إلاّ.. عليّ أو أصلب من الأيّام (رواية)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • العلوية ام موسى الاعرجي
    • Dec 2014
    • 1699

    إلاّ.. عليّ أو أصلب من الأيّام (رواية)



    في البدء..
    لا يعدو الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ أن يكون محاولةً لاستكشاف شواطئ بحر لا نهائيّ.. وما فصوله سوى توقّفات مع ومضاتٍ من الجانب التسجيليّ لحياة ذلك العظيم..
    لقد أحسست منذ « البدايات »، أنني سأضيع في عالمٍ زاخر بالنجوم.. وفي كل مرّة كنت أثوب إلى نفسي فأعود إلى الشواطئ، وأكتفي بتأمّل الأمواج من بعيد..
    كنت واثقاً بأنّ الاقتراب أكثر سوف يؤدّي بي إلى الغرق.. من أجل هذا اكتفيت في رحلتي بالضفاف.. وفي رأيي سوف تبقى الكتابة في كلّ شيء أمراً ممكناً.. « إلاّ عليّ ».

    في ظِلال محمد صلّى الله عليه وآله

    كنتُ أتّبعه اتّباعَ الفَصيل أَثَرَ أُمّه...

    البدايات...
    مضت على عام الفيل (1) ثلاثون سنة، وقد أضحت قصة أصحاب الفيل مجرّد ذكريات يحكيها الأجداد للأحفاد، حتّى إذا أطلّ عام 600 للميلاد كانت الكعبة على موعد مع حادث جديد.
    بدا أبو طالب سيّد مكّة وشيخ البطحاء حزيناً، كان آخذاً سَمْتَه صوب الكعبة يتضرع إلى إله إبراهيم وإسماعيل، فلقد اشتدّ بزوجه الطَّلق وتعسّرت الولادة.
    كانت غيمة حزن تطوف وجهه المضيء، وضع ابن عبدالمطلب كفّه على جبينه، وقد طغت على وجهه الكآبة، قالت نسوة من العرب:
    ـ ما شأنك يا أبا طالب ؟!
    أجاب ابن راعي البيت:
    ـ إنّ فاطمة بنت أسد في شدّة المخاض.
    وضع يديه على وجهه ليحجب حزنه؛ ربّما ليُغمض بصره لتنفتح بصيرته على عوالم سماويّة.
    وأقبل « محمّد » رجل في الثلاثين فألفى عمّه وكافله وحامي طفولته غارقاً في حزن مرير. ومدّ الشاب يده إلى عمّه يساعده على النهوض، ووجد الشيخ نفسه ينقاد مع ابن اخيه، فطالما رأى بركات هذا الفتى الهاشميّ ذكرى شقيقه « عبدالله ».
    وجاءت ابنة أسد تحفّها النسوة إلى بيت الله. قالت وهي تتمسّح بجدران البيت العتيق:
    ـ ياربّ.. إنّي مؤمنة بك وبما جاء به رُسُلُك، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، فبحقّ من بنى البيت العتيق يسِّرْ علَيّ ولادتي.
    واشتدّ المخاض؛ وفي تلك اللحظات عندما يتّحد الإنسان مع السماء انشق الجدار لتلج فاطمة إلى جوف الكعبة.. إلى الاحضان الدافئة المفعمة بالسلام لتترك أهل مكّة في حيرة وذهول.
    وتمرّ أيام ثلاثة، حتّى إذا أشرق اليوم الرابع خرجت فاطمة من أعماق الكعبة وهي تحمل صبيّاً في منظر ملائكيّ لا يقلّ بريقاً عن مشهد مريم ابنة عمران يوم جاءت تحمل عيسى بعد أن اشتدّ بها المخاض عند جذع النخلة.
    وانطلق البشير إلى أبي طالب، فأقبل وأهل بيته مسرعين وقد غمرت الفرحة قلوبهم، وكان أكثرهم فرحة محمّد الذي ضمّ الصبيّ إلى صدره الدافئ وحمله إلى بيت أبي طالب.
    وكما يومض البرق في السماء ومض اسم « عليّ » في ذهن أبي طالب؛ لقد كان عليّ هديّة السماء إلى الأرض؛ صبيٌّ خرج من أعماق الكعبة المعظمة كما تخرج اللؤلؤة من صدفتها الجميلة.
    ونما علي يتخطّى الأيام والشهور، يتأمّل وجوهاً نَضِرة تحنو عليه وتبتسم له وتناغيه، وكان أحبّها إليه وجه يحمل اسماً جميلاً هو « محمّد »؛ وهكذا تدفّق نبع من الحبّ السماويّ بين محمّد وعليّ.
    وتعصف أزمة اقتصاديّة بمكّة، ويعاني أبو طالب من وطأتها فقد كان كثير العيال؛ وهنا يتقدّم محمّد إلى عمّه الثريّ العباس ويقترح عليه التخفيف من أعباء سيّد مكّة وزعيم بني هاشم، ويرحّب العباس بذلك فيأخذ جعفراً ويأخذ محمّد وليد الكعبة عليّاً. وانتقل الصبي إلى ظلال وارفة لينشأ في بيت خديجة المُفعم بالمحبّة والسلام.
    ومن ذلك التاريخ لم يفارق عليّ كافله ومعلّمه العظيم، وهكذا قُدّر لعلي أن يكون صورة مصغّرة لمحمّد المثال الأسمى للإنسانية عبر تاريخها الطويل.
    هل رأيت الفصيل وهو يتبع أمّه، إنّه لا يشعر بالطمأنينة والأمن إلاّ في أحضانها أو بالقرب منها، وهكذا كان الصبي يتبع ابن عمّه يُلازمه كظلّ، يرافقه في طوافه حول الكعبة بيت إبراهيم، وينطلق معه صوب جبل حِراء موعده في كلّ عام، ولم يكن حراء قريباً بل كان يبعد عنها ثمانية أميال، وكان محمّد قد اختار في تلك السفوح غاراً لا يكاد يسع إلاّ لثلاثة أشخاص.
    وكان محمّد يستغرق في تأمّلاته التي تأخذه بعيداً عن ويلات الأرض وأدرانها؛ وكان علي يراقب معلّمه يتعلّم من حركاته وسكناته وتأمّلاته ما يجعله يرى بوضوح حقائق العالم؛ لقد وعى عليّ كلّ التحوّلات الروحيّة لابن عمّه العظيم، فكان له كالمرآة الصافية تنعكس فيها شخصيّة محمّد، وتتجلّى فيها اخلاقه الرفيعة.

    وهبط جبريل
    وعندما بلغ الصبي العاشرة من عمره شهد بكلّ جوارحه أعظم حدث في تاريخ الأرض يوم هبط الملاك يحمل البُشرى لمحمّد هاتفاً:
    ـ يا محمّد! أنت رسول الله.. وأنا جبريل.
    ولقد أفزع هذا الحادث الشيطانَ، فأطلق رنّة يأس وهو يرى النور يغمر حراء وسيغمر العالم كلّه؛ وتساءل الفتى:
    ـ يا رسول الله ما هذه الرّنة ؟!
    وأجاب آخر الأنبياء:
    ـ هذا الشيطان قد أيس من عبادته.
    وألقى النبيّ نظرة حبّ على أخيه الصغير:
    ـ إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى..
    ومنذ ذلك التاريخ ـ أي في عام 610 للميلاد ـ وعلي يتشرّب آيات السماء وكلمات القرآن، وفي مجتمع غارق في الوثنيّة حتى أذُنيه. كان عليّ الفتى الوحيد الذي أضاءت في قلبه حقيقة التوحيد التي جعلته ينظر إلى مئات الاصنام والأوثان المحيطة بالكعبة نظرة ازدراء ويتّجه بقلبه إلى السماء... إلى الآفاق اللانهائيّة حيث تتجلّى عظمة الإله الأوحد.
    وكان رسول الله ينظر نظر حبّ إلى مثالٍ إنسانيّ رفيع اختارته السماء ليكون عَوناً في إبلاغ آخر الرسالات، فلقد حمل علي كلّ ملامح محمد إلاّ النبوّة.

    الإنذار
    وانتقلت دعوة الإسلام إلى اطار أوسع عندما هبط جبريل بالآية الكريمة: وأنذِرْ عشيرتَك الأقربين * واخفِضْ جَناحَك لمنِ اتّبعك من المؤمنين * فإن عَصَوك فقُل إنّي بريء مِمّا تعملون .
    ورأٍى النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يدعو بني عبدالمطلب إلى وليمة في منزله، فأمر علياً أن يُهيّأ لذلك؛ لقد كان طعاماً مباركاً شبع المدعوون منه لحماً وارتووا لبناً؛ فعلّق أبو لهب دون أدب قائلاً:
    ـ ما أشدّ سحر محمّد.
    وبذلك فوّت الفرصة على النبيّ الذي اعتصم بالصمت، ونهض أبو طالب وهو ينظر إلى أخيه من أبيه نظرة غضب، ونهض الجميع.
    وأدرك عليّ أن الجوّ لم يكن مناسباً للحديث في أمر هامّ، بعد الذي تفوّه به أبو لهب.
    وتمرّ الأيام ورأى رسول الله أن يدعو قومه مرّة أُخرى فقال لربيبه عليّ:
    ـ يا عليّ قد رأيتَ كيف سبقني هذا الرجل إلى الكلام، فاصنع لنا غداً كما صنعت بالأمس واجمعهم لعلّي أكلّمهم بما أمرني الله. وتمّت الدعوة عندما احتشد أربعون رجلاً من بني عبدالمطّلب، وكان أبو لهب ينظر إلى محمّد ولكنّه لم ينبس ببنت شَفة فقد هيمن شخص أبي طالب على المكان، وكانوا يعرفون مدى حب سيّد مكة لابن أخيه محمّد، وتحدّث النبيّ بأدب يبهر كلّ من أصغى إلى منطقه، قائلاً:
    ـ ما أعلمُ إنساناً في العرب جاء قومه بمثل ما جئتُكم به.. لقد جئتُكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربّي أن ادعوكم إليه.. فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر فيكون أخي ووصيّي وخليفتي مِن بعدي ؟
    وهيمن الصمت؛ كان عليّ يُصغي إلى النبي وعيناه تتألقان بحماس الشباب؛ فنهض يعلن استعداده المطلق في نصرة النبيّ قائلاً:
    ـ أنا يا نبيَّ الله.
    وطلب الرسول من فتاه أن يجلس؛ وكرّر عرضه مرّة ومرّة ولكن دون جدوى، وفي كل مرّة كان عليّ ينهض، وتأثّر النبيّ لمنظره فاتّجه إليه يُعانقه ويبكي وتمتم بكلمات تخترق الزمن: أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي.
    وانتفض أبو لهب ساخراً كعادته، والتفت إلى أخيه شيخ مكّة:
    ـ قد أمركَ محمّد أن تسمع لابنك وتطيع!
    وفي تلك اللحظات وُلِد الميثاق بين رجلَين تفصلهما ثلاثون سنة، وبرز عليّ لتحمّل مسؤولية لا ينهض بها إلاّ الأوصياء.

