تقسيم المحدّثين عن النبي إلى أربعة أقسام
وإنما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس، (رجل) منافق مظهر للإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأَثَمُ ولا يتحرّج ان يكذب على رسول الله(صلى الله عليه و آله) متعمداً، فلو علم المسلمون انه منافق كذّاب لم يقبلوا منه، ولم يصّدقوه، ولكنهم قالوا: هذا صاحب رسول الله.
وقد أخبر الله عن المنافقين بما اخبر ووصفهم بما وصفهم فقال الله عَزّ وجَلّ:)وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ( (المنافقون/5)، ثم بقوا بعده وتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان، فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك، والدنيا إلاّ من عصم الله، فهذا أول الأربعة.
و(رجل) سمع من رسول الله(صلى الله عليه و آله) فلم يحفظه على وجهه، ووَهِمَ فيه، ولم يتعمّد كذبّاً، وهو في يده يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله(صلى الله عليه و آله) فلو علم المسلمون انه وهمٌ لم يقبلوا، ولو علم هوانه وهمٌ لرفضه.
و(رجل) ثالث سمع رسول الله(صلى الله عليه و آله) شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه نهى عن شيءٍ ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم انه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون انه منسوخ لرفضوه.
و(رجل) رابع لم يكذب على الله، ولا على رسول الله بغضاً للكذب وتخوفاً من الله وتعظيماً لرسوله(صلى الله عليه و آله) ولم يوهم، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، وانّ أمر رسول الله(صلى الله عليه و آله) ونهيه مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، وعامٌ وخاص، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله(صلى الله عليه و آله) الكلام له وجهان كلام خاص، وكلام عام مثل القرآن يسمعه مَن لا يعرف ما عنى الله به، وما عنى به رسول الله(صلى الله عليه و آله).
وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) كان يسأله فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم، حتى ان كانوا يحبّون ان يجئَ الطارئ، والأعرابي فيسأل رسول الله (صلى الله عليه و آله) حتى يسمعوا منه، وكنت أدخل على رسول الله(صلى الله عليه و آله) كل يومٍ دَخلةٍ، وكل ليلةٍ دَخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله(صلى الله عليه و آله) انه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري، وربما كان ذلك في منزلي فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءَه فلم يُبقِ غيري وغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم يُقِم مَن عندنا لا فاطمة ولا أحداً من ابْنيَ، وإذا سألته أجابني، وإذا سكتُّ أو نفذت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية من القرآن إلاّ اقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، ودعا الله أنْ يفهمني إياها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها وعلّمني تأويلها وأملاه عليَّ فكتبته، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال وحرام، أو أمرٍ ونهي، أو طاعةٍ ومعصية، ما كان أو يكون إلى يوم القيامة إلاّ وقد علّمنيه وحفظته ولَم أنسَ منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أنْ يملأ قلبي علماً، وفهماً وحكماً ونوراً، وأن يعلمني فلا أجهل، وأن يحفظني فلا أنسى، فقلت له ذات يوم: يا نبي الله إنك منذ يوم دعوت الله لي لَمْ أنسَ شيئاً ممّا علمتني، فَلِمَ تمليهِ عليَّ وتأمرني بكتابته؟
أتتخوّف عليَّ النسيان؟ فقال: لا يا أخي لست أخوف عليك النسيان، ولا الجهل، وقد أخبرني الله انه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون مِن بعدك.
قلت: يا نبي الله ومَن شركائي؟ قال الذين قرنهم الله بنفسه، وبي معه، الذين قال في حقهم)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأْمْرِ مِنْكُمْ( (النساء/60)، قلت: يا نبي الله ومَن هم؟ قال: الأوصياء إلى ان يَردُوا عليَّ حوضي، كلّهم هادٍ مهتدٍ لا يضرهم كيد مَن كادهم، ولا خذلان مَن خذلهم، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم، بهم ينصر الله أُمتي، وبهم يُمطرون، ويدفع عنهم بمستجاب دعوتهم.
