منتدى الوصي المرتضى (سلام الله عليه) أمير المؤمنين - وصي الرسول - سيد البلغاء - قائد الغر المحجلين - امام الانس والجان - أبو الحسن - أبو الحسنين - امام المتقين - عليه السلام
فاتّقُوا الله عبادَ الله , وبادروا آجالكم بأعمالكم , وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم , وتَرَحَّلُوا فقد جُدّ بكم , واستعدوا للموت فقد أظَلَّكُم , وكونوا
قوماً صِيح بهم فانتبهوا , وَعَلمُوا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا , فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً , ولم يترككم سدىً , ومابين أحدكم وبين الجنة
والنار إلا الموت أن يَنزِل به , وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة , وإن غائباً يحدوه الجديدان - الليل والنهار - لحِري بسرعة الأوبة
وإن قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة , فتزودوا من الدنيا ما تَحرزُون به أنفسكم غداً , فاتَّقى عبد ربه , نصح نفسه , وقدَّم توبته , وغلب
شهوته , فإن أجله مستور عنه , وآمله خادع له , والشيطان مُوكّل به , يزين له المعصية ليركبها , ويمنيه التوبة ليسوفها , إذا هجمت منيته عليه أغفل ما يكون
عنها , فيا لها حسرةً على كل ذي غفلة , أن يكون عُمُرُهُ عليه حجةً , وأن تؤدية أيامه إلى الشقوة , نسأل الله سبحانه : أن يجعلنا وإياكم ممّن لا تبطره نعمه , ولا
تقصر به عن طاعة ربه غاية , ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة
.....
شرح الخطبة
يستهل الإمام(عليه السلام) خطبته بتحذير الجميع من الدنيا والالتفات إلى سرعة زوالها والهدف من خلق الإنسان فيها، والاستغراق في الغاية التي ينبغي أن ينشدها في هذه الحياة.
فقد قال(عليه السلام): «فاتّقوا اللّه عباد اللّه» كل مالديكم من اللّه وقد أمطركم بوابل نعمه وآلائه فانتم عباده ولا يصح لكم الخروج على أوامره وعصيانه.
أما التأكيد على التقوى في هذه الخطبة وسائر الخطب مما لايحتاج إلى أدنى إيضاح كون التقوى تشكل اللبنة الأساس للمؤمن والعمل الصالح
الأمر الذي ورد التأكيد عليه كراراً في القرآن حتى عد الوسيلة للتفاضل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ)(3) وهى خير الزاد (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى)(4).
ثم قال(عليه السلام): «و بادروا آجالكم بأع مالكم»
وكأنّ السباق قد بلغ ذروته بين الإنسان والموت، فلو طبع حياته بالعمل الصالح فانّه سيصل غايته قبل أن يحل به الموت فيحول دون بلوغ تلك الغاية.
والواقع أن غاية الإنسان تتمثل بالسعادة والسمو والتكامل والقرب الإلهي; الاُمور التي يمكن للإنسان بلوغها إذا تحلى بالورع والتقوى والعمل الصالح قبل حلول أجله وانتهاء عمره
وإلاّ سيفاجئه الموت دون الظفر بغايته وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم: (وَأَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَل قَرِيب فَأَصَّـدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِـينَ)(5)
ثم اتبع ذلك بالقول: «و لن يؤخّر اللّه نفساً إذا جاء أجله» أي ليست هناك من استجابة لمثل هذه الطلبات هناك.