    فوق جبل الصفا
    الحقائق الكبرى تضطرم في قلب محمد، تسطع بنور يكاد سنا برقه يُضيء العالم؛ ويأوي محمد إلى فراشه وهو ينوء بثقل الرسالات؛ وجاءت خديجة زوجته المؤمنة الصدّيقة فدثّرته بالغطاء وغادرت الحجرة تاركة رسول الله في استراحة هانئة؛ وفجأة دوّى الصوت الذي سمعه في حراء من قبل:
    ـ يا أيها المُدّثِّر * قُم فأنذِر * وربّك فكبِّر .
    ودخلت خديجة لترى زوجها العظيم غارقاً في تأمّلاته وجبينه ينضح عرقاً.. فقالت بإشفاق:
    ـ لِمَ لا تنام يا أبا القاسم!
    فاجاب آخر الأنبياء في التاريخ:
    ـ انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة.. أمرني جبريل أن أُنذر الناس.
    وانطلق رسول الله إلى جبل الصفا، حتّى إذا استوى على قمّته نادى بصوت عال:
    ـ يا معشر قريش!
    وهبّ الرجال إلى الجبل، ونفوسهم تتطلّع إلى ما سيقوله محمّد.. حتّى إذا اجتمع الناس هتف النبيّ صلّى الله عليه وآله:
    ـ أرأيتم لو أُخبرتُكم أنّ خيلاً بسفح هذا الجبل، أكنتم تصدّقون ؟ وانطلقت صيحات التصديق من هنا وهناك:
    ـ نعم.. فأنت عندنا الصادق المصدَّق.. ما جرّبنا عليك كذباً قَطّ؛ وعندها أعلن النبيُّ رسالة السماء:
    ـ إنّي نذيرٌ لكم بين يدَي عذابٍ شديد.. لا إله إلاّ الله وأنا رسول الله!
    وانتفض أبو لهب وجسمه البدين يكاد يتشظى حقداً قائلاً:
    ـ تبّاً لك سائر اليوم.
    وتأثّر النبيّ بشدّة لموقف أبي لهب، وما لبث جبريل أن هبط يحمل سورة تتشظّى لهباً:
    تَبّتْ يدا أبي لهب وتَبّ * ما أغنى عنه مالُه وما كَسَب * سيصلى ناراً ذاتَ لَهَب * وامرأتُه حمّالةَ الحطب * في جِيدها حبلٌ مِن مَسَد .
    وفي هذا المقطع الزمني دخلت دعوة الإسلام أدقّ مراحلها وأكثرها حساسيّة؛ فقد انتشرت كلمات الله، وراحت تطوف بيوت مكّة، واستنشق شذاها المحرومون والمقهورون كما يستنشقون نسمات « الصبا » وهي تحمل لهم بشارة الربيع القادم.
    ما أن ينشر المساء ستائره، وتتألّق النجوم في صفحة السماء الصافية حتّى يشهد منزلُ النبيّ حركة غير عادية، حيث يهفو الظامئون في غمرة الظلام إلى نبع النور كما الفراشات تبحث عن الشموع.

    لقاء في الكعبة
    عبرت كلماتُ السماء حدودَ مكّة؛ انتشر شذاها في ربوع الجزيرة؛ وشهدت جلسات السَّمَر في مضارب القبائل أحاديث عن رجل مكّيّ اسمه محمّد، من بني هاشم، وخفقت القلوب لكلمة التوحيد، فجاءت تقطع المسافات تتنسّم أخبار النبيّ؛ وذات يوم شدّ جُندَب من قبيلة غِفار الرِّحالَ إلى مكّة، فدخلها على حذر، واتّجه إلى الكعبة بيت الله الحرام عَلّه يعثر على ضالته؛ وراح يراقب عن كَثَب الوجوه، فقد يرى محمّداً، ويُصغي إلى الأحاديث المتناثرة فلعلّه يمسك بخيط فيها يدلّه على النبيّ.. ولكن دون جدوى.
    توارت الشمس خلف تلال مكّة، ودبّ المساء، وأقفرت الكعبة من الوافدين، والرجل الغِفاري ما يزال جالساً ينتظر، وقد اعتصر اليأس قلبه.. مرّت لحظات فدخل شابٌ حرم المسجد وراح يطوف حول البيت العتيق؛ ودار حوار مقتضب بينه وبين القادم الغريب:
    ـ من الرجل ؟
    ـ من غِفار.
    ـ قُم إلى منزلك.
    وأكبر الرجل الغفاريّ سماحة الفتى المكّي فنهض معه إلى منزله.
    أمضى الغفاري ليلته في بيت أبي طالب، فوجد من الكرم العربي والسَّماحة ما بعث في قلبه الأمل، ولم يكن الغفاري ليعلم من يكون هذا الفتى ؟
    وفي الصباح عاد الرجل الغريب أدراجه إلى الكعبة وراح كعادته يتصفّح الوجوه ويُصغي إلى الأحاديث؛ وحلّ المساء، ومرّ الفتى وألقى كلمته بودّ:
    ـ أما آن للرجل أن يعرف منزله ؟!
    ونهض الرجل الغِفاري ملبّياً دعوة الفتى، ومضى معه إلى منزل كريم.
    ويتكرّر ذات المشهد في اليوم الثالث، وقد ارتاح جندب إلى ذلك الفتى الطيب، وإن لم يعرف هويّته بعد. والتزم الرجل الغريب كعادته الصمت وإن بدت الحيرة على وجهه، فسأل الفتى ضيفه:
    ـ أراك مفكّراً، ففيم تفكّر ؟
    ووجد الغريب نفسه يُصارح الفتى بشيء من الاحتياط:
    ـ إن كتمتَ عليّ أخبرتُك.
    ـ أكتم عليك إن شاء الله.
    وارتاح الغريب لكلمة حبيبة إلى قلبه؛ فأفصح عن مهمّته التي جاء من أجلها مكّة:
    ـ بَلَغَنا أنّه قد خرج هنا رجل يزعم أنّه نبي، فأردتُ أن ألقاه.
    ـ أما إنّك قد رشدت، إتّبِعْني حيث أذهب، فان رأيتُ أحداً أخافُه عليك قمتُ إلى الحائط كأنّي أُصلح نعلي فامضِ في طريقك.
    وهكذا سار الفتى وسار خلفه الرجل الغفاري، حتّى وصلا منزل النبيّ، وأسفر اللقاء عن إسلام جندب الذي اصبح اسمُه « أبا ذر »، ولم ينسَ المسلم الجديد أن يسأل رسول الله عن الفتى الذي دلّه عليه، فأجاب النبيّ صلّى الله عليه وآله باعتزاز:
    ـ هو ابنُ عمّي وأخي عليّ بن أبي طالب.
    وتحوّل أبو ذر منذ تلك الليلة الحاسمة في حياته إلى بُركان، بعد أن اضطرمت في أعماقه حقيقة الإيمان، فهتف بعزم:
    ـ والذي بعثَكَ بالحقّ نبياً، لأصرخنّ بها في المسجد الحرام.
    ما أن أشرقت شمس اليوم التالي حتّى كان أبو ذر في وسط المسجد يتحدّى جبروت قريش وهو يهتف بصوت جَهوري:
    ـ يا معشر قريش، إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمّداً رسول الله.
    ولقد هزّت الصرخة الوضعَ السائد، ليبدأ فصل جديد في تاريخ الإسلام.