فقلت يا رسول الله سمّهم لي؟ فقال: ابني هذا – ووضع يده على رأس الحسن – ثم ابني هذا – ووضع يده على رأس الحسين – ثم ابن ابني هذا – ووضع يده على رأس الحسين أيضاً – وهو "علي بن الحسين" ثم ابنٌ له أسمي اسمه محمّد باقر علمي وخازن وحي الله، وسيولد عليٌ في حياتك يا أخي فأقرْئه مني السلام، ثم أقبل على الحسين وقال له: سيولد لك محمّد بن علي في حياتك فأقرئْه مني السلام، ثم تكملة الاثنى عشر إماماً من ولدك يا اخي، فقلت: يا نبي الله سمّهم لي فسمّاهم لي رجلاً رجلاً، منهم والله – يا بني هلال – مهدي هذهِ الأمة يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجورا، والله إني لأعرف جميع مَن يبايعه بين الركن والمقام، وأعرف أسماء الجميع وقبائلهم.
قال سُليم: ثم لقيت الحسن والحسين(عليهما السلام) بالمدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) فحدثتهما بهذا الحديث عن أبيهما فقالا: صدقت، قد حدثك أبونا بهذا الحديث ونحن جلوس، وقد حفظنا ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه و آله) كما حدثك أبونا سواءً لم يزد ولم ينقص.
قال سُليم: ثم لقيت علي بن الحسين(عليه السلام) وعنده ابنه محمّد بن علي(عليه السلام) فحدثته بما سمعت من أبيه وعمه وما سمعت من علي(عليه السلام) فقال علي بن الحسين(عليه السلام): قد أمرني أمير المؤمنين(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه و آله) السلام وهو مريض وأنا صبي، ثم قال محمّد(عليه السلام): وقد أمرني جدي الحسين(عليه السلام) من رسول الله(صلى الله عليه و آله) – وهو مريض – السلام …الخ(114).
الطريق الخامس من ينابيع علم الأئمة(عليهم السلام)
الكتب المنزلة على رُسل الله السابقين
الخامس ممّا ورثه علي(عليه السلام) والأئمة من أبنائه من النبي(صلى الله عليه و آله) الكتب الإلهية التي أنزلها الله على رسله وأنبيائه السابقين من صحفٍ، وتوارةٍ، وإنجيل، وزبور، وسائر ما أتى الله رسله من علومٍ ومعجزات، وسلاح وكرامات، وقد ورثها النبي(صلى الله عليه و آله) عنهم، وورثها أئمة الهدى منه(صلى الله عليه و آله) وقد تواتر هذا عنهم(عليهم السلام) وأذاعوه ونشروه في الكثير من أحاديثهم الشريفة، وما ورد عنهم في أدعيتهم، والزيارات الواردة عنهم، حتى لا يبقى أحد يجهل هذهِ الحقيقة الثابتة لهم، وإليك بعض تلكم النصوص.
نصوص من الأحاديث
فقد ذكر شيخنا الكليني في (أصول الكافي) في أبواب عديدة في أنهم (عليهم السلام) ورثة علوم النبي(صلى الله عليه و آله) الذي ورث من قبلهم علوم الأنبياء(عليهم السلام) حيث روى في باب: "ان الأئمة(عليهم السلام) ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً" ثمانية أحاديث في هذا الباب نذكر واحداً منها حذراً من الإطالة.