ثم قال(عليه السلام):«و ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم»
فالدنيا ومتاعها ونعمها إلى زوال وتبدل وعدم إستقرار، بينما تتصف نعم الآخرة بالدوام والخلود، فهل من عاقل يتردد في مثل هذه الصفقة وذلك بان يشتري ذلك المتاع الخالد بهذا المتاع الفاني؟
ابتاعوا من مادة ابتياع بمعنى الشراء، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في عدة آيات، منها
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُـوَ الفَوْزُ العَظِـيمُ)(6)، فهذه الآية ـ التي شرحت المقايضة المعنوية والإلهية للناس مع اللّه باروع بيان وضمن عشرة تأكيدات ـ
إنّما تشمل كافة ميادين الحياة البشرية وإن وردت بشأن الجهاد; لأنّ الجهاد جزء من مفردات هذه الحياة، وقد جاء شبيه هذا المعنى في الآية العاشرة من سورة الصف
فهل هناك أعظم وأربح من هذه التجارة التي يمثل طرف الإنسان فيها اللّه سبحانه الكريم الغفور الرحيم من جانب، ومن جانب آخر يرضى اللّه بهذه المعاملة لأن يبادل الإنسان بهذا المتاع الفاني
والزائل الذي يفقده الإنسان شاء أم أبى بذلك المتاع الخالد الذي يأبى الزوال والفناء؟! ثم قال(عليه السلام):«و ترحّلو(7)فقد جدّ(8) بكم»
في إشارة إلى أنّ الرحيل من الدنيا ليس بالهزل ولا السهل اليسير، بل أمر جدي بالغ الصعوبة فلسان حال كافة أعضائنا الباطنية والظاهرية هو الرحيل، ويعاضد ذلك إستزاف القوى الجسمانية
إلى جانب الآفات والأحداث والبلاءات وأنواع الأمراض التي تدفع بالإنسان إلى الرحيل.
ثم أمر الإمام(عليه السلام) واستناد لما مر بالتجهز والتأهب فقال: «واستعدّوا للموت فقد أظلّكم»
وبالطبع ليس المراد بالتأهب والاستعداد للموت أن يكف الإنسان عن السعي والعمل ويقاطع الدنيا ويقبع في زاوية من داره ينتظر الموت
بل المراد الاكثار من الأعمال الصالحة وتهذيب النفس وتزكيتها والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق والمسارعة في «الباقيات الصالحات»، وبعبارة اُخرى التزود للدار الآخرة والقدوم عليها بما ينجي الإنسان من عقباتها.
أمّا العبارة «فقد أظلّكم» فهى تفيد قرب الموت; لأنّ الأشياء القريبة فقط هى التي تظل الإنسان.
والواقع ليست هنالك من مسافة بين الإنسان والموت، فقد يستسلم للموت أقوى الأقوياء إثر حادثة بسيطة تحيل كيانه عظاماً ولحماً خاوياً، كما قد يموت رغم عنفوان شبابه بفعل سكتة قلبية
بل قد تخنقه اللقمة الصغيرة فتميته، وزبدة القول لولا الغفلة التي طغت على الناس بتناسي الموت لما استطاع البشر ممارسة الحياة بهدوء وسكينة ولو للحظات.
ثم قال(عليه السلام):«و كونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلو».(9)
ولعل المراد بمن يصيح في الناس ويوقظهم من نوم الغفلة، هو ذلك الملك الذي أشار إليه الإمام الباقر(عليه السلام) مروياً عن أميرالمؤمنين(عليه السلام):
وأخيرا إختتم كلامه الذي أشار فيه إلى الدنيا وتقلب أحوالها وضرورة الاستعداد فيها إلى سفر الآخرة بعبارة أوردها بمنزلة الدليل والبرهان على ما قال: «فإنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدًى»(12)
والعبارة في الواقع إشارة إلى برهان المعاد المعروف (برهان الحكمة) الذي يصرح بأنّ هدف خلق الإنسان إذا إقتصر على هذه الحياة القصيرة وما يكتنفها من أيام المطعم والملبس والنوم فانما هو العبث بعينه
فلا يمكن أن يكون هذا هو الهدف من هذا الخلق العظيم وهذه السموات والأرضيين وما يكتنفهما من العجائب والغرائب وهذه البنية العجيبة لخلقة الإنسان بهذا التعقيد والدقة والنظام
فجميع القرائن الموجودة في عالم خلقة الإنسان والأكوان تشير إلى عظم الهدف الذي قام من أجله الخلق، وهو الهدف العظيم الذي خلق الحكيم من أجله الإنسان والعالم
والذي يكمن في تكامل الإنسان وقربه من اللّه ونيله سعادة الدارين.