    هزيمة الشعر الجاهلي
    ورأى زعماء مكّة مواجهة خطر الدين الجديد باستخدام أمضى الأسلحة وهو الشعر الذي بلغ العرب فيه الذروة آنذاك، وهكذا انبرى أبو سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص وابن الزِّبَعْرى وغيرهم إلى مُقارعة النبيّ، ولكنّهم وجدوا أنفسهم خاسرين لدى أول منازلة، ولم يصمد الشعر الجاهلي برُمّته أمام بلاغة آيات القرآن التي فتنت العربي بحلاوتها وطلاوتها وانسيابها وتأثيرها العميق.
    ووقف العربي مشدوهاً أمام ظاهرة بلاغيّة لم تكن لتخطر على باله؛ وقد نصح الوليد بن المغيرة قريشاً بعد أن اعترف قائلاً: إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه ليحطم ما تحته، وإنّه ليعلو لا يُعلى عليه؛ نصحهم أن يقولوا: ما هو إلاّ سحرٌ يُؤثَر أما رأيتموه يُفرّق بين الرجل وأهله وولده.
    وقد لجّ كفار قريش في صراعهم مع النبيّ وقالوا أنّ ما يردّده محمّد لا يعدو أن يكون أساطير الأولين اكْتَتَبَها فهي تُملى عليه بُكرةً وأصيلا؛ وينبري النضر بن الحارث إلى ترديد أساطير قديمة من قبيل حكايات « اسفنديار ورستم » الفارسية الأصل، واتّخذ مكانه في المسجد الحرام حيث يجلس النبيّ لتلاوة القرآن، ولم تُجدِ كلُّ المحاولات في صرف المأخوذين برَوعة البيان السماويّ عن الاصغاء لمحمّد، ولم يجدوا سبيلاً سوى إبداء النصائح قائلين: لا تَسمعوا لهذا القرآنِ والغَوا فيه لعلّكم تَغلِبون !
    إنّنا نذكر ذلك لأنّنا سنجد الفتى عليّ بن أبي طالب سوف يبهر العرب ببلاغته بعد عقود من السنين، فلقد تشرّب آيات السماء منذ اعتناقه الإسلام يوم الثلاثاء (2).

    سنوات الرماد
    تفتّق ذهن أبي جهل عن فكرة شيطانيّة تقضي بمقاطعة بني هاشم اقتصادياً واجتماعياً، وقد تحمّس لها زعماء قريش فحرّروا بذلك صحيفة قاسية وقّعها أربعون رجلاً منهم يمثّلون طوائف قريش؛ وعُلِّقت الصحيفة في جوف الكعبة لكي تكتسب صفة مقدّسة.
    جدير بالذكر أنّ فكرة المقاطعة هذه قد تمّ تداولها في « دار الندوة » وهو المكان الذي تجتمع فيه قريش لمناقشة القضايا المصيرية.
    وكان أبو طالب عم النبيّ صلّى الله عليه وآله في مستوى التحدّي الجديد، فنصح قبيلته بالنزوح إلى أحد أودية مكّة لأن روح المقاطعة يتضمّن شكلاً من أشكال إعلان الحرب، وبات من المتعذّر على المحاصَرين مغادرة الوادي إلاّ في موسمَي الحجّ والعُمرة (3)؛ وقد تفقّد أبو طالب الثغرات الموجودة في الوادي وبنى فيها تحصينات منيعة للحؤول دون تسلّل من يهمّه الاعتداء على حياة النبيّ الذي أضحى رمزاً لأكبر تحدٍّ يواجهه بنو هاشم وبنو عبدالمطلب (4).
    ولقد كانت تجربة الحصار تجربة مريرة عانى فيها المحاصرون من الجوع والظمأ، ولكنّهم صمدوا حتّى النهاية، وكان أكبر همّ أبي طالب حماية النبيّ بأيّ ثمن، وأصبح من المَشاهد المتكرّرة أنّه كان يطلب من ابن اخيه العظيم أن يأوى إلى فراشه في ساعة الغروب حتّى يراه الجميع، فإذا غمر الظلام الوادي طلب من ابنه علي أن ينام في فراش ابن عمّه، فإذا كان هناك من يراقب النبيّ ويترصّده ليعيّن مكانه قبل أن يتسلّل لتنفيذ جريمته، فإنّه سوف يطعن قلب عليّ وبذلك ينجو محمّد صلّى الله عليه وآله وتستمرّ رسالة السماء.
    وليس هناك ما يفسّر هذا الموقف سوى الإيمان.. الإيمان العميق لذلك الشيخ الوقور والسيّد المهاب.
    ولنتصوّر مشاعر ذلك الفتى الشجاع وهو يتقدّم كلّ ليلة طائعاً لينام في فراش رجل تترصّده عيونُ الحقد تتربّص به خناجر الغدر، إنّه يعانق الموت كلّ ليلة فداءً للحبيب محمّد صلّى الله عليه وآله.
    ولقد استمرّت أيام الحصار ثلاث سنين، وكانت الأُرضة تقضم خلالها البُنود الظالمة فلم تترك في الصحيفة سوى كلمة مقدّسة هي « باسمك اللهمّ ».
    ولقد بلغت النذالة لدى زعماء قريش أنّهم كانوا يشتسرون ما يُعرَض من طعام في مكّة لتخلوا الأسواق منه في الأيام التي يخرج فيها المحاصَرون في موسم الحجّ، حتّى إذا جاءوا ليشتروا طعاماً لم يجدوا شيئاً، فيعودوا لمواصلة رحلة الجوع المُضنية.
    واستكملت الارضة التهام الصحيفة الظالمة ما خلا « باسمك اللهمّ » واتصلت السماء بالأرض، وجاء محمّد يبشّر عمّه أبا طالب، ووقف زعماء مكّة مذهولين أمام معجزة السماء، لقد قهرت هذه الحشرة الصغيرة كبرياء قريش، مرّغت غُرورهم بالوحل.
    ولنتخيّل فرحة الصغار وهم يعودون إلى أحضان مدينتهم بعد معاناة طويلة في الوادي.

    العام الحزين
    مضت شهور على انتهاء الحصار وكان أبو طالب الذي تخطى الثمانين يخطو صوب النهاية.. نهاية كلّ الحيوات، لقد هدّته السنون والحوادث.
    وقف عليّ يتأمّل أباه بعينَين غارقتَين بالدموع، لقد توقّف القلب الكبير.. وسكنت تلك الأنفاس الدافئة، ووقف النبيّ صلّى الله عليه وآله يبكي بمرارة وهو يُؤبّن الراحل الكبير:
    ـ رحمك الله يا عمّ.. ربّيتَني صغيراً وكفلتَني يتيماً ونصرتني كبيراً..
    ولم يجد أحداً يواسيه سوى أخيه وربيبه فعانقه وقد أجهش بالبكاء.
    ويسدّد القدر سَهماً آخر، وإذا بخديجة تلك الزوجة المؤمنة الوفية تسقط هي الأُخرى فريسة المرض، ولم تلبث أن ودّعت زوجها العظيم.
    يا لعذاب الأنبياء! يا لصبر محمّد! الزمان يتخطّف أحبَّته مُذ كان جنيناً في بطن أُمّه، وعندما بلغ ستّ سنين ويوم بلغ الثامنة؛ غير أن أبا طالب لم يغادر الدنيا حتّى خلّف فتى يفدي أخاه بروحه، ولم ترحل خديجة حتى قدّمت لزوجها فتاةً تذوب حناناً ورحمة لأبيها.
    بدأ زمن الزمهرير والذئاب التي كانت تهاب أبا طالب ذات يوم، هي الآن تعوي، عيونها تبرق حقداً وقد ذرّ الشيطان قرنَيه (5).

    الحياة في موتكم قاهرين
    سوف يبقى الموت والحياة لغزاً في حياة البشر، فالضباب الذي يهيمن على العيون سوف يحجب الرؤية بوضوح لمن يريد الخلود، فأيّ الطريقَين يسلك: طريق الموت أم طريق الحياة؛ دعنا نراقب منزلاً كريماً في مكّة وقد مضت ثلاثة عشر عاماً على هبوط جبريل في غار حراء.
    شعر المشركون بالخطر وهم يرون أبناء مكّة يفرّون بدينهم متّجهين شمالاً إلى مدينة يثرب، لقد قيّض الله لهم قوماً لنصرة رسالة السماء، وقد تتابعت هجرة المسلمين حتّى أقفرت أحياء بكاملها (6).
    وأدركت قريش أنّ وقوفها مكتوفة الأيدي يعني تنامي الخطر يوماً بعد آخر؛ وانبرى أبو جهل ليضع خطّة جهنمية لتصفية محمّد إلى الأبد.
    وهبط جبريل يفضح خطّة الشيطان لإطفاء النور الذي أضاء جبل حراء (7) وسوف يضيء العالم بأسره:
    وإذ يمكرُ بك الذين كفروا لِيُثْبِتوك أو يَقتلوك أو يُخرجوك، ويمكرون ويمكرُ اللهُ واللهُ خير الماكرين .
    وفي تلك اللحظات التاريخية بدأت واحدة من أعظم قصص الفداء في تاريخ الإنسان.
    ولا يمكن للمرء مهما أُوتي من سَعة الخيال أن يتصوّر مشاعر شاب في الثالثة والعشرين من عمره وهو يتقدّم إلى معانقة الموت.
    تسارعت الأحداث بشكل مثير، ونسجت قريش أخطر مؤامراتها كما تنسج العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت، ودعا النبيّ ابن عمّه الحبيب وأطلعه على فصول المؤامرة؛ وكان المطلوب من علي أن يرقد في فراش النبيّ، وكان همّ ابن أبي طالب الوحيد هو أن يسأل:
    ـ أوَ تَسلم يا رسول الله إنْ فديتُك بنفسي ؟ (8)
    ـ نعم... بذلك وعدني ربّي.
    وارتسمت مشاعر فرحٍ على وجه علي، وتقدّم إلى فراش النبي ليرقد بسلام آمناً مطمئناً، فيما كانت عيون أربعين ذئب تبرق في الظلام، وتمرّ اللحظات مثيرة وانسلّ رسول الله خارجاً من المنزل متّجهاً صوب الجنوب إلى غار في جبل ثور.
    واقتحم المتآمرون منزل رسول الله والسيوف تبرق في غبش الفجر، وكانت المفاجأة أن هبّ عليّ من الفراش، وأسقط في أيديهم.
    وشهدت مكّة في الساعات الأولى من الصباح حركة غير عادية، لقد رحل الإنسان الذي أرسلته السماء ليغمر الأرض بنور ربّها.
    فُرسان الدوريات تبحث في كلّ مكان، وقد رصدت قريش الجوائز المغرية لمن يأتيها بمحمّد حيّاً أو ميتاً أو يُدلي بمعلومات تساعد في محاصرته.
    ومكث علي في مكّة أياماً كان خلالها يتّجه إلى الأبطح في الغدوّ والآصال فينادي:
    ـ ألا من كانت له قِبلَ محمّد أمانة فليأتِ لُتؤدّى له أمانتُه.