روى مسنداً عن علي بن النعمان، عن أبي جعفر(عليه السلام) انه قال: يمصّون الثماد، ويدعون النهر العظيم، قيل له: وما النهر العظيم؟ قال: رسول الله(صلى الله عليه و آله) ، والعلم الذي أعطاه الله، ان الله جمع لمحمّد(صلى الله عليه و آله) سنن النبيين من آدم وهلّم جّرا إلى محمّد(صلى الله عليه و آله) ، قيل له: وما تلك السنن؟ قال: علم النبيين بأسره، وان رسول الله(صلى الله عليه و آله) صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنين(عليه السلام) ، فقال له رجل: يا بن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيين؟ فقال أبو جعفر: اسمعوا ما يقول: إنّ الله يفتح مسامع مَن يشاء إني أُحدثه انّ الله جمع لمحمّد(صلى الله عليه و آله) علم النبيين، وإنه جمع ذلك كله عند أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيين؟(115)
إيضاح مهم للحديث الأول
قوله(عليه السلام) في هذا الحديث الشريف: يمصّون الثماد، ويدعون النهر، المص هو الشرب بالجذب كما يجذب الرضيع الّلبن من ثدي أمه ويمصّه، والثماد جمع، مفرده الثَمد، وهو الماء القليل المتجمع في الأرض والوحل، وأراد(عليه السلام) بهذا المثل أن يبيّن لنا انّ الذي يأخذ العلم من غير طريق علي والأئمة مثله كمن يمصّ الماء القليل المخلوط بالطين، والذي ليس له مادّة متصلة من ينبوع جارٍ، ويعني بذلك ان هذا العلم المأخوذ من غير طريقهم (عليهم السلام) كلّه مخلوط بالشبه والشكوك وغير معلوم اتصاله بالمنبع الأصيل، كما الثماد المخلوط بالطين والوحل، وَمثَلُ مَن يأخذ العلم من طريق أهل البيت(عليهم السلام) كمثل مَن يشرب الماء ويأخذه من النهر العظيم الجاري الذي لا ينقطع فحينئذٍ يكون علمه متصلاً بالعلم الذي أخذه رسول الله(صلى الله عليه و آله) عن الله عَزّ وجَلّ من طريق الوحي والإلهام، والذي جمع الله له علوم النبيين كلّهم، وأخيراً أودعه كلّه عند علي أمير المؤمنين والأئمة من أبنائه(عليهم السلام).
وإلى هذهِ الحقيقة يشير النبي(صلى الله عليه و آله) بأحاديث كثيرة وشهيرة من طرقٍ عديدة، مثل قوله(صلى الله عليه و آله):
{أنا مدينة العلم وعلي بابها…الخ}(116).
وقوله(صلى الله عليه و آله): {علي والأئمة من بعده أبواب العلم في أمتي}(117).
وقوله(صلى الله عليه و آله) من جملة حديث: {علي وارث علم النبيين}(118).
وذكر الكليني في (الكافي) باب "ان الأئمة(عليهم السلام) ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء" سبعة أحاديث نذكر واحداً منها مسنداً عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ان أول وصيٍّ كان على وجه الأرض هبة الله (شيت) بن آدم، وما من نبي مضى إلاّ وله وصيّ، وكان جميع الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي، منهم خمسة أولوا العزم، نوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، ومحمّد عليهم السلام، وان علي بن أبي طالب كان هبة الله لمحمّد(صلى الله عليه و آله) ورث علم الأوصياء وعلم مَن كان قبله، أما انّ محمّداً ورث علم مَن كان قبله من الأنبياء والمرسلين، على قائمة العرش مكتوب، حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء، وفي ذوابة العرش (أي أعلاه) علي أمير المؤمنين(عليه السلام) فهذهِ حجتنا على مَن أنكر حقنا وجحد ميراثنا ...الخ(119).
وذكر الكليني في (الكافي) في باب "ان الأئمة(عليهم السلام) عندهم جميع الكتب التي أُنزلت من عند الله عَزّ وجَلّ، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنها" حديثين نذكر واحداً منهما، يروي بسنده عن مفضّل بن عمر قال: أتينا باب أبي عبد الله أي الصادق(عليه السلام) ونحن نريد الأذن عليه، فسمعناه يتكلّم بكلام ليس بالعربية فتوهمنا انه بالسريانية، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم خرج إلينا الغلام فإذن لنا فدخلنا عليه، فقلت: أصلحك الله أتينا نريد الإذن عليك فسمعناك تتكلم بكلام ليس بالعربية، فتوهمنا انه من السريانية، ثم بكيت فبكينا لبكائك، فقال: نعم: ذكرت إلياس النبي(عليه السلام) وكان من عبّاد بني إسرائيل، فقلت كما كان يقول في سجوده، يقول المفضّل: ثم اندفع الإمام فيه بالسريانية، فلا والله ما رأينا قساً ولا جاثليقاً أفصح لهجةً منه به.
