( أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد ؟ )) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقاتل الطالبيّين / 111 . فقال له بعض أصحابه : هذا ذو حسم(1) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فإن سبقت له فهو كما تريد .
ومال ركب الإمام (




وقام أصحاب الإمام فسقوا القوم عن آخرهم ، ثمّ انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملؤون القصاع والطساس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت وسقي الآخر حتّى سقوها جميعاً(2) .
لقد تكرّم الإمام (

خطاب الإمام (

وخطب الإمام (

ـــــــــــــــــــــ
(1) ذو حسم (بضمّ الحاء وفتح السين) : جبل هناك .
(2) تاريخ الطبري 6 / 226 .
الصفحة (231)
من عهودكم ومواثيقكم ، وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم )) .
وأحجموا عن الجواب ؛ فإنّ الأكثرية الساحقة منهم قد كاتبوا الإمام (


وحلّ وقت الصلاة فأمر الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم لصلاة الظهر ، وبعد فراغه قال الإمام (

فقال : بل نصلّي بصلاتك .
وأتمّوا بالإمام (

ولم يعلم الحرّ بشأن الكتب التي بعثها أهل الكوفة للإمام (

فأمر الإمام (

وأراد الإمام (

وتأثّر الإمام (

وجرت مشادّة عنيفة بين الإمام والحرّ ؛ فقد حال الحرّ من توجّه الإمام إلى يثرب ، وكان الوضع أن ينفجر باندلاع نار الحرب , إلاّ أنّ الحرّ ثاب إلى الهدوء وقال للإمام (

واتّفقا على ذلك , فتياسر
الصفحة (232)
الإمام (


وفزعت حفيدة الرسول كأشدّ ما يكون الفزع وأيقنت بنزول الرزء القاصم ، وأنّ أخاها مصمّم على الشهادة ومناجزة الحكم الاُموي .
خطبة الإمام (

ولمّا انتهى موكب الإمام إلى (البيضة) ألقى الإمام خطاباً على الحرّ وأصحابه ، وقال فيه : (( أيّها الناس ، إنّ رسول الله (

ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممّنْ غيَّر . وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ؛ فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (

وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم ، فالمغرور مَنْ اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم )) .
وحفل هذا الخطاب الرائع باُمور بالغة الأهمية ذكرناها في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 280 .
يتبع
تعليق