    رسالة من قُبا
    وصل سيّدنا محمّد « قبا » (9) وحطّ رحله في تلك البقعة من أرض الله؛ ومن قبا بعث النبيّ صلّى الله عليه وآله رسالة إلى ابن عمّه يأمره فيها بالقدوم، وانطلق أبو واقد الليثي إلى مكّة وسلّم الرسالة عليّاً.
    ترى لماذا هذا الاصرار على انتظار عليّ ؟ لماذا ظلّ النبيّ على أبواب المدينة حتّى يقدم ابن عمه وأخوه ؟ لقد وقف التاريخ الهجري ينتظر تلك اللحظات الدافئة في لقاء محمّد وعليّ، هناك في أعماق عليّ سرّ عجيب، عندما تضطرم الحقيقة الكبرى في الذات الإنسانيّة فتُحيل كلّ ما حولها أشياءً متألّقة بضوء لا يستمدّ شعاعه من شمس ولا قمر، إنه الضوء القادم من قلب السماوات.. وهكذا كان إيمان ذلك الفتى أنّه لا يعرف في الوجود سيّداً غير محمّد.. محمّد الذي فتح عينيه على ينابيع النور في سفوح حراء.
    لا شيء في الأُفق سوى الرمال وذلك الخط الأزرق الذي يعانق سُمرة الرمال، ولاحت قافلة تسير على هون.. قافلة فيها أربع فواطم.. فاطمة بنت أسد وفاطمة بنت محمّد، وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت الزبير. وفي « ذي طوى » كان المقهورون ينتظرون عليّاً لينقذهم من القرية الظالم أهلها، وسارت القافلة تشقّ طريقها في بطون الأودية، ولا شيءَ سوى السماء الزرقاء والرمال السمراء.
    عليّ يعرف أشياء كثيرة... منذ عشرين سنة وهو يرافق رجلاً اختارته السماء، إنّه لا يرافقه فحَسْب بل يذوب فيه ويندمج معه.. لهذا فهو يعرف سرّ العالم.
    شيء واحد كان يجهله تماماً ولا يعرف له معنى هو الخوف، لقد وقف الإنسان عاجزاً أمام لغز الموت نهاية كل الحيوات، هل هو نهاية أم بداية ؟ ولكنّ علياً الذي اكتشف نبع الخلود قَهَرَ الموت أكثر من مرّة، وكان الموت يهرب منه، يفرّ من بين يديه كلّما أراد عِناقه.
    لقد التحف قبل أيام ببُردة النبيّ وأغمضَ عينيه في فراش تغمره رائحة الفردوس، إنّه يقدّم نفسه قرباناً لآخر الأنبياء في تاريخ الإنسان؛ وإذا كان إسماعيل قد أسلم وجهه لله، فإنّه كان يدرك أن أباه سيذبحه على هون، ولكنّ عليّاً أغمض عينيه ليفتحهما على عشرات الخناجر المسمومة التي ستبضّعه، وسوف تتدفّق دماؤه من خلال مئات الجراح.
    لقد تنافست الملائكة من أجل الحياة، لم يَفْدِ جبريلُ ميكال، واختار كلاهما الحياة، ولكنّ الإنسان الذي صاغته السماء حطّم حاجز الموت، كسّر قضبان الزمن الصدئة واختار الفداء (10).
    القافلة تطوي المسافات.. حتّى إذا وصلت قريباً من « ضَجنان » أدركها « الطلب »، وإذا بثمانية فرسان يعترضون القافلة يريدون إعادة التاريخ إلى الوراء، وفي ذلك المكان فُوجئت جزيرة العرب بـ « ذي الفقار » يتألّق في دنيا الفروسية؛ كانوا ثمانية فرسان يريدون إعادة القافلة إلى مكّة.. إلى القرية الظالم أهلها.. العيون تبرق حقداً؛ هتف فارس لم يكتشف علياً بعد:
    ـ أظننت يا غدّار أنّك ناجٍ بالنسوة.. ارجِع لا أباً لك.
    أجاب علي بثبات جبل حراء:
    ـ فإن لم أفعل ؟
    ـ لترجعنّ راغماً.
    وأغار « جناح » (11) على النوق لإثارتها فاعترضه عليّ، فأهوى عليه جناح بضربةٍ تفاداها علي وسدّد له ضربة جبّارة فقضى عليه؛ تسمّر الباقون وقد أذهلتهم المفاجأة.. إنّهم لم يَرَوا في حياتهم ضربة كهذه؛ صاح أحدُهم وقد رأى الفتى يستعدّ لشنّ هجوم معاكس:
    ـ احبِس نفسَك عنّا يا ابن أبي طالب.
    وهتف عليّ كأنّما يتحدّى العالم الوَثنَيّ بأسره:
    ـ إنّي منطلق إلى أخي وابن عمّي رسول الله.
    وانطلقت القافلة صوب يثرب، وكان رسول الله ما يزال ينتظر في قبا؛ ووقف التاريخ الإنساني ينتظر قبل أن يلج عهداً جديداً من فصوله المثيرة في المنعطفات التي تُغيّر فيها المدن أسماءها (12).
    وفي السادس عشر من ربيع الأول الموافق 20 أيلول عام 622 للميلاد وصلت قافلة التاريخ الهجري مدينة يثرب، وكانت الحُشود المسلمة تحدّق في « ثنيّات الوداع » تترقّب وصول آخر الأنبياء في تاريخ البشرية.
    وكانت « القصوى » تشق طريقها إلى بقعة اختارتها السماء لتكون منزلاً ومسجداً وطهوراً؛ وتوقفت الناقة في « مربد » (13) لغلامَين يتيمَين من بني النجّار.
    وبُوشِر العمل في بناء مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله وكان ذلك إيذاناً بميلاد أُمّة جديدة؛ وانسابت كلمات الأذان معبّرة أخّاذة كلحنٍ قادم من السماء.

    ومرّ عام
    استقبلت المدينة المنوّرة عامها الثاني بالأمل، فالحياة الجديدة تتدفّق والمسلمون أُمّة واحدة؛ وفي الخامس عشر من شعبان هبط جبريل يعلن تحوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ وفي غمرة هذا العام المبارك تقدّم عليّ الذي بلغ من العمر خمساً وعشرين سنة إلى خِطبة فاطمة بنت رسول الله، وتمّ الزواج المبارك في مراسم غاية في البساطة رعاها النبيُّ بنفسه، وقد بلغ من البساطة والشفّافية أن ترك بصماته واضحة في التاريخ الإسلامي؛ وانتقل الزوجان إلى بيت دافئ مفعم بالمحبة والسلام (14).
    وتمضي الحياة هادئةً كنهر تنثال مياهه على الشطآن، والمجتمع الوليد ينمو، يتفتّح للعطاء كشجرة أصلُها ثابت وفَرعها في السماء؛ ولكنّ الذين تآمروا في مكّة لإطفاء النور كَبُر عليهم نجاح محمد، لهذا فكّروا ودبّروا فلم يجدوا سوى الحصار التجاري سلاحاً لتجويع شعبٍ آمن بالله وكفر بالأوثان.
    وهكذا شحّت الموادّ الغذائية في المدينة وارتفعت الأسعار وتلاعب اليهود بالسوق؛ ولم يقف سيّدنا محمّد مكتوف الأيدي، فردّ كيد مكّة إلى نحرها وجرّد حملة عسكرية وقد أُذن للذين يُقاتَلون بأنّهم ظُلِموا وإنّ الله على نَصْرِهم لَقَدير (15).
    وكان هدف الحملة العسكريّة اعتراض قافلة تجاريّة مؤلّفة من ألف بعير وتضمّ رؤوس أموال ضخمة؛ وفي مصادرة هذه القافلة يكون المسلمون المهاجرون الذين صودرت ممتلكاتهم قد استرجعوا جزءً من حقوقهم المُغتصَبة.
    وتسارعت الأحداث بشكل مثير، وإذا بالأنباء تفيد عن تحرّك عسكريّ خطير في مكّة، وتَقدّمَ جيش مؤلّف من ألف مقاتل؛ وكان أمام جيش النبيّ المؤلّف من ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتل من المشاة باستثناء فارس واحد (16) أن يحسم موقفه بين الانسحاب أو المواجهة؛ وأراد سيدنا محمّد معرفة مدى الاستعداد القتاليّ لأصحابه، فوجد لدى المهاجرين عزماً على القتال حتّى النهاية، ولدى الأنصار حماساً في الطاعة يصل إلى اجتياز البحر الأحمر (17)، وفي فجر السابع عشر من شهر رمضان وقرب آبار بدر التحم الجيشان في معركة ضارية أسفرت عن انتصارٍ ساحق للجيش الإسلاميّ وسقوط سبعين قتيلاً من المشركين؛ وفي ذلك اليوم الخالد ارتفع اسم عليٍّ عالياً في سماء الشجاعة والفروسيّة (18).