ثم فسّر لنا كلامه بالعربية فقال: كان يقول في سجوده أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري(120).
أتراك معذبي وقد عفرّتُ لك في التراب وجهي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي: قال: فأوحى الله إليه، أنْ ارفع رأسك فأنى غير معذبك…الخ(121).
وذكر الكليني في باب "ما عند الأئمة من آيات الأنبياء" خمسة أحاديث نذكر حديثاً منها حيث روى بسنده عن محمّد بن الفيض، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: كانت عصى موسى لـِ(آدم)(عليه السلام) فصارت إلى شعيب ثم صارت إلى موسى بن عمران، وإنها لعندنا، وان عهدي بها آنفاً، وهي خضراء كهيئتها حين اْنتُزِعَتْ من شجرتها، وإنها لتنطق إذا اسْتُنطقِت، اُعّدت لقِائمنا(عليه السلام) يصنع بها ما كان يصنع موسى، وإنها لتروّع وتلقف ما يأفكون…الخ(122).
أقول: وفي بقية الأحاديث مِن هذا الباب ان عندهم أيضاً ألواح موسى، وحَجَر موسى الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وخاتم سليمان، وقميص يوسف وهو القميص الذي انزله الله من الجنة على آدم(عليه السلام) وان كل نبيٍ ورث علماً أو غيره وقد انتهى إلى آل محمّد(صلى الله عليه و آله) وانهم ورثة الأنبياء.
وذكر الكليني في باب "ان الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائِكة والأنبياء والرسل(عليهم السلام) ، وروى في هذا الباب أربعة أحاديث نذكر واحداً منها، روى بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام) انه قال: ان للهِ عَزّ وجَلّ عِلْمَين علماً عنده لم يطلع عليه أحداً من خلقهِ، وعلماً نبذه إلى ملائِكته ورسله، فما نبذه إلى ملائِكته ورسله فقد انتهى إلينا(123)
وإنما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس، (رجل) منافق مظهر للإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأَثَمُ ولا يتحرّج ان يكذب على رسول الله(صلى الله عليه و آله) متعمداً، فلو علم المسلمون انه منافق كذّاب لم يقبلوا منه، ولم يصّدقوه، ولكنهم قالوا: هذا صاحب رسول الله.
وقد أخبر الله عن المنافقين بما اخبر ووصفهم بما وصفهم فقال الله عَزّ وجَلّ:)وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ( (المنافقون/5)، ثم بقوا بعده وتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان، فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك، والدنيا إلاّ من عصم الله، فهذا أول الأربعة.
و(رجل) سمع من رسول الله(صلى الله عليه و آله) فلم يحفظه على وجهه، ووَهِمَ فيه، ولم يتعمّد كذبّاً، وهو في يده يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله(صلى الله عليه و آله) فلو علم المسلمون انه وهمٌ لم يقبلوا، ولو علم هوانه وهمٌ لرفضه.
و(رجل) ثالث سمع رسول الله(صلى الله عليه و آله) شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه نهى عن شيءٍ ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم انه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون انه منسوخ لرفضوه.
و(رجل) رابع لم يكذب على الله، ولا على رسول الله بغضاً للكذب وتخوفاً من الله وتعظيماً لرسوله(صلى الله عليه و آله) ولم يوهم، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، وانّ أمر رسول الله(صلى الله عليه و آله) ونهيه مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، وعامٌ وخاص، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله(صلى الله عليه و آله) الكلام له وجهان كلام خاص، وكلام عام مثل القرآن يسمعه مَن لا يعرف ما عنى الله به، وما عنى به رسول الله(صلى الله عليه و آله).
وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) كان يسأله فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم، حتى ان كانوا يحبّون ان يجئَ الطارئ، والأعرابي فيسأل رسول الله (صلى الله عليه و آله) حتى يسمعوا منه، وكنت أدخل على رسول الله(صلى الله عليه و آله) كل يومٍ دَخلةٍ، وكل ليلةٍ دَخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله(صلى الله عليه و آله) انه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري، وربما كان ذلك في منزلي فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءَه فلم يُبقِ غيري وغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم يُقِم مَن عندنا لا فاطمة ولا أحداً من ابْنيَ، وإذا سألته أجابني، وإذا سكتُّ أو نفذت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية من القرآن إلاّ اقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، ودعا الله أنْ يفهمني إياها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها وعلّمني تأويلها وأملاه عليَّ فكتبته، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال وحرام، أو أمرٍ ونهي، أو طاعةٍ ومعصية، ما كان أو يكون إلى يوم القيامة إلاّ وقد علّمنيه وحفظته ولَم أنسَ منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أنْ يملأ قلبي علماً، وفهماً وحكماً ونوراً، وأن يعلمني فلا أجهل، وأن يحفظني فلا أنسى، فقلت له ذات يوم: يا نبي الله إنك منذ يوم دعوت الله لي لَمْ أنسَ شيئاً ممّا علمتني، فَلِمَ تمليهِ عليَّ وتأمرني بكتابته؟
أتتخوّف عليَّ النسيان؟ فقال: لا يا أخي لست أخوف عليك النسيان، ولا الجهل، وقد أخبرني الله انه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون مِن بعدك.
قلت: يا نبي الله ومَن شركائي؟ قال الذين قرنهم الله بنفسه، وبي معه، الذين قال في حقهم)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأْمْرِ مِنْكُمْ( (النساء/60)، قلت: يا نبي الله ومَن هم؟ قال: الأوصياء إلى ان يَردُوا عليَّ حوضي، كلّهم هادٍ مهتدٍ لا يضرهم كيد مَن كادهم، ولا خذلان مَن خذلهم، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم، بهم ينصر الله أُمتي، وبهم يُمطرون، ويدفع عنهم بمستجاب دعوتهم.
فقلت يا رسول الله سمّهم لي؟ فقال: ابني هذا – ووضع يده على رأس الحسن – ثم ابني هذا – ووضع يده على رأس الحسين – ثم ابن ابني هذا – ووضع يده على رأس الحسين أيضاً – وهو "علي بن الحسين" ثم ابنٌ له أسمي اسمه محمّد باقر علمي وخازن وحي الله، وسيولد عليٌ في حياتك يا أخي فأقرْئه مني السلام، ثم أقبل على الحسين وقال له: سيولد لك محمّد بن علي في حياتك فأقرئْه مني السلام، ثم تكملة الاثنى عشر إماماً من ولدك يا اخي، فقلت: يا نبي الله سمّهم لي فسمّاهم لي رجلاً رجلاً، منهم والله – يا بني هلال – مهدي هذهِ الأمة يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجورا، والله إني لأعرف جميع مَن يبايعه بين الركن والمقام، وأعرف أسماء الجميع وقبائلهم.
قال سُليم: ثم لقيت الحسن والحسين(عليهما السلام) بالمدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) فحدثتهما بهذا الحديث عن أبيهما فقالا: صدقت، قد حدثك أبونا بهذا الحديث ونحن جلوس، وقد حفظنا ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه و آله) كما حدثك أبونا سواءً لم يزد ولم ينقص.
قال سُليم: ثم لقيت علي بن الحسين(عليه السلام) وعنده ابنه محمّد بن علي(عليه السلام) فحدثته بما سمعت من أبيه وعمه وما سمعت من علي(عليه السلام) فقال علي بن الحسين(عليه السلام): قد أمرني أمير المؤمنين(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه و آله) السلام وهو مريض وأنا صبي، ثم قال محمّد(عليه السلام): وقد أمرني جدي الحسين(عليه السلام) من رسول الله(صلى الله عليه و آله) – وهو مريض – السلام …الخ(114).