    إلاّ ذو الفقار
    نجم عن هزيمة المشركين الساحقة في بدر أن غيّرت قريش طرقها التجارية من الشام إلى العراق، وبالرغم من صعوبة ذلك وجهل قريش بالطرق الجديدة، إلاّ أنها فضّلت ذلك مُرغَمة بعد أن أصبحت قوافلها التجارية على طريق الشام مُهدَّدة.
    وفي مكّة كانت هند زوجة أبي سفيان تتحرّق حقداً وتترقّب ساعة الانتقام والثأر، وكان حقدها ينصبّ على ثلاثة نفر هم محمّد صلّى الله عليه وآله وعليّ والحمزة؛ وقد رفضت تلك المرأة البكاء والنوح على أبيها عتبة وأبنَيه لتحتفظ بأكبر مخزون من الحقد وروح الانتقام. ويمكن القول أنّ معركة أحد، إنّما جاءت استجابةً عمياء لروح الثأر التي ينطوي عليها عرب الجاهلية، وتقف هند وراء حماس أبي سفيان في صراعه مع الإسلام، مع أنّ البيت السفيانيّ لم يكن أقلّ حقداً من غيره على سيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله (19).
    وفي شوّال وقد مرّت الذكرى الأولى لأكبر وأوّل انتصار إسلامي قرب عيون بدر.. بدأ المشركون بقيادة أبي سفيان زحفهم باتّجاه المدينة، وقد خرجت هند ومعها بعض النسوة يحملن الدفوف وينشدن أشعار الثأر، التي تخرج عن دائرة الحياء (20).
    تلقّت المدينة الأنباء وبدأت الاستعدادات للمواجهة بعد جَدَل في المسجد، ولكن النبيّ صلّى الله عليه وآله وقد رأى حماس الشباب في القتال خارج المدينة لبس لامة حربه وحسم الأمر، وتحرّك الجيش الإسلامي؛ المؤلّف من ألف مقاتل، ولكنّ رأس النفاق ابن أبي سلول قرّر العودة ومعه ثلاثمئة مقاتل مُحدِثاً بذلك شرخاً واسعاً في صفوف القوات الإسلامية وهي على وشك الاشتباك، وقد رأى بعض الصحابة مواجهتهم ولكنّ النبيّ رفض ذلك.. وفي جبل أُحد (21) التقى الجمعان، وضع النبيّ صلّى الله عليه وآله خطة المواجهة مؤكّداً على احتلال مرتفعات جبل « عينين » وتمركز قوّة من أمهر الرماة مؤلّفة من خمسين جنديّاً مهمّتها الدفاع وحماية مؤخّرة الجيش الإسلاميّ من حركة التفافٍ قد يقوم بها العدو.
    رتّب المشركون قواتهم في صفوف مستفيدين من تجربتهم المريرة في بدر، مقلّدين بذلك الجيش الإسلاميّ، فهي استراتيجيّة إسلاميّة في القتال.
    اشتعلت المعركة وكانت الجولة الأولى للمسلمين، وقد استبسل علي في القتال فكان ينقضّ على أصحاب اللواء من بني عبدالدار فتساقطوا تسعةً الواحد بعد الآخر، وعندما سقط اللواء للمرّة الأخيرة دبّت الهزيمة في قوّات الشرك، وأطلقت هند ساقَيها للريح وهي ترى أحلامها تذروها رياحُ الغضب الإسلامي.
    وفي تلك اللحظات المثيرة تناسى الرماة وصايا النبيّ صلّى الله عليه وآله وغادروا مواقعهم من أجل الغنائم رغم صيحات قائدهم.
    وهنا انتهز خالد بن الوليد الفرصة فقاد فرسانه في حركة التفافٍ سريعة مفاجئاً مؤخّرة جيش المسلمين، فحدثت الفوضى وعمّ الارتباك صفوف المقاتلين، ومن ثم جاءت الهزيمة، وانتشرت شائعة حول مصرع النبيّ، وفي غمرة هذه الفوضى كان سيّدنا محمّد ومعه بعض أصحابه وفي طليعتهم عليّ بن أبي طالب يسطرون أكبر ملحمة في المقاومة، وكانت كتائب الشرك تهاجم بعنف مركز القيادة، وكان علي والزبير وطلحة وأبو دجانة والحمزة وحُذيفة ومصعب بن عمير وغيرهم يقاتلون ببسالة، وسقط مصعب شهيداً فأخذ علي اللواء، وسقط حمزة سيّد الشهداء، والملحمة مستمرة، والكتائب تندفع نحو رسول الله، وهو يهتف بعليّ: دونك الكتيبة، وأُغمي على النبيّ من شدّة الجراح، وأفاق النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقال لعليّ: ما فعل الناس ؟ فأجاب: لقد نقضوا العهد ووَلَّوا الدُّبُر؛ وفي تلك الأثناء انقضّت كتيبة مؤلّفة من خمسين فارساً، فهتف النبيّ بابن عمه:
    ـ اكفني هولاء.
    فانبرى عليّ وتصدّى لها بمفرده وأجبرها على التراجع؛ وفي تلك اللحظات وفي غمرة الغبار والقتال هبط جبريل قائلاً:
    ـ يا محمّد، إنّ هذه لَهي المواساة!
    فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله:
    ـ وما يمنعه من ذلك وهو مني وأنا منه.
    فقال جبريل:
    ـ وأنا منكما.
    وسمعت الأذن البشريّة في تلك البقعة الملتهبة من دنيا الله صيحةً سماوية تملأ الفضاء:
    ـ لا سيفَ إلاّ ذو الفقار.. ولا فتى إلاّ عليّ!

    ويوم زاغت الأبصار
    أسفرت معركة أحد عن زعزعة هيبة المسلمين في الجزيرة العربية إلى حدٍّ ما (22)، ولكنّ سيّدنا محمّداً صلّى الله عليه وآله اتّخذ ما من شأنه استرداد مجد الإسلام، إذ عبّأ النبيّ صلّى الله عليه وآله جيشه بعد يومٍ واحد فقط من المعركة وقاد حملة لمطاردة جيش المشركين الذين فضّلوا الانسحاب مكتفين بما حقّقوه من نجاح مؤقّت؛ وقد رابط النبيّ صلّى الله عليه وآله في « حمراء الأسد » مدّة ثلاثة أيام والجيش الإسلامي يشعل النيران ليلاً إمعاناً في تحدّي المشركين الذين عسكروا في وادي الروحاء لاتخاذ قرار حول مهاجمة المدينة المنورة، ولقد كان أبو سفيان يُدرك قبل غيره أنّ النصر الذي أحرزه جيشه في أُحد كان بسبب مغادرة رماة الجيش الإسلاميّ مواقعهم، لهذا قرّر العودة إلى مكّة منحنياً للعاصفة.
    وما يؤكّد هذا الرأي أنّ قوافل قريش التجاريّة ظلّت تسلك طرق العراق الأكثر صعوبة، ومع كلّ هذا فقد بدأ المسلمون يهدّدون هذه الطرق أيضاً مما جعل المشركين يشعرون بالذُعر، فالتجارة كانت عَصَب الحياة في قريش.
    وفي السنة الرابعة للهجرة وقع حادث خطير عندما حاول يهود « بني النَّضير » اغتيال النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقد أخفقت المحاولة في اللحظات الأخيرة.. فقد تدخّلت السماء وأنذرت النبيّ صلّى الله عليه وآله بما دُبّر له. ونتيجة لهذا الانتهاك السافر لمعاهدةٍ بينهم وبين المسلمين قرّر الرسول صلّى الله عليه وآله تأديبهم، فحُوصرت قِلاعهم، وانبرى « عزّوك » لصبّ سهامه على خيمة النبيّ فأُبعدت قليلاً عن مرمى السهام، وقد سقط عزوك في كمينٍ نصبه عليّ بن أبي طالب فقُتل هو وعشرة من أفراده، واخيراً استسلم يهود بني النضير فتمّ ترحيلهم من المدينة (23)، ويبدو أنّ حُيَيّ بن أخطَب زعيم بني النضير قد اختار خيبر وفي رأسه فكرةٌ رهيبة للقضاء على الإسلام.

    العدوان
    يمكن القول أنّ فكرة غزو المدينة على النحو الذي وقع في شوّال من العام الخامس الهجري هي فكرة يهوديّة، وبالتحديد فكرة حُيَيّ بن أخطب، الذي وظّف ثلاثة عناصر هامّة: المال اليهوديّ، والحقد القُريشيّ الوَثَنيّ، والأطماع الغَطفانيّة بكلّ عمقها البشريّ الهائل (24).
    وهكذا فوجئت المدينة المنوّرة بأنباء مثيرة حول تجمّع قَبليّ ضخم يربو على العشرة آلاف مقاتل.
    وثار جدل واسع حول أسلوب مواجهة هذا الزحف الكبير، وفي غمرة النقاش طرح الصحابي الجليل سلمان الفارسيّ فكرة الخندق، وهي فكرة لم يألفها العقل العربي في تلك الحقبة من الزمن، وقد حَظِيت الفكرة بحماس الجميع، وتحوّل سلمان في نظر المسلمين إلى بطل (25).
    وفي ظروف بالغة القسوة بوشر العمل بحفر الخندق في الجهة الشمالية من المدينة، وهي المنطقة المكشوفة التي تشكّل نقطة الضعف في دفاعات المدينة.
    كان الفصل شتاءً والرياح القارسة تعصف بعنف، والعام عام مجاعة، وكان المسلمون لا يجدون في بعض الأحيان ما يسدّ رمقهم (26)، على أننا لا ننسى أنّ شهر رمضان المبارك الذي استوعب مدّة الحفر قد منح المؤمنين إرادة جبّارة جعلت من كلّ تلك المعاناة عبادة وتقرّباً إلى الله. كما لا ننسى مدى الألم الذي يستشعره المؤمنون وهم يسمعون الشائعات التي يبثّها اليهود والمنافقون، والتي اتّخذت في بعض الأحيان طابع السخرية اللاذعة (27).
    وبالرغم من كلّ الظروف المريرة فقد استكمل المسلمون حفر الخندق قبل ثلاثة أيام من وصول جيوش الغزو، وفُوجئ أبو سفيان بخندقٍ هائل يحول بينه وبين كلّ أحلامه المريضة في القضاء على الإسلام.
    عسكرت القوات الزاحفة، وهيّأت نفسها لضرب الحصار، ومرّت الأيام قلقة مثيرة للأعصاب؛ رابطت القوات الإسلاميّة قريباً من الخندق، وحدثت مناوشات بالسهام، وفي غمرة الحصار تناهت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله أنباء حول تحرّكات مشبوهة لبني قُريظة ونقضهم معاهدة الدفاع المشترك، بل ونيّتهم في الانضمام إلى قوات الغزو، وكانت قلاعهم داخل المدينة ممّا يُتيح لهم طعن الجيش الإسلامي في خاصرته، سيّما وأنهم يُشكّلون قوّة عسكرية ضاربة مجهّزة بأحسن الأسلحة ومؤلّفة من ألف مقاتل.
    وتفاقمت الأخطار، وراح المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتسلّلون من المعسكر الإسلامي ليلاً، فلم يبق مع النبيّ صلّى الله عليه وآله سوى ألف مقاتل فقط.
    وفجأة.. حدث تطوّر عسكري خطير عندما نفّذ عدّة فرسان من المشركين مغامرة جريئة في اقتحام الخندق والعبور إلى الجهة الأخرى، وليس هناك أفضل من هذه الآيات في رسم الحالة الخطيرة التي عاشها المسلمون في واحدة من أخطر المنعطفات التاريخية: يا أيّها الذين آمنوا اذكُروا نِعمةَ الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تَرَوها وكان اللهُ بما تعملون بصيراً * إذ جاءوكم مِن فوقكم ومِن أسفلَ منكم وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ وتظنّون بالله الظُّنونا * هنالك ابتُلِيَ المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديداً (28).
    راح الفارس المغامر يخطر في مِشيته ويقوم باستعراضات استفزازيّة متحدّياً الإسلام والمسلمين، وقد وصل به الاستهتار أن هتف ساخراً:
    ـ ألا مِن مشتاق إلى جَنّته ؟!
    وللأسف فقد سجّلت معنويات المسلمين أدنى مستوىً لها باستثناء فتى الإسلام عليّ بن أبي طالب الذي نهض منذ اللحظات الأولى للمواجهة، فأنقذ بذلك الكرامة الإسلاميّة، وسوف ينقذ المصير الإسلاميّ من أكبر كارثة.
    نهض عليٌّ بثباته المعروف وشجاعته، وتقدّم نحو سيّدنا محمّد الذي أشرف شخصيّاً على تجهيزه للصراع (29).
    وعندما انطلق عليّ إلى ميدان المواجهة الخالدة رفع النبيّ صلّى الله عليه وآله يديه إلى السماء لتخترق دعواتُه الغيوم المتراكمة:
    ـ اللهمّ إنّك قد أخذتَ منّي عُبيدةَ يوم بَدر، وحمزةَ يوم أُحد.. وهذا عليّ أخي وابن عمي، فلا تَذَرْني فرداً وأنت خير الوارثين.
    وكان من تقاليد القتال الفرديّ أن يعرّف كلّ طرف نفسه إلى الآخر، سأل الفارس المعلَّم خصمه:
    ـ من أنت ؟
    ـ عليّ بن أبي طالب.
    وهنا تغيرت نَبرة الخِطاب لدى عمرو بن عبد ودّ العامري، فتظاهر بالاشفاق قائلاً:
    ـ ليبرز إليّ غيرُك يابن أخي.. إنني أكره أن أقتُلك لأنّ أباك كان صديقاً لي (30).
    ودار حوار قصير.. فقد عرض عليّ ثلاث نقاط على خصمه قائلاً: إنّ قريشاً تتحدّث عنك أنّك تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث خِلال إلاّ أجبتُه ولو إلى واحدة.
    ـ أجل.
    ـ فإنّي أدعوك إلى الإسلام.
    قال ابن عبد ودّ:
    ـ دَع منك هذه.
    ـ أدعوك أن ترجع بمَن يتبعك من قريش إلى مكّة.
    قال الفارس بكبرياء:
    ـ إذن تتحدّث عني نساء مكّة بالجُبن.
    وهنا قال علي متحدّياً الوثنية كلّها:
    ـ إذن أدعوك إلى المبارزة.
    وغلت عروق الفارس المعلّم، فقفز من فوق فرسه وسدّد ضربة إلى حصانه فعقره، وهذا يعني أنّه سيقاتل حتّى النهاية.
    كان عمرو ما يزال في فورة الغيظ فهجم على خصمه وسدّد له ضربةً جبّارة عليّ اتّقاها بدرقته ونشب السيف في الحديد، وهنا ردّ عليّ بالمِثل فأنشب ذا الفقار في عاتق الرجل الوثنيّ فسقط على الأرض.. وانطلقت صيحة نصر من قلب الغبار:
    ـ الله أكبر.
    وأدرك الجيش الإسلامي أنّ عليّاً قد قتل خصمه العنيد فانطلقت صيحات التكبير، وفي غمرة الذهول فرّ رفاق الفارس القتيل متجهين إلى الثغرة التي عبروا منها وسقط أحدهم في أعماق الخندق، وراح المسلمون يمطرونه بالحجارة، فهتف وهو يتقّي الحجارة بيده:
    ـ يا معشر المسلمين قتلة أكرم من هذه (31).
    وقد أسفرت المواجهة عن نتائج هائلة، إذ تغيّر ميزان القوى لصالح المسلمين سيّما وأنّ عليّاً قد رابط ومعه مفرزة من المقاتلين عند الثغرة التي عبر منها المشركون، وبهذا يكون قد فوّت آخر فرصة للعدوّ في اقتحام الخندق واجتياح المدينة ومن ثمّ القضاء على رسالة الإسلام إلى الأبد. وعاد بطل الإسلام إلى معسكره يبشّر رسول السماء بالنصر، واستقبله عمر بن الخطاب قائلاً:
    ـ هلاّ سلبته درعَه فإنّه ليس في العرب درعٌ مثلهاّ. فقال عليّ مجسّداً أسمى مُثل الفروسيّة والإنسانية:
    ـ استحييتُ أن أكشف سَوءته.

    راية الحبّ الخالدة
    ظلّت خيبر تمثّل تهديداً خطيراً للوجود الإسلامي، وكان سيّدنا محمد يراقب عن كَثَب التحرّكات اليهوديّة المشبوهة لتحريض القبائل العربية ضد الإسلام، سيما قبائل غطفان التي تحركها الأطماع في السلب والنهب.
    وتنامى الخطر اليهودي بعد توقيع معاهدة سلام بين المسلمين ومشركي قريش (32)، التي فُسّرت على أنّها تراجع للإسلام وضعف.
    وفي شهر صفر من السنة السابعة للهجرة تحرّك الجيش الإسلاميّ المؤلّف من ألف وأربعمئة مقاتل صوب الحصون اليهوديّة المنيعة؛ وانتخب سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله الطريق المؤدية من خيبر إلى مضارب غطفان للحؤول دون أي تنسيق بينهما أو وصول إمدادات عسكرية.
    وبالرغم من عنصر المفاجأة الذي وفّره النبيّ صلّى الله عليه وآله بجيشه إلاّ أنّ مناعة الحصون والقلاع اليهودية حالت دون سقوطها رغم تشديد الحصار.
    كانت الجزيرة العربية تراقب باهتمام الصراع المصيريّ، خاصّة قريش التي كانت تتمنى أن تدور الدائرةعلى المسلمين.
    أخفقت الحملات الإسلامية المتكررة في تحقيق تقدّم يذكر؛ وطالت مدّة الحصار وقاربت المُؤن على النفاد، وراح اليهود يسخرون من المسلمين.
    وفي تلك اللحظات التاريخية المثيرة هتف النبيّ:
    ـ لأُعطينّ الرايةَ غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولهَ، ويحبّه اللهُ ورسولُه.
    وبات الجميع وهم يحلمون براية الحب الأزليّة.
    أشرقت شمس اليوم التالي.. وتطلّع المسلمون إلى مَن سيمسك بالراية، ولم يطل الوقت حتّى ظهر عليّ بن أبي طالب والراية تخفق فوق هامته.
    قال النبيّ وهو يوصيه:
    ـ انطلق يفتح الله عليك.
    وجسّد عليّ المَثَل الأعلى للجنديّ المسلم: تقدّم باتّجاه الهدف، ثمّ توقّف وسأل دون أن يلتفت إلى ورائه:
    ـ على ماذا أُقاتلهم يا رسولَ الله ؟
    ـ قاتِلهم حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله.
    وتقدّم عليّ والحماس يملأ صدره، حتّى إذا أصبح قريباً من الحصن رمى بدرعه ليتخفّف من وزنه ويكون أكثر قُدرة على المناورة والحركة، وأمر جنوده أن يفعلوا مثله.
    ورأى اليهود في عليّ بلا درع لُقمة سائغة، فهبط إليه الحارث (33) وهو غارق في الحديد وراح يتهادى بغرور، ولم يمهله علي إذ قفز عالياً ثم أهوى عليه بضربة مدمّرة فسقط إلى الأرض، وراح أبطال اليهود يبرزون إليه الواحد بعد الآخر فيلاقون ذات المصير، وانقلب الموقف وعمّ الحماس المسلمين الذين راحوا يسخرون من أبطال اليهود وهم يتساقطون عند قدمَي بطل الإسلام.
    وهنا يقرّر مرحب خوض المعركة المصيرية وإعادة روح الثقة بالنفس لدى اليهود.
    تقدّم مرحب وهو مُثقَل بالحديد والزرد، وفي يده رمح طويل ذي ثلاث رؤوس؛ وليس في جسده الفارع ثغرة يمكن للسيف أن ينفذ فيها.
    سدّد البطل اليهودي رمحَه باتجاه صدر عليّ، وأيقن اليهود والمسلمون بأنّها ستكون نهاية لعليّ، ولكن البطل الإسلامي تحاشى الضربة وقفز في الهواء عالياً ليهوي بضربة أودعها غضب السماء. مرّت لحظات مثيرة ثمّ هوت كتلة الحديد فوق الأرض مُحدثة دويّاً رهيباً، وشعر اليهود بالرعب وانكفأوا داخل حصونهم، وهنا أعلن عليّ شارة الهجوم العام.
    وفي لحظات سقط القموس (34) وتساقط بعد ذلك سائر الحصون.
    وظهرت علائم الارتياح على وجه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله، وفي غمرة هذا الفرح وصل جعفر بن أبي طالب من الحبشة على رأس المهاجرين، وتضاعفت فرحة النبيّ صلّى الله عليه وآله حتّى سُمِع يقول:
    ـ واللهِ ما أدري بأيِّهما أنا أشدّ سروراً: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟!
    وعانق عليّ أخاه بعد فراق طويل.
    إنّ أعظم ما في عليّ بن أبي طالب هو توازنه العجيب، فلقد ظلّ كما هو رغم كلّ هذه الأمجاد الحربيّة، وكان سيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله لا يفتأ يذكر فضله واخلاصه، وكان عليّ يزداد حبّاً وولاءً لمعلّمه ومربّيه وأخيه العظيم.