الطريق الخامس من ينابيع علم الأئمة(عليهم السلام)
الكتب المنزلة على رُسل الله السابقين
الخامس ممّا ورثه علي(عليه السلام) والأئمة من أبنائه من النبي(صلى الله عليه و آله) الكتب الإلهية التي أنزلها الله على رسله وأنبيائه السابقين من صحفٍ، وتوارةٍ، وإنجيل، وزبور، وسائر ما أتى الله رسله من علومٍ ومعجزات، وسلاح وكرامات، وقد ورثها النبي(صلى الله عليه و آله) عنهم، وورثها أئمة الهدى منه(صلى الله عليه و آله) وقد تواتر هذا عنهم(عليهم السلام) وأذاعوه ونشروه في الكثير من أحاديثهم الشريفة، وما ورد عنهم في أدعيتهم، والزيارات الواردة عنهم، حتى لا يبقى أحد يجهل هذهِ الحقيقة الثابتة لهم، وإليك بعض تلكم النصوص.
نصوص من الأحاديث
فقد ذكر شيخنا الكليني في (أصول الكافي) في أبواب عديدة في أنهم (عليهم السلام) ورثة علوم النبي(صلى الله عليه و آله) الذي ورث من قبلهم علوم الأنبياء(عليهم السلام) حيث روى في باب: "ان الأئمة(عليهم السلام) ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً" ثمانية أحاديث في هذا الباب نذكر واحداً منها حذراً من الإطالة.
روى مسنداً عن علي بن النعمان، عن أبي جعفر(عليه السلام) انه قال: يمصّون الثماد، ويدعون النهر العظيم، قيل له: وما النهر العظيم؟ قال: رسول الله(صلى الله عليه و آله) ، والعلم الذي أعطاه الله، ان الله جمع لمحمّد(صلى الله عليه و آله) سنن النبيين من آدم وهلّم جّرا إلى محمّد(صلى الله عليه و آله) ، قيل له: وما تلك السنن؟ قال: علم النبيين بأسره، وان رسول الله(صلى الله عليه و آله) صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنين(عليه السلام) ، فقال له رجل: يا بن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيين؟ فقال أبو جعفر: اسمعوا ما يقول: إنّ الله يفتح مسامع مَن يشاء إني أُحدثه انّ الله جمع لمحمّد(صلى الله عليه و آله) علم النبيين، وإنه جمع ذلك كله عند أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيين؟(115)
إيضاح مهم للحديث الأول
قوله(عليه السلام) في هذا الحديث الشريف: يمصّون الثماد، ويدعون النهر، المص هو الشرب بالجذب كما يجذب الرضيع الّلبن من ثدي أمه ويمصّه، والثماد جمع، مفرده الثَمد، وهو الماء القليل المتجمع في الأرض والوحل، وأراد(عليه السلام) بهذا المثل أن يبيّن لنا انّ الذي يأخذ العلم من غير طريق علي والأئمة مثله كمن يمصّ الماء القليل المخلوط بالطين، والذي ليس له مادّة متصلة من ينبوع جارٍ، ويعني بذلك ان هذا العلم المأخوذ من غير طريقهم (عليهم السلام) كلّه مخلوط بالشبه والشكوك وغير معلوم اتصاله بالمنبع الأصيل، كما الثماد المخلوط بالطين والوحل، وَمثَلُ مَن يأخذ العلم من طريق أهل البيت(عليهم السلام) كمثل مَن يشرب الماء ويأخذه من النهر العظيم الجاري الذي لا ينقطع فحينئذٍ يكون علمه متصلاً بالعلم الذي أخذه رسول الله(صلى الله عليه و آله) عن الله عَزّ وجَلّ من طريق الوحي والإلهام، والذي جمع الله له علوم النبيين كلّهم، وأخيراً أودعه كلّه عند علي أمير المؤمنين والأئمة من أبنائه(عليهم السلام).
وإلى هذهِ الحقيقة يشير النبي(صلى الله عليه و آله) بأحاديث كثيرة وشهيرة من طرقٍ عديدة، مثل قوله(صلى الله عليه و آله):
{أنا مدينة العلم وعلي بابها…الخ}(116).
وقوله(صلى الله عليه و آله): {علي والأئمة من بعده أبواب العلم في أمتي}(117).