    آية في الطهر
    رزق الله عليّاً صبيَّين هما ريحانتَي رسول الله (35)، وتبلور مفهوم أهل البيت عليهم السّلام ؛ وها هو سيّدنا محمد صلّى الله عليه وآله ينثر كلمات سماويّة ليجعل لهم مكاناً في قلوب المؤمنين. ليكونوا نجوماً في الأرض يهتدي بها الحائرون (36)، وسفينةَ إنقاذٍ تشقّ عباب الأمواج الثائرة فينجو بها الراكبون(37)، وباباً للرحمة والمغفرة (38).
    وفي بيت أم سلمة هبط الملاك بآية الطهر، فالسماء تريد أن تطهّر أهل البيت، وتجعل من ذويه أمثلة للناس جميعاً، وتصفّد جبين محمّد صلّى الله عليه وآله وهو يتلقى كلمات من ربّه: إنّما يُريد اللهُ لِيذُهِبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُم تطهيراً .
    واستدعى سيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله أخاه وابنته وسِبطَيه، ليضمّهم إليه قائلاً: اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهِبْ عنهم الرجس وطَهّرْهم تطهيرا.

    آل محمد صلّى الله عليه وآله
    ستبقى سورة ال عمران (39) شاهداً على مكانة أهل البيت، فهذه الأُسرة الكريمة التي طهّرتها السماء من أدران الأرض وباركها آخر النبوّات.. ستبقى وإلى الأبد معالمَ الطريق إلى الله.
    في حدود السنة السابعة للهجرة، والجدل اليهودي الإسلامي في ذروته.. جاء وفد نجران، فالنصارى يريدون أن يُدْلوا بدَلْوهم ويقولوا كلمتهم في غمرة الجدل الدينيّ.
    جاءوا يجادلون في طبيعة المسيح.. إنّه ابن الله، إنّه لا ينتمي إلى عناصر الأرض.
    واستقبل النبيّ صلّى الله عليه وآله الوفد المؤلف من ستّين مسيحيّاً يتقدّمهم « العاقب » (40) و « الأسقف » (41).
    استقبل النبيّ ضيوفه بودّ وخاطبهم بأدبه العظيم:
    ـ يا أهلَ الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بينَنا وبينَكُم ألاّ نَعبُدَ إلاّ اللهَ ولا نُشرِكَ به شيئاً ولا يتّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله (42).
    وشرح لهم آخر الأنبياء توحّد المسار النبويّ عبر التاريخ:
    ـ آمنَ الرسولُ بما أُنزِل إليه من ربّهِ والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكتِه وكُتُبهِ ورُسُلهِ لا نُفرِّق بين أحدٍ من رُسُله وقالوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفرانَكَ ربَّنا وإليكَ المصير (43).
    وتساءل الوفد عن طبيعة المسيح ولم يكن له أب، فهو ابن الله.
    قال النبيّ صلّى الله عليه وآله بلغة السماء:
    ـ ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قد خَلَت مِن قَبْلِه الرُّسُلُ وأُمُّه صِدّيقةٌ كانا يأكُلانِ الطعام (44).
    وتساءل الأسقف عن طبيعة المسيح وقد وُلد من غير أب، ولدته العذراء البتول ؟!
    وكان جواب السماء:
    ـ إنّ مَثَلَ عيسى عند الله كمَثَل آدمَ خَلقَه مِن ترابٍ ثمّ قال له كُن فيكون (45).
    واستاء الوفد ورفض أن يكون « يسوع » منتمياً إلى الطين، وهكذا وصل الجدل إلى طريق مسدود فـ لن ترضى عنكَ اليهودُ ولا النصارى حتّى تتّبعَ مِلَّتَهم (46) وعندما وصل الجدل ذروته هبط جبريل يحمل بلاغ السماء:
    ـ فمَن حاجَّكَ فيه مِن بعدِ ما جاءَك مِن العِلمِ فقُل تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونِساءَنا ونِساءَكم وأَنفُسَنا وأنفسكم ثمّ نَبْتَهِلْ فنجْعَلْ لعنةَ الله على الكاذبين (47).
    وفوجئ الوفد المسيحي بدعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله للمباهلة وتحكيم السماء، فأرجأوا الأمر إلى غد.
    وأشرقت الشمس وخرج النبيّ في موكب عجيب.. كان يحمل سِبطَه « الحُسَين » وقد أخذ بيد سبطه الآخر « الحسن »، وكانت فتاة نحيلة القوام تمشي خلف أبيها العظيم لم تكن سوى البتول « فاطمة »، وكان زوجها يمشي خلفها.
    وقف الأسقف مشدوهاً وهو يتأمّل وجوهاً مضيئة وفي فلاة تمتدّ بامتداد الأُفق.. جثا آخر الأنبياء في التاريخ، وجثا خلفه أهل بيته، والتفت النبيّ إليهم قائلاً:
    ـ إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا.
    تمتم الأسقف.
    ـ جثا واللهِ كما يجثو الأنبياء.
    وخاطب الأسقف النصارى ناصحاً:
    ـ إنّي لأرى وُجوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جَبَلاُ لأزاله! وهتف محذِّراً:
    ـ انظُروا إلى الشمس قد تغيّر لونها، والأُفق تنجع فيه السحب الداكنة.
    وتقدم الأسقف إلى سيدنا محمّد وخاطبه متودّداً:
    ـ يا أبا القاسم، إنّا لا نُباهلك، ولكن نصالحك.
    وهكذا انسحب الوفد المسيحيّ في آخر لحظة، وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد أن عاد الوفد إلى دياره
    ـ والذي نفسي بيده، إنّ العذاب تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لَمُسِخوا قِردةً وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً » (48).
    لقد كشفت السماء المدى الذي وصل إليه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من السموّ حتّى أصبح نَفْسَ النبيّ صلّى الله عليه وآله.
    وقد أكّد النبيّ صلّى الله عليه وآله نفسُه هذه الحقيقة في الحديث النبوّي الشريف؛ وهو يخاطب عليّاً عليه السّلام قائلاً: أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى، ولكنْ لا نبيّ بعدي.
    ومن يستكشف حياة هارون وعليّ عليهما السّلام سوف يجد نقاط لقاء عديدةً في حياة الرجُلَين، وأنّ عذابات عليّ هي امتداد لعذابات الأنبياء.