وقوله(صلى الله عليه و آله) من جملة حديث: {علي وارث علم النبيين}(118).
وذكر الكليني في (الكافي) باب "ان الأئمة(عليهم السلام) ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء" سبعة أحاديث نذكر واحداً منها مسنداً عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ان أول وصيٍّ كان على وجه الأرض هبة الله (شيت) بن آدم، وما من نبي مضى إلاّ وله وصيّ، وكان جميع الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي، منهم خمسة أولوا العزم، نوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، ومحمّد عليهم السلام، وان علي بن أبي طالب كان هبة الله لمحمّد(صلى الله عليه و آله) ورث علم الأوصياء وعلم مَن كان قبله، أما انّ محمّداً ورث علم مَن كان قبله من الأنبياء والمرسلين، على قائمة العرش مكتوب، حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء، وفي ذوابة العرش (أي أعلاه) علي أمير المؤمنين(عليه السلام) فهذهِ حجتنا على مَن أنكر حقنا وجحد ميراثنا ...الخ(119).
وذكر الكليني في (الكافي) في باب "ان الأئمة(عليهم السلام) عندهم جميع الكتب التي أُنزلت من عند الله عَزّ وجَلّ، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنها" حديثين نذكر واحداً منهما، يروي بسنده عن مفضّل بن عمر قال: أتينا باب أبي عبد الله أي الصادق(عليه السلام) ونحن نريد الأذن عليه، فسمعناه يتكلّم بكلام ليس بالعربية فتوهمنا انه بالسريانية، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم خرج إلينا الغلام فإذن لنا فدخلنا عليه، فقلت: أصلحك الله أتينا نريد الإذن عليك فسمعناك تتكلم بكلام ليس بالعربية، فتوهمنا انه من السريانية، ثم بكيت فبكينا لبكائك، فقال: نعم: ذكرت إلياس النبي(عليه السلام) وكان من عبّاد بني إسرائيل، فقلت كما كان يقول في سجوده، يقول المفضّل: ثم اندفع الإمام فيه بالسريانية، فلا والله ما رأينا قساً ولا جاثليقاً أفصح لهجةً منه به.
ثم فسّر لنا كلامه بالعربية فقال: كان يقول في سجوده أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري(120).
أتراك معذبي وقد عفرّتُ لك في التراب وجهي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي: قال: فأوحى الله إليه، أنْ ارفع رأسك فأنى غير معذبك…الخ(121).
وذكر الكليني في باب "ما عند الأئمة من آيات الأنبياء" خمسة أحاديث نذكر حديثاً منها حيث روى بسنده عن محمّد بن الفيض، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: كانت عصى موسى لـِ(آدم)(عليه السلام) فصارت إلى شعيب ثم صارت إلى موسى بن عمران، وإنها لعندنا، وان عهدي بها آنفاً، وهي خضراء كهيئتها حين اْنتُزِعَتْ من شجرتها، وإنها لتنطق إذا اسْتُنطقِت، اُعّدت لقِائمنا(عليه السلام) يصنع بها ما كان يصنع موسى، وإنها لتروّع وتلقف ما يأفكون…الخ(122).
أقول: وفي بقية الأحاديث مِن هذا الباب ان عندهم أيضاً ألواح موسى، وحَجَر موسى الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وخاتم سليمان، وقميص يوسف وهو القميص الذي انزله الله من الجنة على آدم(عليه السلام) وان كل نبيٍ ورث علماً أو غيره وقد انتهى إلى آل محمّد(صلى الله عليه و آله) وانهم ورثة الأنبياء.
وذكر الكليني في باب "ان الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائِكة والأنبياء والرسل(عليهم السلام) ، وروى في هذا الباب أربعة أحاديث نذكر واحداً منها، روى بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام) انه قال: ان للهِ عَزّ وجَلّ عِلْمَين علماً عنده لم يطلع عليه أحداً من خلقهِ، وعلماً نبذه إلى ملائِكته ورسله، فما نبذه إلى ملائِكته ورسله فقد انتهى إلينا(123)

تعليق