    مشاهد وآيات
    المشهد الأول: جلس العباس بن عبدالمطلب وطلحة بن شيبة يتفاخران.
    العباس: أُوتيتُ من الفضل ما لم يُؤتَ أحد.. سقاية الحاجّ.
    طلحة: وأنا أُوتيت عِمارةَ المسجد الحرام.
    ومرّ عليّ بن أبي طالب ليُذكّر بالقيم الجديدة:
    ـ وأنا أُوتيت على صغري ما لم تُؤتَيا..
    ـ وما الذي أُوتيت يا عليّ ؟!
    ـ ضربتُ خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما بالله ورسوله.
    نهض العباس غاضباً ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله:
    ــ أما ترى ما استقبلني به عليّ ؟!
    ـ أُدعُوا لي عليَّاً.
    وجاء عليّ:
    ـ يا رسول الله، أصْدَقْتُه الحقّ، فإن شاء فليغضب، وإن شاء فَلْيرضَ.
    ومرّت لحظات صمت، وتألقت حبّات عرق على جبين النبيّ صلّى الله عليه وآله.. لقد هبط جبريل يحمل آية:
    ـ أجعلتُم سِقايةَ الحاجّ وعِمارةَ المسجدِ الحرام كمَن آمن باللهِ واليومِ الآخِر وجاهدَ في سبيلِ اللهِ لا يَستوون عند الله (49).
    المشهد الثاني: في بيت فاطمة، وقد جلس عليّ وزوجه وجارية اسمها فضّة، وكان الحسنان مريضَين.
    وجاء سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله يعودهما ومعه صحابيان، قال أحدهما:
    ـ يا أبا الحسن، لو نذرتَ في ابنَيك نَذراً إن عافاهما الله.
    قال عليّ عليه السّلام:
    ـ أصوم ثلاثة أيام شكراً لله.
    قالت فاطمة:
    ـ وأنا كذلك.
    وقالت فضّة:
    ـ وأنا أيضاً.
    وقال الحسنان:
    ـ ونحن نصوم.
    وبعد أيام ألبس اللهُ المريضَين ثوب العافية، حان وقت الوفاء بالنَّذْر، فلقد نهض الحسنان من فراش المرض.. وعادت إلى وجهَيهما دماءُ العافية، والسماء تنتظر نذراً نذره الإنسان، نذراً يقدّمه إلى نفسه ليكون قريباً من عوالم مغمورة بالنور..
    لا شيء في منزل فاطمة.
    انطلق عليّ إلى شمعون رجل من خيبر؛ رجل شهد انهيار حصون مليئة بالسلاح.. بالذهب.. بالذكاء أمام رجل لا يملك سوى سيف وقلب تنطوي في حناياه النجوم. وها هو اليوم يأتي يطلب شيئاً عجيباً.. إنّه يطلب قرضاً ثلاثة أصواع من شعير.. الرجل الذي اقتلع باب « القموص » (50) وقهر خيبر... جاء يطلب حفنة من شعير.. وامرأته بنت محمّد.. تملك أرض « فَدَك ».
    تمتم شمعون وقد هزّته المفاجأة:
    ـ هذا هو الزُّهد الذي أَخبرنا به موسى بن عِمران في التوراة.
    طحنت فاطمة صاعاً.. الرحى تدور و « فضّة » فتاة تعيش في منزل فاطمة.. تجمع الدقيق.. صار الدقيق عجيناً.. ثمّ خمسة أقراص: لكلّ صائم قُرص شعير!
    النجم المهيب يهوي باتّجاه المغيب.. يُرسل أشعّة الوداع، يعلن نهاية يوم من حياة الإنسان والأرض.. الأُسرة الصائمة تتهيّأ للإفطار.. لقمة خبز تقيم أَود الجسد الآدميّ ليُكمل رحلته باتّجاه النور.
    هتف إنسانٌ جائع:
    ـ مسكين! أطعِموني أطعمكم الله.
    وحده الصائم في لحظة الافطار يُدرك آلام الجياع عندما تتلوى المعدة خاوية تبحث عن شيء تمضغه وإلاّ مضغت نفسها.
    قدّم الصائمون خبزَهم.. وأفطروا على الماء.. واستأنفوا رحلة الجوع.. الجوع زاد المسافر في ملكوت السماء.. حيث تِلال النور وبُحيرات تزخر بالنجوم.. الجوع يُلجم الشيطان القابع في الظلمات.. يسحقه فإذا هو خائر كثور محطّم القرون.
    ومرّ يوم آخر والصائمون في رحلة اكتشاف ينابيع الحبّ الأزليّ.. وكلّ شيء آيل إلى الزوال إلاّ الحبّ.. والحبّ نداء الله إلى النفوس البيضاء.
    ومرّ يتيم.. يا لوعة اليُتْم في ساعة الغروب.. الكائنات تعود إلى أوكارها، والطيور إلى أعشاشها، والأطفال إلى أحضان زاخرة بالدفء، وفي ساعة الغروب تتجمّع الدموع في عُيون اليتامى كسماوات مشحونة بالمطر.. يتجمّع البكاء في القلب.. والمرارة في النفس، فكيف إذا اجتمعت مع الجوع.. وهل تتحمّل نفوس الأطفال البرد والجوع!!
    نادى اليتيم في لحظة الغروب الحزين:
    ـ أطعموني.. ممّا أطعمكم الله.
    هناك في أعماق النفوس البيضاء كنوز من اللذّة، أين منها لذائذ البطن.. فكيف مع نفوس براها الجوع والنذر حتّى عادت شفّافة كالضياء، ساطعة كالنور..
    لبّى الصائمون نداء اليتيم.. فباتوا ليلتهم يطوون رحلة مضنية تكاد تمزّق الجسد وتُحيله إلى حطام.. حيث يشهد عالَمُ الإنسان اللانهائيّ انتصار الملائكة وهزيمة الشيطان.. إلى الأبد.
    السماء تراقب نفوساً في الأرض تطوي مسافات الجوع وفاءً بنذرها؛ وفي اليوم الثالث مرّ أسير ينشد لقمة خبز أو تُميرات.
    الأجساد ترتعش أمام أمواج الجوع.. العيون غائمة.. والوجود يغمره ضباب ودخان.. ورياحين النبوّات تهتزّ.. تذبل أو تكاد.. والنفوس تشتدّ نصوعاً والورود تضوّعاً..
    فاطمة تزداد نحولاً.. غارت عيناها.. وصوتها زاد وَهناً على وَهَن وهي قائمة تصلّي في المحراب..
    وفي منزل آخر الأنبياء هبط جبريل يحمل هدية السماء.. سورة الإنسان، وإنها:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    هَل أتى على الإنسان حِينٌ من الدهرِ لم يكن شيئاً مذكوراً. إنّا خَلَقنا الإنسانَ من نُطفةٍ أمشاجٍ نَبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً * إنّا هَدَيناه السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كفوراً * إنّا أعتَدْنا للكافرينَ سَلاسلَ وأغلالاً وسعيراً * إنّ الأبرارَ يشربونَ من كأسٍ كان مِزاجُها كافوراً * عَيناً يشربُ بها عِبادُ الله يُفجّرونها تفجيراً * يُوفُون بالنَّذرِ ويخافونَ يوماً كان شرُّهُ مُستطيراً * ويُطعِمونَ الطعامَ على حُبّهِ مِسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنّما نُطعِمُكم لِوَجْهِ الله لا نُريدُ منكم جَزاءً ولا شُكوراً * إنّا نخافُ مِن ربِّنا يوماً عَبوساً قَمطَريراً * فوَقَاهمُ اللهُ شرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُم نَضْرةً وسُروراً * وجَزاهُم بما صَبروا جنّةً وحريراً... إنّ هذا كان لكم جَزاءً وكان سعيُكم مشكوراً... .
    ورأت فاطمة في تلك الليلة ما لا عينٌ رأت، وسمعت ما لا أذن سمعت ولم يخطر على قلب بشر »(51).
    المشهد الثالث: الشمس تغمر مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله بالضوء، والرسول صلّى الله عيله وآله والذين آمنوا يُصلّون خلفه صفوفاً؛ الصمت يغمر المكان ما خلا تمتمات الصلاة.
    ولما انفتل النبيّ صلّى الله عليه وآله من الصلاة دخل أعرابيّ.. يحكي في هيئته عناء الصحراء وقسوتها، الثياب مُهلهَلة ممزّقة خرّقتها ريحُ السَّموم، والعينان غائرتان منطفئتان ذهبت ببريقهما مرارة الأيّام.
    لم يجد الأعرابي سوى اللجوء إلى رسول السماء.. إلى ظِلالٍ وارفة، واحة مُضمّخة بشذى جنّات الفردوس. وأطلق السائل صيحة استغاثة، فخلف جدران المسجد صِبية وبنات.. أجساد عارية تنشد الستر، وبطون خاوية تبحث عن رغيف الخبز.
    وظلّت نداءات الأعرابي دون جواب، ورمق الأعرابيّ السماء بعينَين غارقتَين في حزن مرير:
    ـ اللهمّ اشهَدْ أنّي سألتُ في مسجد رسول الله فلم يُعطِني أحد شيئاً.
    وفيما كان الأعرابي يهمّ بالانصراف رأى رجلاً يومى إليه.. خفّ إليه الأعرابي بلهفة، كان الرجل يصلّي، كان راكعاً لله ويده ممدودة، لم تكن الكفّ خالية ففي الخنصر خاتم فضّيّ.
    نزع الأعرابي الخاتم، وعادت كفّ الرجل خالية.
    ومضى الأعرابي فَرِحاً فيما ظلّ الرجل يصلّي لله. وتأثرّ النبيّ صلّى الله عليه وآله فرفع يديه إلى السماء قائلاً: اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: ربِّ اشْرَحْ لي صدري * ويَسِّر لي أمري * واحلُلْ عُقدة من لساني يفقهوا قَولي * واجعَلْ لي وزيراً من أهلي * هارونَ أخي * اشدُدْ به أَزْري * وأشرِكْه في أمري (52) فأنزلتَ عليه قرآناً ناطقاً: سَنَشُدّ عَضُدَك بأخيكَ ونَجعَلُ لكما سُلطاناً فلا يَصِلون إليكمُا بآياتِنا (53)، اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللهمّ اشرَحْ لي صدري، ويسِّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدُد به أزري.
    وعَرَجت الكلماتُ تطوي المسافاتِ وتخترق مداراتِ الزمن، وهبط جبريل..
    تفصّد جبين النبيّ صلّى الله عليه وآله عَرَقاً، تألقت فوق جبينه الأزهر حبّات العرق كقطرات الندى، وفاحت في فضاء المسجد عطور الفردوس وأفاق النبيّ صلّى الله عليه وآله، وانسابت كلمات السماء كنهر هادئ:
    ـ إنّما وليُّكمُ اللهُ ورسولُهُ والذين آمَنوا الذينَ يُقيمونَ الصلاةَ ويُؤتونَ الزكاةَ وهم راكعون * ومَن يتَوَلَّ اللهَ ورسولَهُ والذينَ آمنوا فإنّ حزبَ اللهِ هُمُ الغالبون (54).
    إنّ السماء ولا شكّ تأخذ بيد عليّ وترفعه عالياً، تمنحه ما منحت سيّد الخليقة محمّداً صلّى الله عليه وآله إلاّ النبوّة.
يعمل...
X